د. طنوس شلهوب – خاص الناشر |
تابعتُ على قناة اليوتيوب الحلقتين الوثائقيتين اللتين عرضتهما قناة الميادين حول انفجار مرفأ بيروت بعنوان رواية الحقيقة. وبالرغم من أن المادة التوثيقية المستخدمة لا تقدم اجابات نهائية عن كافة حيثيات الموضوع -وربما هذا الامر هو منوط بالمتابعة القضائية- الا انها تعبر عن احترافية عالية لناحيتي المضمون والشكل، خصوصًا انها لم توجه المسؤوليات الى اي طرف او جهة على علاقة بعملية نقل مادة نيترات الامونيوم الى بيروت، وابقائها في عنبر المرفأ لسنوات لحين حدوث الانفجار.
وعقب مشاهدتي لهذه المادة التوثيقية قررتُ اعادة مشاهدة المادة التوثيقية التي قدمها الصحافي فراس حاطوم وعرضتها في حينه قناة الجديد وهي متاحة ايضًا على قناة اليوتيوب، والسبب في ذلك كان رغبتي باجراء مقارنة على امل التمكن من صياغة خلاصة موضوعية حول كل حيثيات الموضوع، والذي يشكل مادة خلافية دسمة طالت شظاياها مجالات السياسة والقضاء والاجتماع، خصوصًا أن الانفجار تسبب في كارثةٍ ترقى الى مستوى الدمار الشامل، مع ما نتج عنه من ضحايا بشرية وجرحى وتدمير للعمران والاقتصاد والحياة بالمعنى المباشر للكلمة.
الوثائقي الذي قدمته قناة الميادين ألقى الضوء على الاطراف المعنية في نقل مادة النيترات وكيفية وصول الباخرة الى مرفأ بيروت مع عرض الكثير من التفاصيل والوثائق والمراسلات التي واكبت انطلاق الباخرة من جورجيا، وتلت رسوها في مرفأ بيروت لحين حدوث الكارثة. سياق العرض كان مترابطًا، وأظهر بالوثائق ادوار الاطراف المتدخلة من وزارات واجهزة امنية وقضائية، ولم يحاول كاتب النص ممارسة اي اسقاطات مسبقة على المادة الوثائقية لناحية توجيه الاتهام لأي من الاطراف المعنية، مما اعطى الانطباع بأننا امام عمل وثائقي عالي الاحتراف يترك للمشاهد المسافة الضرورية ليبني خلاصاته استنادًا الى المادة المعروضة في الفيلم.
وقبل صياغة استنتاجاتي الشخصية على ضوء ما شاهدته، سأتوقف عند المادة التي قدمها الصحافي فراس حاطوم، في ما اصطلح على تسميته بالصحافة الاستقصائية -وهذا ما يقدمه هو عن نفسه-.
ان الفكرة الرئيسية التي تتمحور حولها مقاربة حاطوم تتمثل بنظرية المؤامرة، وهذا يتضح من اللحظات الاولى للعرض في الصياغة اللغوية المصحوبة بالموسيقى والمونتاج التصويري، مما يثير الرغبة عند المشاهد لحبس الانفاس بانتظار القادم على الشاشة. السياق الذي ذهب اليه حاطوم يستند الى بيانات وزارة الخزانة الاميركية ليوجه الاتهام المباشر الى شخصيات تخضع لعقوبات اميركية وهي مقربة من الروس ومن النظام السوري، وعلى الطريقة الهوليوودية يبني حاطوم اطروحته مستعينًا بغوغل وموجهًا الانتباه الى ما يُطلق عليه في عالم الرأسمالية اسم الانشطة غير الشرعية، وهي الانشطة الموازية لأنشطة الشركات متعددة الجنسيات والتي تتحايل على النظام الضريبي، الا ان جوهر نشاطها يتطابق بالمطلق مع فلسفة النظام الرأسمالي.
وعلى خلفية “رواية الحقيقة: انفجار مرفأ بيروت” للميادين، تبدو هشاشة المادة “الاستقصائية” التي قدمها حاطوم مع ما يستتبع ذلك من خلاصات حول حجم الاموال التي تُنفق على وسائل الاعلام، ليس فقط في لبنان، انما في كل العالم، بما يجعل دورها دكتاتوريًا مطلقًا على المجتمع، وفي ممارسة التضليل للرأي العام خدمة لرأس المال ومن اجل ضمان اعادة انتاج الهيمنة الامبريالية على العالم.
لقد اظهرت المراسلات التي جرت بين المراجع المختلفة حول مادة النيترات المخزنة في العنبر رقم ١٢ أن الاطراف المعنية كانت تشير الى حجم الخطر الذي تشكله هذه المادة المخزنة وكل طرف يرمي الكرة على الآخر بنتيجة تشابك الصلاحيات وتباعدها، وأن العامل الاساسي يتمثل في ذلك المستوى غير المسبوق من البيروقراطية، في حين انه امام هكذا خطر كامن كان ينبغي التحرك فورًا ليس فقط لاخراج البضاعة من المرفأ، انما اصلًا لعدم السماح بانزالها.
إن انفجار المرفأ والكارثة التي تسبب بها هما جزء من كارثة اكبر يدفع اثمانها معظم فئات الشعب اللبناني من الكادحين والموظفين ومتوسطي الحال، وهي نتاج هذا النظام الرأسمالي الكومبرادوري المتميز ببنيته السياسية الطائفية، هذا النظام الذي ما انفك اربابه يشيدون به بصفته نظام الاقتصاد الحر ويدافعون عنه منذ تشكل الكيان، ويربطون بقاء الكيان باستمرار هذا النظام، وهم ربما محقون في ذلك، لأن الكوارث المتتالية التي انتجها هذا النظام منذ تشكل الكيان اوصلته (للكيان) الى ازمة تهدد بقاءه.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.