يدخل الأقليم في مرحلة تاريخية بعد الحديث عن انسحاب أميركي أو إعادة تموضع كبرى في المنطقة، وذلك بفعل تبدل الأولويات الاقتصادية والسياسية بالنسبة للولايات المتحدة، وعزمها التوجه شرقًا لمعالجة الأخطار المحدقة القادمة من بحر الصين.
بناءً عليه كان لا بد من تأمين الذراع الطويلة للغرب في منطقتنا وخلق البيئة الحاضنة التي تستطيع تعويض الفراغ الذي ستتركه إعادة التموضع الأميركي، وتأمين الدافع السياسي لاستمرار كيان الاحتلال.
في العقود السابقة كانت السعودية تلعب دور الضابط للإيقاع السياسي بالتعاون مع دول الجوار، وذلك مرده للثقل السعودي المالي والمرجعية الإسلامية التي كانت تحظى بها المملكة لتلعب دورًا كبيرًا في تأمين المصالح الأميركية من خلف الستار وبشكل سلس إلى حد بعيد.
بعد مغامرات محمد بن سلمان ولي العهد السعودي الأخيرة، وحروبه “العبثية”، وخسائره المالية الكبرى تبدد الدور السعودي بشكل كبير، حيث أوجد ابن سلمان أعداء للمملكة من داخل بيتها ومن دول الجوار، فضلًا عن تعزيز صراعها المبدئي مع تركيا، وظهور تنافس قوي قد يصل إلى حد الحرب غير المعلنة مع جارتها الإمارات العربية المتحدة. تضاف إلى المشهد السياسي تغيرات جيوسياسية كبيرة تتمثل بصعود محور إيران وفصائل المقاومة المتنامي منذ استعار الحرب الكونية على سوريا وصولًا إلى عملية سيف القدس في الأراضي المحتلة وما بعدها، حيث باتت القوة المتاخمة لحدود كيان الاحتلال غير قابلة للتطويق والسيطرة، ما رفع من حدة المواجهة والتهديد الذي يصفه مسؤولو الكيان بالوجودي. وذلك يتطلب العمل على خطة بديلة تعيد للكيان استقراره السياسي والأمني وتعوض الغياب العسكري الأميركي بتحقيق نظرية “إسرائيل العظمى” التي نظّر لها رئيس حكومة الاحتلال الأسبق أرئيل شارون.
صفقة القرن، العملية التي باشر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تنفيذ بنودها بنجاح جزئي تقضي بجعل كيان الاحتلال كيانًا ضروريًا لأنظمة الخليج العربي وأنظمة كامب دايفد ووادي عربة وغيرها، بحيث يصبح الكيان ممرًا اقتصاديًا إلزاميًا يجعل منه حاجة لا يمكن تخطيها، وبالتالي تثبيت دعائمه لأطول فترة ممكنة في المنطقة. الخطة هذه تحتاج إلى دعائم ومقومات إلزامية لبقائها على قيد الحياة، ولعل أبرزها تطبيع علاقات الكيان مع دول “الاعتدال العربي” كما يصفها الغرب، والضغط لتطبيعها مع دول “محور المقاومة” على حد سواء.
إمارات ابن زايد تلعب الدور الأساسي في المخطط أعلاه. يعمل محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي في الآونة الأخيرة على لعب دور محوري على وجهتين أساسيتين: تعويض غياب الدور السعودي في المنطقة ومحاولة جعل الإمارات دولة جامعة، مستفيدًا من العلاقات الجيدة مع إيران، إحدى أقوى دول المنطقة، واللاعب الأبرز على الساحة الآن، فضلًا عن علاقته الممتازة بالإدارة الأميركية الحالية التي عززها بإعلان تطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال وفتح البلاد على مصراعيها أمام “الإسرائيليين” على مختلف مشاربهم. يضاف إلى ذلك الانفتاح الإماراتي على سوريا وتركيا في محاولة لجمع الأضداد وتعزيز الدور المحوري للإمارات مستفيدًا من القوة المالية والاقتصادية والعلاقات السياسية والدبلوماسية الواسعة.
لذا تُعتبر الإمارات العربية عرابة مشروع صفقة القرن واتفاقية “أبراهام” التي من شأنها تعزيز وجود الكيان والعمل على طمس الخلافات والصراعات لا سيما العقائدية معه، في مسار يجعل من “السلام” مطلبًا ومخرجًا لكثير من الأزمات التي تعاني منها شعوب المنطقة.
الولايات المتحدة الأميركية تعتبر أن الدور الإماراتي والخليجي عمومًا قادر على تعويض الفراغ الجزئي الذي ستحدثه إعادة التموضع الأميركية في المنطقة، وإن لم تكن إعادة التموضع هذه انسحابًا كما يروج البعض مخطئًا.
لكن هل يعتبر كيان الاحتلال ذلك شرطًا أساسيًا وكافيًا لتأمين أمنه واستقراره؟ بمعزل عن السرديات والآمال، فإن الكيان، وعلى لسان رئيس حكومة الاحتلال السابق بنيامين نتنياهو، قال فور توقيع اتفاقية “أبراهام” بين الإمارات والبحرين وكيان الاحتلال: “هذا الاختراق الدبلوماسي التاريخي سيعزز السلام في منطقة الشرق الأوسط، ويشهد على الدبلوماسية الجريئة والرؤية للقادة الثلاثة وشجاعة الإمارات العربية المتحدة و”إسرائيل”، لرسم مسار جديد من شأنه أن يطلق الإمكانات العظيمة في المنطقة”. بالتالي فإن الاحتلال يعتبر أن مسار التطبيع العربي معه يحقق له الحد الكافي من الاستقرار السياسي والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع عدد كبير من الدول العربية. لكن هل يجنبه التهديد العسكري الذي يحيط به على أكثر من جبهة؟
الأداء “الإسرائيلي” والتصريحات والتهديدات الدائمة التي ترافق عملية التفاوض بين إيران ودول الـ 4+1، تؤكد أن الخوف “الإسرائيلي” من التهديد العسكري المحيط به لا يلغيه مسار التطبيع العربي. ومرد ذلك إلى امتلاك إيران أولًا القدرة والمعرفة النووية التي تجعلها قادرة على الاستغناء عن الغرب بشكل كبير، وبالتالي تحقيق الاستقلال السياسي والاستقرار الداخلي إلى حد بعيد، وثانيًا دعم الجمهورية الإسلامية لفصائل المقاومة في المنطقة وتمكينها على مختلف أشكالها من المعرفة والقدرة العسكرية والأمن الاجتماعي، وعلى تطوير القدرات وتحقيق التفوق في بعض المجالات، وهنا يكمن الرعب “الإسرائيلي”.
بالمحصلة فإن مسار التطبيع العربي مع كيان الاحتلال، قد يكون حقق للكيان تقدمًا ملحوظًا وتطورًا في تحقيق الاستقرار السياسي والدبلوماسي، لكنه لم يستطيع لغاية الآن تحقيق الأمن وهو مقتل محتم بالنسبة للصهاينة حسب اعتقادهم.
فهل يستمر الضغط على الدول الممانعة لمسار التطبيع لجرها إلى مقتل سياسي يرغمها على القبول ببعض الشروط “الإسرائيلية”؟ أم أن للميدان في المستقبل رأيًا مخالفًا يستكمل فيه محور المقاومة تفوقه الملحوظ بخواتيم تنتظرها الأجيال منذ عقود؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.