سيادة نطق بها ذليل

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

“من يهيمن على الأرض والزمن الاجتماعي هو صاحب السيادة الفعلي. وفقدان السيادة يعود الى فقدان الشعوب لأمنها بسبب العوز، والى فقدان استقلالية قرارها…”. هذا ما قاله الباحث والمفكر الدكتور علي القادري في احدى المقابلات.

فالسّيادة بمفهومها التقليدي لطالما ارتبطت بالأمن، لتكون الدولة وفق هذا المنطق صاحبة السلطة على الأرض والمجتمع والمؤسسات وعلى أطراف أدنى سلطة منها فرضتها في بعض الظروف تلك العلاقات الاجتماعية المتوارثة، أو الأعراف اللاهوتية، على سبيل المثال القبائل أو العشائر أو السلطات الدينية، أو فرضتها حراكات اجتماعية غيّرت في موازين التأثيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أو العسكرية، وأدخلت إلى المجتمع قيمًا جديدة ألزمت الدولة منحها نوعًا من السلطة اللامطلقة.

والسيادة بذلك لصيقة بالقوة، وامتلاك القرار واحتكاره، وتفويض الصلاحيات لا التنازل عنها طوعًا؛ وإن كانت الدول العظمى قد انشأت دولًا جديدة وفككت أخرى عقب الحربين العالميتين، ومنحت أخرى استقلالها بعد حقبات الاستعمار الغربي، إلا أن هذه الدول لم ترقَ يومًا الى مستوى السيادة، وأدق من ذلك، لم يُرَد لها أن تتسيد! كل ذلك من أجل أن تبقى طيعة وقابلة لإشغال شعوبها عقودًا بكفافها، فمنها ما يصمد ومنها ما يفقد مقومات صموده بين ضغوطات وإغراءات.

فأن يحضر الإماراتي والسعودي على أرض اليمن بعدته وعديده ويفتك بأطفاله ونسائه وأضعف خلقه ومقدراته، وأن تشتعل سوريا حربًا وتصارع عدوًّا لا هو دولة ولا حلفًا بل جماعة خارجة عن الإنسانية، وأن لا تمتلك مصر سلطة على نيلها وعطش ملايينها فلا تشبه أزمة سد النهضة نزاعًا بين دولتين جارتين، ولا صراعًا اقليميًّا بقدر ما تشبه هشاشة أنظمة وتسلط أخرى، وأن تُقسَّم ليبيا وتُفتَّت بين شرق وغرب، وأن تفرض عقوبات على ايران مدرسة الثورات، ويطبق عليها الحصار من كل حدب وصوب لإركاعها، وأن يتصالح العالم مع تهجير أهالي حي الشيخ جراح من بيوتهم غير الآمنة بجوار العدو الصهيون، وأن تتوالى الصفقات التي تضمن بقاء الشرق الأوسط كبرميل بارود منذ أوائل عهد كسنجر والى اليوم، بكل ذلك، “باتت الامبريالية صاحبة السيادة على الاراضي المقدسة”، استكمالًا لمقولة القادري، يضاف إليها: وعلى الاراضي جمعاء.

لبنان، الاسهل تطويعًا منذ تاريخ نشوئه، الاقل إجهادًا، فرض بمقاومته منذ العام 2000 معادلة عسكرية سياسية جديدة، اجبرت دول الغرب واميركا على الولوج بمنطق جديد غير المنطق الانساني والاخلاقي والاغاثي والوساطات “النزيهة” والتسميات الرئاسية المباشرة التي كانت سائدة في السابق، فأغدقت عليه مشاريع وبرامج المنظمات غير الحكومية والتي بغالبيتها ذات التزامات وتوجهات واهداف سياسية بحتة، ولكن هذه المرة تحت مسميات ذات طابع تنموي، تمكيني، جندري أو رعائي، وبقي الدور السفاراتي حاضرًا بمطلق الأحوال والحقبات. ساعد في ذلك غياب منطق الدولة وانقسام ولاتها على أنفسهم، وتفكك الدعامة الطائفية لمؤسساتها، ووهن زعاماتها وأفول حصاناتهم وحصونهم. فمتى بحثنا عن دولة هلامية فلنحصِ اعداد المنظمات غير الحكومية وحركة السفراء ولنحكم! فكيف اذا كانت دولة اضافة الى ما سبق، يكثر فيها الحديث عن السيادة على ألسنة اسياد الانهيار، ومنتفعي الفساد وصناعه، على ألسنة ارباب الاحتكارات؟ وكيف لمن سلع صحة المواطن وباعه نجاته ودواءه بخوف ورعب ايام طوال أن ينطق بالسيادة؟ كيف لمن نصب موظفة برتبة سفيرة مفاوضة على كهربائنا وما تبقى من حياة أن ينطق بالسيادة؟ كيف لنظام غافل عن تضحيات شعب في سني الحرب وساوم على دمائه أن ينطق بالسيادة؟ كيف لمتسول امام طابور صندوق النقد الدولي أن ينطق بالسيادة؟ فما أكثر باعة الكلام يا اصحاب السيادة لكن هيهات أن يصدقكم أكثرنا!

نعم، الولايات المتحدة الاميركية ارادت للبنانيين ذلك كما تريد لشعوب العالم بأسره، الا انها لا شك لم تبلغ ارتياحًا وامتنانًا وتعاونًا وطواعيةً كما وفره لها حكامنا، صنيعة الطائف وصناع الطوائف.

وبانتظار اللبناني رمقه الاخير الآتي عبر البحار، نستحضر توصيفًا أطلقه مؤخرًا رئيس حركة الشعب الاستاذ نجاح واكيم في مقابلة، أن “حزب الله قد تعلم قيادة السيارة على كبر الا انه لم يتعلم تجنب الوقوع في المهوار”. التوصيف على فكاهته انما يعبر عن واقع أن تكون سائقًا ناجحًا وتملك سيارة جيدة لا يعني أن الطرقات امامك معبدة، حتى لو رويت ترابها دمًا وزرعت بين حصاها ورودًا، فالكل سيقطع عليك الوصول إن بثرثرة وإن باقتصاص أو تحدٍّ أو تعدٍّ أو تشهير.

لأجل ذلك كان لا بد لحزب الله وامينه العام من سلوك طريق جديد ولو كره قطاع الطرق وقاطعو الاعناق، لأن المسافة بين تعبيد القديم وموت المعوز قصيرة، لا يسعفها وقت ولا غنج سياسي ولا “مونة” حليف.

والرمق الاخير ليس سيارات ممتلئة خزاناتها، أو اجهزة مستشفيات تعمل بلا انقطاع أو خبز يهدئ روع طفل واشتهاء مسنّ فقط، هو حتمًا معادلة استراتيجية جديدة وسيادة اقتصادية مصادرة يأمل ويعمل حزب الله على استعادة ولو جزء منها. فالارض التي بيعت دمًا حرام أن تورث ذلًّا والسيادة لا ينطق بها الا عزيز!

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد