عن لبنان ومرقد العنزة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

“نيال اللي اله مرقد عنزة بجبل لبنان”. القول الذي اختيرت كلمتان منه كلافتة لهذه الزاوية هو مثل شعبي لبناني أعاد اللبنانيون تصحيفه بعد زوال المتصرفيتين وحذفوا منه عبارة ” جبل”. وتختصر قصة هذا المثل الشعبي قصة الفساد والمحسوبية والزبائنية العتيقة في لبنان، حيث إن “مرقد العنزة” المتوسطي هذا الذي تغنى به الشعراء والأدباء لم يكن إلا أذن جرة سلخت من محيطها العربي لتركّب على شاكلة القبائل الطائفية التي تنتشر في لبنان.

مرقد العنزة هذا تدير شؤونه “دولة عميقة” منذ ما قبل المتصرفيتين، وتتناسل هذه “الدولة العميقة” كل جيل أو جيلين بشكل ولون؛ فمرة تخرج على شاكلة إقطاع أصيل وأخرى على شكل إقطاع سياسي وثالثة على شكل كارتيلات ورابعة على شكل تحالف هحين بين كل ما سلف مضافًا إليه منظمات المجتمع المدني وتيارات عنصرية تتبع لهذه الدولة أو تلك.

وحتى لا نسترسل أكثر ونبتعد عن لب الموضوع تعتبر “بروتوكولات حكماء فينيقيا” القانون الأساسي الذي يحكم البلد بالخفاء ويمنع التغيير وأي إمكانية أو فرصة لتحول هذا البلد من مزرعة أو مزارع إلى دولة حقيقية بين الأمم.

هذه الدولة اللبنانية التي كان عيبها الاستراتيجي الأكبر والذي يعيق استقلالها الحقيقي تلك الدعاية التافهة التي تقول إن ” قوة لبنان تكمن في ضعفه” والتي أطلقتها العصابة التي سلطها المستعمر الفرنسي على الناس بعنوان الاستقلال.

ولولا هذا العيب الذي يشكل مع عيوب بنيوية أخرى ضعف مناعة البلد لكان يمكن له أن يظهر بنصاعته وبإمكاناته الكامنة والهائلة منذ أطلق الامام المغيب السيد موسى الصدر مشروعه الناجح الذي أنجز عام 2000 تحريرًا عزيزًا ثم أضاعه المحرتقون على المقاومة، ولو كانوا اعتمدوه لجعلوا لبنان أقوى دولة في الشرق، حيث إن سيف الردع الذي أذل الاحتلال كان يمكنه أن يحمي منظومة ديبلوماسية اقتصادية اجتماعية وازنة وفائقة القدرة مدعومة بطاقة بشرية وعقليات علمية مميزة يمكن أن تفرض نفسها على العالم بمجموعة قواها الذاتية التي أسلفنا ذكرها. إلا أن لبنان هو لبنان ولا داعي للشرح أكثر.

نعود إلى قصة المثل الذي يتحدث عن مرقد العنزة كما رواها في مقابلة تلفزيونية الراحل سلام الراسي صاحب المؤلفات التي حققت وبحثت في الأمثال الشعبية اللبنانية فصارت بحق الأرشيف المحكي لتاريخ لبنان المعاصر.

يروي الراحل الراسي عن المرحوم محمد جميل بيهم الحكاية فيقول: عندما تولى رستم باشا متصرفية جبل لبنان سنة 1873 كانت إحدى الشركات الفرنسية تقوم بتنفيذ مشروع جر مياه نهر الكلب الى مدينة بيروت، التي كانت تقع خارج حدود متصرفية جبل لبنان، وكان لا بد من أن تمر قساطل المياه في أراضي المتصرفية قبل وصولها الى حدود مدينة بيروت.

ومما يستحق الذكر أن رستم باشا حرض أصحاب الأراضي من أبناء متصرفيته حيث تمر قساطل المياه على عرقلة أعمال الشركة، فمنعوا العمل في أملاكهم الى أن يتم تخمين الأضرار التي ستلحق بممتلكاتهم ودفع كامل حقوقهم (*).

وتألفت لهذه الغاية لجنة تفرعت عنها عدة لجان من أبناء المتصرفية، وهكذا بين أخذ ورد تأخر إنجاز المشروع أربع عشرة سنة، وهو ما أثار حفيظة أهالي بيروت على رستم باشا.

في هذه الأثناء استملك رستم باشا قطعة أرض في متصرفيته تقع فوق نهر بيروت، فجعلها جنينة خاصة غرس فيها عدة أنواع من الأشجار، وصار يقيم فيها مجالس لهوه، فصار اسمها جنينة الباشا، كما بنى قربها جسرًا هو جسر الباشا الذي سميت تلك المحلة باسمه الى يومنا هذا.

ثم تبين أن عدة زرائب للماعز كانت موجودة حيث أنشأ رستم باشا جنينته، أو بالقرب منها، وهي مشاتٍ يلجأ اليها أصحاب الماعز في فصل الشتاء، فألغيت بحكم موقعها قرب جنينة الباشا. وحدث أن معازًا من بيروت كان يملك إحدى تلك الزرائب، ثم انقطع عنها بعد فصل متصرفية جبل لبنان عن ولاية بيروت، وعندما سمع بخبر جنينة الباشا فطن الى زريبته التي انقطع عنها عدة سنوات فصار يتحدث عن زريبته في مجالسه حتى وصل خبرها الى الحاج حسين بيهم عضو مجلس النواب العثماني وأحد أشهر رجال السياسة في بيروت، فاستدعى الراعي إليه وعندما تيقن من صحة كلامه أرسل الى رستم باشا كتابًا مضمونه:
“فلان من رعيتنا، يرجى إعادة الزريبة الى حالتها لأن الراعي المذكور سيتوجه بقطيعه الى زريبته في وقت قريب”، ففطن رستم باشا الى خطورة القضية وعرف أنها “مش رمانه، بل قلوب مليانه”، واضطر لشراء مكان الزريبة من الراعي بأضعاف ثمنها الحقيقي.

انتشرت القصة وسعى أصحاب الحقوق من “المعازين” إلى تحصيل ما حصّله زميلهم الراعي الذكي، فعلق أحد الطرفاء على الحادثة بالقول: “نيال اللي إلو مرقد عنزه بجبل لبنان”، فتداولها الناس فصارت مثلًا.

(*) تنويه: نفس العمل قام به حزب الكتائب أحد أقطاب المارونية السياسية في السنوات الأخيرة في منطقة قريبة من حادثة رستم باشا عندما قام بتحريض الأهالي على الأوتوستراد العربي الذي يربط بيروت بدمشق، وعلى خط التوتر العالي الذي يربط جبل لبنان بالبقاع.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد