لبنان بين مومياءات الحركة السياسية وشروط التحول التاريخية

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

مرة جديدة نستذكر مقولة الجنرال ديغول: “قبل البحث في السياسة انظر الى الخارطة أولًا”.
يختلط في أذهان النخب الفرق بين السياسة كموقف يومي مرحلي، وبين النظرية التي ترسم الأهداف العليا الاستراتيجية.

الشعارات اليومية والمواقف لا تتحدد بناء على الأمزجة والرغبات، ولا حتى تحت ضغط التوترات السياسية والاجتماعية.

إن النظر في المواقف السياسية في كل لحظة يخضع لجملة من الاعتبارات، وفي طليعتها موازين القوى وطبيعة التشكيلات السياسية والاجتماعية، والظروف المحيطة بها وطبيعة ميولها ومدى تأثيرها وانعكاساتها على الاستقرار العام والتحديات التي تواجهها.

هذه المقدمة العامة تمهيد للحديث عن مقاربة الأزمة التي يتخبط فيها الكيان اللبناني، والتي بجزء كبير منها انعكاس لواقع منطقتنا والصراع فيها وعليها، والتي تتداخل بكل تفاصيلها لما لها من آثار على مجمل حركة الصراع في المنطقة، وحيث يحتل موقع لبنان الجيوسياسي والذي تتشكل فيه قوة رائدة لها أثرها الذي يتجاوز حدود الكيان، من دون إغفال واقع الكيان نفسه وطبيعة القوى السياسية الاجتماعية المكونة له، والتي بدورها تملك على المستويين الرسمي والشعبي قوة لا يمكن تجاهل تأثيرها، وهي تتدرج في حجم هذا التأثير لأسباب تاريخية وارتباطات مصلحية وأيديولوجية تصب جميعها في تكبيل الواقع اللبناني وتمنع تحديد المصلحة “الوطنية” الجامعة حتى في مواجهة التحديات المؤلمة في تأمين مقومات العيش.

إن الكيانيين اللبنانيين يمثلون القوة الشعبية والسياسية الأكبر في حدود الكيان، ولو أن اختلافاتها السياسية وتناحرها على تقاسم المكتسبات والمغانم يشتتها ولا يجعلها قوة موحدة، رغم أنها من طبيعة واحدة، وتشكلت أطرافها في أزمنة مختلفة واعتادت العيش من خلال ريوع تأتي من الخارج وقسم من الاستحواذ الداخلي على السوق وبعض الإنتاج الزراعي.

يضاف إلى ذلك خاصية للبنان الكيان، يختلف فيها عن باقي الكيانات العربية، وهي أن البنى الاجتماعية المكونة له تعتمد في أساسيات وجودها وعيشها على موارد تأتيها من الخارج ولا تشكل مؤسسات “الدولة” المورد الوحيد لها، بل هذه المؤسسات تشكل المشترك العام بين المكونات يتحدد نفوذ وحجم تأثير كل طرف فيها بحسب ما يحظى به من رعاية خارجية ومدى قدرته على تلبية متطلباتها.

من هنا كانت السياسة العامة لـ”الدولة” -ولم يزل- ترسم بلغة ملتبسة حمالة أوجه ترضي كل الأطراف من دون أن يشكل أي موقف سياسي وجهة واضحة ومحددة، وينسحب ذلك على “الدستور والقوانين”. وتبقى الروابط الخاصة بكل مكون سياسي اجتماعي هي الأعلى من الرابط المشترك العام، ليس بسب الرؤى والمواقف النابعة من أيديولوجية معينة إنما بسبب كانت دائمًا ولا تزال نسبيًا تكتسبه من روابطها والتي تمثل أسباب العيش الأساسية لها من المخصصات التي تصلها في مجالات التعليم والتقديمات والجمعيات الرعوية فضلًا عن مكاسب الاكليروس والمفتين، وهي مكاسب أعظم مما تحققه عبر مؤسسات “الدولة”.

رغم شح الموارد عند بعضها وانقطاعها لدى البعض الآخر وحلول تشكيلات جديدة محل القديمة (المجتمع المدني) والأزمة التاريخية التي يتخبط فيها الرعاة الإقليميون والدوليون، لا زال الوعي السائد والمستجد في الحركة السياسية هو وعي الولاء للرعاة والخضوع لطلباتهم.

إن الرهان على إقصاء وإضعاف قوة المقاومة رغم المحاولات الحثيثة، وبكل الوسائل، وليس آخرها الحصار الاقتصادي والعقوبات ولوائح الإرهاب، والرهان اليوم على تغيير ميزان القوى الداخلي عبر الانتخابات، هو رهان خاسر يعكس جهل الواقع في الكيان اللبناني وتعاميًا عن نتائج الصراع في المنطقة.

وبالمقابل هناك وهمٌ آخر أنه يمكن سوق المكونات الكيانية باتجاه تغيير نمط العيش والتوجه إلى اقتصاد منتج. فهي ستبقى قوة ممانعة لأي تغيير حتى تضمحل تمامًا رهاناتها على استعادة موارد الريع وتتبلور قوى سياسية جديدة تقطع مع الشكل القديم الذي اعتاشت عليه البنى السياسية الاجتماعية.

هذا مسار تطور حتمي لا بد أن يتبلور مع اشتداد الأزمات وآفاق حلها الحصرية عبر التعاون والتكامل مع المحيط الطبيعي للكيان اللبناني.

إن الجهد المنتج والوحيد الذي يمكن له أن يخفف آلام مخاض التحولات يكمن في المساهمة ببلورة حركة سياسية في البيئات الحاملة للقوى السياسية المهيمنة والتي تجسد العهد القديم من بيوتات سياسية ومشيخات موروثة وبعيدًا عن التشكيلات النخبوية الواهية وغير الجماهيرية التي تنطلق في مقاربتها للأزمة باعتبارها أزمة فساد وحوكمة رشيدة، أيًّا كان تاريخ رموزها القديمة منها والمستحدثة على حد سواء.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد