من الطبيعي أن تكون هناك صناعات علمية متعددة تنفع الإنسان وتطور المجتمعات البشرية. ولطالما كان العلم والعلماء منارة حضارية يستنير بها الإنسان في هذه الحياة، ويسير على ضوئها في مسالك حياته الفردية والاجتماعية.
ولكن من الغريب حقًّا أن نكتشف أنه يوجد هناك من يسعى لتأسيس صناعة أخرى لتأسيس الجهل وترويجه بين الناس بأسلوب علمي ممنهج، ويسميه علمًا وصناعة! وهذه هي صناعة الجهل (AGNOTOLOY). وقد عرف هذا العلم بأنه “العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية رصينة”.
إذًا، فالجهل ليس انعدام المعرفة فقط، بل هو منتج يتم صنعه ونشره لأغراض معينة، غالبًا ما تكون سياسية أو تجارية أو أيديولوجية دينية.
إنّ صنّاع الجهل هم ثالوث الشر المتشكل من النظام الرأسمالي الساعي للهيمنة الاقتصادية على الشعوب، والنظام السياسي الاستبدادي الساعي للتسلط السياسي، والاتجاه الديني المتشدد بمؤسساته الدينية الانتهازية الذي يطمح إلى تحقيق أغراضه الأيديولوجية المتطرفة والمتخلفة على الشعوب المستضعفة.
وقد حققت هذه الاتجاهات الثلاثة نجاحًا كبيرًا في تسخير الشعوب لمصالحها السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. وفي الواقع هم مع تعدد أغراضهم، فإنهم يعتمدون نفس السياسات التجهيلية للوصول إلى أغراضهم، وهي الإلهاء والتضليل والتسطيح والتشكيك والتهديد.
وفي الحقيقة يمكن إرجاع كل هذه السياسات إلى أسلوبين اثنين، وهما نشر المعلومات الخاطئة، ومنع الناس من تحصيل المعارف والمعلومات الصحيحة، بحيث تتم السيطرة الكاملة على أذهانهم وأفكارهم وتوجيه رغباتهم، وبالتالي يتم التحكم بتصرفاتهم وتشكيل نمط حياتهم بالنحو المطلوب المؤدي إلى تحقيق طموحاتهم غير المشروعة.
سياسة الإلهاء السياسي الرأسمالي، والمتمثلة في الإفقار والتخويف والإشغال، هي من أساليب المنع حيث تهدف إلى منع الناس من التفكيرالمستقل في فلسفة وجودهم في الحياة، وإعادة حساباتهم وترتيب حياتهم من جديد بمنأى عن منهج ورؤية النظام الحاكم والقوى السلطوية، وهو ما يخشاه بشدة الناهب الدولي.
وسياسة الإفقار إنما تتم عن طريق حصر الثروة الاقتصادية في أيدي فئة قليلة من العوائل الرأسمالية بالتنسيق مع الأنظمة السياسية، وهي سياسة، بالإضافة إلى هدفها إضعاف الشعوب وتعلقها المستمر بالنظام الحاكم والقوة الرأسمالية، تهدف في الأساس إلى إلهاء الشعوب بتحصيل لقمة الخبز ولوازم الحياة الضرورية، بحيث لا يبقى لديهم أي وقت للتفكير، حيث تمثل هذه الأمور الحاجة الأولى للحياة الإنسانية داخل المجتمع البشري.
أما سياسة التخويف فتكون بإثارة القلاقل والصراعات الداخلية والحروب الخارجية، بحيث يفقد المواطن حالة الأمن والاستقرار الاجتماعي، والتي تمثل المرتبة الثانية من الاحتياجات الإنسانية الضرورية. ومع فقدان الأمن الغذائي والاجتماعي فلا معنى لأن يفكر الإنسان في فلسفة حياته ليعيد حساباته. وإذا وجد بعض الناس الوقت للتفكير فعندها يسعى النظام السياسي الرأسمالي لاعتماد سياسته الإلهائية الثالثة بإشغال الناس بشتى أنواع الرياضات والفنون والبرمجيات السخيفة التي تستهلك كل أوقات فراغهم وعطلاتهم، بحيث لا يدع لهم أدنى فرصة للتفكير الإنساني.
وقد وصلت سياسة الإشغال إلى أوجها في عصرنا الحالي مع دخولنا في عصر العولمة الذي ظهر وتحقق عن طريق الفضائيات والإنترنت والأندرويد ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، بحيث أصبح الناس كلهم مستغرقين في حياتهم الحسية والخيالية، ولا يجدون أدنى فرصة للعوده إلى عقولهم وضمائرهم الإنسانية.
وتعتمد صناعة الجهل على عدة قنوات مختلفة تصب كلها في اتجاه واحد وهو تعطيل العقول وحرمان الناس من التفكير المنطقي المستقل، وبالتالي تضليلهم، ومنعهم من رؤية الحقيقة كما هي في الواقع.
وهذه القنوات يمكن إرجاعها إلى أربعة أساليب كلية استراتيجية، وهي الإلهاء، والتعقيد، والتشكيك، والتخويف.
أما التضليل الإعلامي فيهدف في الحقيقة إلى تعطيل وتنويم العقل الواعي الذي هو بمثابة الحارس الأمين للوعي عند الإنسان الذي يحلل ويفلتر المعلومات الداخلة إلى ذهنه، وعندما يُغيّب هذا العقل يصبح وعي الإنسان مستباحًا لزرع أي مفاهيم أو أفكار في عقله الباطن، لتتحكم بعد ذلك في مواقفه وسلوكياته وتصرفاته اليومية بالنحو الذي تريده الأنظمة السياسية والشركات الرأسمالية، وهو ما نسميه بالإعلام الموجه الذي يسعى للتأثير في النخب الفكرية المثقفة والرأي العام للشعوب من أجل دفعها للسير في الاتجاه المطلوب لهذه الأنظمة والشركات الرأسمالية لتحقيق أطماعها غير المشروعة.
ومن أشكال التضليل الإعلامي المشهورة برامج التنجيم ونشر الأكاذيب والأخبار المفبركة في صور موثقة وقوالب فنية مؤثرة ومحركة للخيال والعواطف، والسعي لإخفاء الحقائق أو تشويهها، معتمدين في ذلك على أحدث النظريات في علم النفس والاجتماع، والتي يهيئها لهم الكثير من العلماء والأخصائيين الذين باعوا شرفهم المهني وضميرهم الإنساني.
ومن أبرز مظاهر التضليل وصناعة الجهل تسطيح مفهوم الثقافة واختزالها في بعض الفنون الهابطة، كالتي نشاهدها في أكثر المهرجانات والمسابقات الثقافية التي تقيمها عادة وزارة الثقافة أو المؤسسات المرتبطة بها، حيث لا يجد المشاهد فيها إلا الغناء والرقص والتمثيل المبتذل، وكأن الثقافة الإنسانية منحصرة في هذه الفنون السخيفة، وعاجزة عن إنتاج اي فكر عقلاني هادف، أو قيم إنسانية سامية وبنّاءة، مع أنّ ثقافة كل مجتمع تمثل هويته وأصالته الإنسانية، التي ينتمي إليها ويفتخر بها، فبدلًا من أن تسعى هذا الأنظمة السياسية البالية لتطوير ثقافة مجتمعها، والارتقاء بها نحو آفاق الإبداع والخلاقية، نجدها تنحدر بها إلى مستنقعات الابتذال والعبثية.
ولكن من الواضح أنّ الهدف ليس مجرد التسلية وإتلاف الوقت، وإنما تسفيه العقول وتغييب الضمير الإنساني، لصناعة عناصر بشرية تافهة وغير مبالية، لتصبح لقمة سائغة لمؤامرات قوى الشر العالمي.
وأما تسطيح النظام التعليمي الأكاديمي، بإقصاء العلوم العقلية الفلسفية الحقيقة، وإعلان انتهاء الصلاحية العلمية للمنطق العقلي الإنساني، وموت الفلسفة الميتافيزيقية وتاريخانيتها، واعتماد المنهج الحسي كمحور وحيد في بناء النظام التعليمي في جميع مراحله الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية، فليس مآله إلا تجهيل طلاب العلم والمعرفة، وتضعيف عقولهم، وتغييب وعيهم الإنساني، وإعدادهم ليكونوا مجرد أدوات تنفيذية في أيدي الأنظمة السياسية الانتهازية، والماكينة الرأسمالية العملاقة والمتوغلة.
ونحن نشاهد بأعيننا كيف أضحت مراكز البحث العلمي والتقني أسيرة في أيدي الأنظمة السياسية الفاسدة والشركات الرأسمالية الجشعة التي لا يهمها إلا تحقيق مصالحها الشخصية والفئوية اللامشروعة، وأصبح أغلب العلماء والنخب الفكرية مجرد أيقونة على سطح مكتب هذه المؤسسات الانتهازية التي تقوم باستغلالهم وتوجيههم على خلاف المصالح الإنسانية العليا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.