تخرج العلاقات السعودية الإماراتية عن دائرة توصيفها بالفاترة، أو مجرد كونها أزمة عالقة بين البلدين. هو مسار التصادم على سكة اقتصاديات عصر ما بعد النفط يتحول إلى حرب باردة تدور رحاها في أكثر من ساحة، وتتمظهر بأشكال متعددة. يوميًّا تخرج الأحداث والقرارات بصورة معارك تخوضها الجبهتان. والتحالف الذي حتى الأمس القريب كانت تصفه الصحف الغربية بالأهم اقليميًا، بدا وكأنه انفرط تمامًا؛ فبعيدًا عن مشاهد اللقاءات بين مسؤولي البلدين والصور الملتقطة لابتسامات عريضة، تدور خلف الكواليس صراعات حامية.
هي الهرولة إلى الهيمنة على مركز الثقل الاقتصادي إقليميًّا ترمي بثقلها على البلدين. وعلى القطاعات نفسها، يخوض البلدان صراعهما: السياحة والخدمات المالية واللوجستية والتكنولوجيا. ونظرًا لافتقار كل من أبو ظبي والرياض إلى مجموعات المواهب المطلوبة لخدمة هذه المجالات، يخرج التنافس إلى العلن لاستقطاب الشركات والخبرات الأجنبية للاستثمار في أسواق جديدة خارج الحدود.
والمشكلة خرجت إلى النور مع بداية العام، يوم أرسل ولي العهد السعودي إنذارًا نهائيًا للشركات الأجنبية بنقل مقارها الإقليمية إلى الرياض بحلول عام 2024 كحد أقصى، وإلا فإنه سيكون عليها نسيان العقود الحكومية المربحة. بعد ذلك، أقدمت الرياض على خطوة باغتت فيها الإماراتيين، بفرض تعديلات سحبت بموجبها امتيازات التعرفة الجمركية التي كانت تحظى بها دول مجلس التعاون الخليجي، والتي كانت تمنح السلع المصنعة في المناطق الحرة إعفاءً من التعرفات الجمركية. القرار السعودي المفاجئ تسبب بتوقف التجارة بين البلدين لمدة أسبوع، وقد سجلت تداعياته تراجع حجم صادرات الإمارات إلى السعودية بنحو الثلث، خلال الشهر الأول فقط.
وكما الحديث عن نية سعودية لإطلاق شركة طيران وطنية تنافس الطيران الإماراتي والقطري، كان قرار تعليق السفر إلى الإمارات بسبب “مخاوف من فيروس كورونا”، يصب في خانة الهجمات التي توجهها الرياض إلى أبو ظبي. وبلا كلل كانت تكرس الإمكانيات في عملية الترويج لسعودية جديدة يقودها ابن سلمان، من موسم الرياض الذي وصفه رئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ بأنه “الأضخم في المنطقة”، إلى تقديم محمد بن سلمان طلبًا لاستضافة “اكسبو 2030″، حتى مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، لقيادة قضايا المناخ في المنطقة، التي أجهضتها الإمارات، بلعبها دور العرّاب لمشروع الطاقة النظيفة بين الأردن و”اسرائيل”… هكذا كانت تخاض الحرب، فيما الصحف الخليجية تنشر صورة ابتسامات طحنون بن زايد الى جانب محمد بن سلمان وتميم بن حمد.
وفي الوقت الذي يعبر فيه مسؤولون سعوديون، وبشكل صريح، عن أن السعودية تسعى لأن تصبح مركز الأعمال الإقليمي في المنطقة، يقول الإماراتيون إن طموحاتهم عالمية في مساعيهم لتحويل دبي وأبو ظبي إلى مراكز مالية دولية ومراكز عالية التقنية ومراكز ترانزيت. وتركن الإمارات إلى امتيازات توفرها من خلال التشريعات التي تعمد إلى إقرارها بشكل متلاحق، كسنّ قوانين تسمح بشراء المشروبات الكحولية واستهلاكها في البلاد، وتمنح الجنسين حق المساكنة دون الحاجة الى وجود عقد زواج، أو إلغاء العقوبة على محاولة الانتحار، وكل ذلك بهدف تهيئة عوامل جاذبة للمستثمرين وطواقم الشركات المتعددة الجنسيات في توفير نمط حياة لا يمكن أن يتوفر في الرياض. وفي آخر خطواتها ذهبت أبو ظبي إلى تحديث أكثر من 40 قانونًا في إطار ما وصفته وسائل الإعلام الإماراتية بأنه “أكبر التغييرات التشريعية” منذ تأسيس البلاد، شملت قوانين ذات علاقة بالقطاعات الاستثمارية والتجارية والصناعية، وقوانين الشركات التجارية، وتنظيم وحماية الملكية الصناعية، وحقوق المؤلف، والعلامات التجارية، والسجل التجاري، والمعاملات الإلكترونية وخدمات الثقة، والتخصيم، وقانون دخول وإقامة الأجانب… وتعليقًا على التغييرات الجديدة تحدث الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله مفسرًا أن الهدف من الخطوة الإماراتية هو “تعزيز تنافسيتها ودخول عصر الاقتصاد الرقمي وبناء دولة مدنية حديثة ومتسامحة تعيش وفق أفضل المعايير العالمية”.
وأبعد من حدود البلدين، يصل التنافس الخليجي إلى الأسواق الآسيوية من اندونيسا إلى سنغافورة والهند. ويتوقف تقرير لموقع “المونيتور” الأميركي عند احتدام المنافسة بين الرياض وأبو ظبي على الاستثمار في الأقاليم الهندية، ليشير إلى أنه في الوقت الذي تعتبر فيه الإمارات الشريك التجاري الأول للهند في منطقة الشرق الأوسط، وتحتضن ضعف عدد المهاجرين الهنود مقارنة بالسعودية، تمتلك الأخيرة مزايا لا يمكن إهمالها لناحية الموقع الجغرافي المطل على البحر الأحمر والذي يخدم مصالح استراتيجية تتطلع إلى تحقيقها الهند. ولهذا وضعت الإمارات خططًا لمضاعفة تجارتها غير النفطية في الهند إلى ما لا يقل عن 100 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة.
وفي الإطار نفسه، أتت زيارة محمد بن زايد إلى تركيا، الزيارة الأولى من نوعها منذ عقد، بعد حروب وصدامات أشعلت جبهات لا تزال بعض ميادينها ساخنة إلى اليوم، لتعلن الإمارات عن تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات في السوق التركية المربحة والمفتوحة على العالم. وبحسب تسريبات تنسب لمصدر رسمي عربي فقد يحل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ضيفًا على الدوحة في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، حيث تستضيف العاصمة القطرية كأس العرب 2021، وقد خرجت قراءات لتربط بين زيارة ابن زايد لأنقرة من جهة، وبين زيارة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان مقررة في الأسبوع الأول من كانون الأول/ديسمبر للعاصمة القطرية، لتطرح تساؤلات تبدو منطقية حول إمكانية أن تتحول تركيا الى ساحة جديدة للحرب الدائرة. فهل تلعب قطر دور الوساطة لفتح الأسواق التركية أمام الرياض أيضًا؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.