ناصر علي فقيه* – خاص الناشر |
في يوم اللغة العربية، ارتأى بعضٌ من ناشطي الهدم، ومنتسبي الإنجيؤوز، أن ينالوا من اللغة، لا لعلة فيها إلا لكونها إحدى القلاع الصامدة في وجه عتاة التغريب والليبرالية، حتى كأن الأمر تطبيق لكلمة سر دُبرت في غرفة سوداء.
تُعرّف اللغة على أنها “نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة من أدوات المعرفة، وهي أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع”. إذًا، ترتبط اللغة بالمجتمع، بدرجة أو بأخرى، وهي واحدة من علامات التماسك المجتمعي.
ربما لا يريد من شن هجومه على اللغة العربية أن يكون هذا المجتمع متماسكًا. هي أحد أهدافه، أليس الهدم والخراب سلاحًا وهدفًا بالوقت نفسه، لمن حمل شعار “فلتكن خرابًا” و”الهدم” بزعم البناء من جديد؟!
وكما بدا فإن اللغة العربية الصامدة كواحدة من أكثر اللغات المقاوِمة، فعلًا وقولًا، في مواجهة الغزوات الثقافية المتراكمة، باتت في عين العاصفة الآن. لماذا؟ لعل في الخفايا أن هذه اللغة تعيد تذكير الناطقين بها بهويتهم وبمن هم واقعًا، وهي ارتبطت بشكل أو بآخر بالدفاع عن الوطن. أليست الجزائر شاهدًا على معركة اللغة العربية ضد المستعمر الفرنسي؟ ألم يكن جزءٌ من الصراع على الهوية في شمال أفريقيا مع المستعمرين يتخذ اللغة خط دفاع أول في وجه الغزاة؟
يتحفنا البعض في “درجه” بالحديث عن ضرورة “طرد” النحو وقواعده من رؤوسنا.، لماذا؟ لأنه لا “يعشق” امتناع العربية بتفوقٍ على نظيراتها، ويزعم فيما يزعم أن “الانقراض” تهديد يواجه اللغة، هذه اللغة التي اندمجت فيها ممالك الحكم وفرضت نفسها في القصور المملوكية والسلجوقية والعثمانية، إلى أن أتى المستعمر الغربي محاولًا تدميرها، وعجز. ألا يعرف هذا البعض أن العربية الولاّدة، يقبِل عليها العالم من جديد، وما تزال تدهشه، حاضرًا، في ثقافاته وعلومه المتنوعة حتى هذه اللحظة؟
ولعل هذا البعض الذي لم يتوقف عن الدعوة إلى تفكيك المجتمع، تسهيلًا لاستعباده من الخارج -شركات أو أنظمة- وتحويله إلى أفراد هائمين كلٌّ في اتجاه، بدعوى الحرية، قد انتقل إلى قصف اللغة، من منصته الافتراضية، كواحدة من تجليات هوية هذا المجتمع الموحدة، وهو في استهدافه العربية يحرض على “تحريرها من قيود المقدس”، الاسم الحركي للقواعد والنحو، ربطًا بعمق هذه اللغة وما تحتويه من تثبيت لجذور المجتمع المتمسك بها في وجه رياح العولمة بشكلها السلبي، والفردية بصورتها العبثية.
ولطالما التصق الحرص على اللغة وثوابتها، بالكفاح من أجل فلسطين وعروبتها. وتاريخ الأدب العربي الحديث حافلٌ بمناضلين، كانوا روائيين وكتابًا، حرصوا على العربية نطقًا وكتابة، حتى وإن ضمّنوا كتاباتهم لهجات عامية، من الشهيد غسان كنفاني إلى الراحل سماح إدريس، فلماذا يطلق البعض النار على لغة يحبها ويتمسك بها أهل فلسطين، وهي أحد وجوه أصالتهم أمام ثقافة مستجدة بفعل وعد بلفور؟ ولماذا يريد هذا البعض أن يحاكم “عظمة” العربية في مشهد لما تشهده اللغة العبرية؟
والأخطر من ذلك أن اللغة العربية حافظت على وجودها المدوي والقوي، بالارتباط عضويًا بالقرآن الكريم. أيراد أن يكون تدمير اللغة مفتاحًا، أيضًا، لتدمير الدين الذي حافظ على جذوة الجهاد وأثار الحمية في حروب التحرير خلال القرن الماضي وحتى الآن، من الهند إلى جنوب أفريقيا، ومن اندونيسيا إلى المغرب؟ هي حقيقة لا يمكن نكرانها، وإن أثخنت سهام التشويه جراحًا بهذا الدين. فهل هي حرب على الهوية، إن كانت قومية أو دينية، من بوابة اللغة؟
*باحث لبناني
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
[…] رابط الخبر ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي […]