تمتد خزينة الفولاذ المصفح؛ المسماة (سجن جلبوع) عبر سهل بيسان أسفل جبال جلبوع التي تفصل بين أرضنا المحتلة عام 48م، وجبال فقوعة في الضفة الغربية المحتلة عام 67م.
لا أنسى يوم دخلت هذه الخزنة المصفحة عام 2004م، بعد تحقيق وحشي استمر ثلاثة شهور، ومكثت ليلتي الأولى في مثل هذه الأيام، حيث كنت أمد يدي من الطاقة الصغيرة التي تطل على ساحة محكمة الإغلاق، لعلها تلامس نسمة نديّة من جنين امتد بها مرج ابن عامر من حول سلسلة الجبال الفاصلة، ولكن عبثاً كنت أحاول، فقد أحكم صانع الفولاذ حبكته الممتزجة مع الطبيعة في خنق الفريسة المرحب بها كذبيحة اخذت أنفاسها من هدير انتفاضة الأقصى لتواصل الحياة، وإن داخل علبة مصفحة بالحديد والإسمنت المسلح في ظل منظومة أمنية متكاملة مع أحدث تكنولوجيا عصرية أبدعها العقل الأميركي والبريطاني في قهر الإنسان، ليبقى على قيد حياة رتيبة تأخذ نبضها على صرير مفاتيح غلاظ لا يعصون السجان مساء الصبح وصبيحة كل مساء.
حاولها ثابت المرداوي القائد البارز في سرايا القدس، قبل أعوام، ولكنه لم يفلّ حديدها، وقضى بالعزل بعدها سنوات، ولكن ابن بلدته عرابة، ورفيق عمره في الجهاد محمود العارضة، استفاد من التجربة ورممها لينتج أعظم ملحمة للحرية في تكامل مع كرامة إلهية، قلبت كامل المشهد العبري المزهو بالتميّز الأمني والاستراتيجي في رأس السنة العبرية، فإذا بعطلة العيد المنتظرة تنقلب دوامًا مكثفًا لكل سجّان طالما أمعن في بطشه بحق كل نفَس إنساني انبعث في جلبوع بحثاً عن بقية كرامة.
قبل عقد ونصف كنت في ذات الغرفة رقم 5 وذات القسم 2 من سجن جلبوع، التي تحرّر منها الأسرى الستة، وهي غرفة يفصلها عن سور القسم عدة غرف. خطر ببالنا يومها أن نأتي بعدد إضافيّ من أسرى الجهاد من الأقسام الأخرى، على حساب الإخوة في حركة فتح، وقد نقص عدد عناصرهم قليلاً، وكان العرض أن يخلوا لنا غرفة رقم 8 المجاورة للسور. ولم يخطر ببالنا يومها طبيعة الموقع الجغرافي الحسّاس لهذه الغرفة، إلّا عندما استنفر ضابط أمن السجن حينما سمع بالفكرة وقد استشاط غضباً، لمجرد أن يلوح بخيال أسرى الجهاد أن يقطنوا في غرفة مجاورة لسور القسم، ونحن هنا لا نتحدث عن سور السجن الخارجي، وبطبيعة الحال منع الفكرة في مهدها.
كان ملفي الشخصي مصنفًا بطاقة حمراء، يعني أنني معتقل خطير، رغم أنني لم أكن أحمل حكمًا عاليًا بالسجن، وهو ما أدركته لاحقًا حينما انتهى حكمي الرسمي، وبدل الإفراج عني تم تحويلي مباشرة للاعتقال الإداري المتسلسل، والبطاقة الحمراء تعني منع الأسير من العيش كبقية الأسرى، ومنها منعه من الحجز في غرفة جانبية في القسم، بحيث يبقى أقرب للنظر من السجّان ومن بقية الاسرى، بحيث يصعب أن يغيب عن النظر. هذه البطاقة الحمراء رأيناها مدموغة على ملف ثلاثة من الأسرى الستة الذين حرّروا أنفسهم، وقد ظهر ذلك واضحًا في الصور التي وزعها الإعلام العبري، وهي صور مأخوذة من ملفاتهم في الأسر، بما يعني أن العين الأمنية كانت ترقبهم بلا انقطاع، بما يكشف عن مستوى المعجزة التي سطّرها هؤلاء الأبطال، وما ترتب عليها من سقوط لمنظومة الأمن العبرية بشكل كامل.
منذ اللحظة الأولى للكشف عن الحدث/المعجزة، أشار غالبية الإعلاميين والباحثين، وحتى الكثير من منشورات العامة على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أن هذا الحدث، أكثر من خطير على الكيان العبري، لهذا هرعت الدولة بكامل رؤسائها وعتادها للبحث عن الأسرى الهاربين، فيما خرجت الجماهير العربية لتحتفل منذ الصباح في جنين، لتمتد عبر نابلس وغزة ومعظم أرضنا المحتلة، خروجًا حتى عمان وشارع الحمرا في بيروت. وقد أجمع الشعب ومحبوه أننا أمام انتصار فلسطيني مقاوم من الدرجة الأولى، وقد امتزج بروح التحدي على أرضية تخطيط محكم، جعل أحد الصحفيين الإسرائيليين يقول إنه تجول في سوق تل أبيب ليجد أن الكثير من الإسرائيليين يبدون إعجابهم بهؤلاء الأسرى على حنكتهم ومستوى عقليتهم الأمنية التي حطمت منظومة كيانهم التي يتباهى بها أمام كل دول العالم، بل أنه يسوّق نفسه لدول الخليج ودول إفريقيا وشرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، وبعض دول أوروبا، باعتباره الكيان الأسطوري الأول في العقل الأمني، فإذا بستة أسرى محتجزين في أقسى ظرف أبدعه الخيال التلمودي، ينتصرون بلمسة صبر وشعاع فجر على هذا العقل المفخرة!
لن ينتظر أحد؛ على المستوى الفلسطيني ولا حتى على المستوى الإسرائيلي، وعلى أيّ مستوى، نهاية هذا الحدث ليحكم على حقيقة الانتصار المقاوم فيه، فالنصر قد تحقق من لحظة الخروج من النفق، عندما مزّق الأسرى ملابس الشاباس البنيّة، وتدثروا برداء العزة والكرامة، وأطلقوا هزيع الحريّة عبر المدى. ما ينتظره الجميع الآن متابعة فصول نصر جديدة ربما يتمكن هؤلاء الأسرى من تحقيقها على أرضية النصر الأساسي، كأن يحافظوا على حرّيتهم أطول فترة ممكنة، أو يجترحوا فصولًا مذهلة في المواجهة الذكيّة، كتلك الفصول التي سطّرها سابقوهم؛ ستة الشجاعية من فرسان الجهاد الإسلامي، عام 1987م، والتي دحرجوا بها صخرة القهر الفلسطيني فكانت الانتفاضة الأولى، التي كرّس بها فتية فلسطين وشيوخها وعي الأمة بخطر السرطان الإسرائيلي على كل نبض عربي وإسلامي، بل وأممي، بما دفع شعوب الأرض كافة للنظر لهذا الكيان بما يمثله من حقد تاريخي دفين على البشرية جمعاء.
أن يأتي هذا الهروب الكبير، بهذا التوقيت، بعد ملحمة سيف القدس، وما مثلته من التحام شعبي امتد حتى اللد وعكا وجبال الجنوب اللبناني حتى غور الأردن، وقد انطلقت من محاولة تهجير أهلنا في الشيخ جراح، ليدفع الإسرائيلي الثمن حممًا وصواريخ غزاوية امتدت عبر طول الوطن من إيلات حتى الخضيرة، وما صاحبه من تضامن إنساني امتد حتى أبعد المدن الأمريكية، حتى تكلل بالصبر الذي هزم سيف القبة الحديدية، وجحيم النار التلمودية، أن يأتي هذا الهروب الكبير، بما يحمله من دلالات إنسانية وعبقرية فلسطينية وإصرار يقضم جذوع الصخر، فهذا يؤكد أن المفصل الذي أحدثته سيف القدس، تعزز بما يمنع العودة للوراء، فلا المنحة القطرية لغزة ولا أوهام التسوية في الضفة، ولا الكابح الأمريكي في دول المنطقة العربية والإسلامية، يمكنه أن يعيد عقارب الأفول الإسرائيلي دقيقة للخلف، فما هي إلّا أن يمتد الحمق الإسرائيلي خطوة في الفراغ لتتحقق الوحدة المرجوة عبر كل جبهات المحور المقاوم نحو القدس، لتنتفض كل قلاع الأسر عبر هذا الوطن السليب فلا يبقى حجر على حجر، ولا صرخة حرية تخنقها عتمة السجّان.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.