أميركا كل الصدق!

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

د. يحيى خفاجة – خاص موقع الناشر |

يمكن لأيّ فرد منّا أنْ يتعرّف إلى الآخر من خلال هويته الشخصية من جهة، ومعاشرته من جهة أخرى، حيث تتجلّى تصرفاته وسلوكه في مواقف مختلفة. هذه التصرفات تعكس قيمه وثقافته المرتبطة بتنشئته الاجتماعية عبر المؤسسات المختلفة، وبها تتعيّن أيديولوجيته واتجاهاته الاقتصادية والسّياسية وغيرها. ومتى ما انسجمت تصرفاته مع هويته فهو إنسان صادق. هذا على مستوى الفرد، فهل ينعكس ذلك على مستوى الدول؟ نعم، يمكن أيضًا معرفة الدولة من خلال هويتها وتصرفاتها، والحديث هنا حول “أميركا”. فهل الولايات المتحدة الأميركية صادقة في تصرفاتها انطلاقًا من هويتها؟

مما لا شكّ فيه أنّ لكلّ أمّة مرتكزات ثقافية تميزها فتعتز بها، وتعمل للمحافظة عليها؛ لأنها تمثل كينونتها ومصدر فخارها وانتمائها، وهي مرتبطة بالعادات والتقاليد والفنون وغيرها… ولمعرفة هذه الثقافة المرتبطة بالهوية يمكن ملاحظة “النشيد الوطني”، فالنشيد الوطني لأي بلد هو في الأصل قصيدة حماسية تعبّر عن انتماءٍ وهويةٍ قوميةٍ، وهذا النشيد يسمو على كلِّ الأشعار والألحان، يُلقى ويُستمع إليه وقوفًا، تعبيرًا عن الاحترام الذي يليق به، فمهما عَظُمت إبداعات الشعراء والملحنين في بلد ما، يبقى النشيد الوطني وحده في مرتبة خاصة به فوق قمة هرم هذه الإبداعات، ليحظى بالتفاف أبناء البلد جميعهم حوله.

قد لا يستغرق إلقاؤه أكثر من دقيقة، ولكن يا لها من دقيقة مهيبة! ويا لعظمة الصور التي تتوالى خلالها! صور تختزل مجموعة قِيَم، مهما تنوَّعت وتلوَّنت، تبقى أولًا وأخيرًا مصدر فخر واعتزاز لصاحبها، وهذا النشيد هو الدرس الأول لكلّ طفل على مقاعد دراسته الأولى؛ يتشربه ويستقي مبادئه كما يتعرف على اسمه وعائلته وحياته الشخصية.

هنا نضع الركيزة الأولى للبحث في معرفة الهوية القومية لـ “أميركا” من خلال النشيد الوطني، أي نظرة تحليلية لهذا النشيد وليست مجرد قراءة سطحية.

للنشيد الوطني الأميركي أربع فقراتٍ شعريةٍ، لكن ما يُنشَد منها في المناسبات الوطنية والرياضية عادة ليس سوى الفقرة الأولى، وجميع الفقرات تنتهي بكلمات: “على أرض الأحرار وموطن الشجعان”، وهذا النشيد بعنوان “الراية الموشحة بالنجوم”، كلماته مستمدة من معركة الدفاع عن قلعة “ماك هنري”، وهي قصيدة ألّفها “فرانسيس سكوت” عام 1814 بعد قصف حصن “ماك هنري” من قبل سفن البحرية الملكية البريطانية في مدينة بالتيمور.

قد لا يبذل الفرد الكثير من الجهد في القراءة التحليلية لهذا النشيد ليستنتج تعطش هذا البلد للدماء، ويستنتج أنّ الحرب هي جزء أساس في الهوية، وأنّ السيّطرة هي مكون ثقافي في فكر أبناء الشعب، والقتلَ ما هو إلّا مهمّة روتينية بسيطة تستخدم لحلّ النزاع، ليستنتج أن الاستعلاء هو حقّ، لأنَّ الآخرَ هو عبدٌ.

هناك الكثير من العبارات تستوقفك أثناء قراءتك هذا النشيد وأذكر منها:
ما نفخر به \ المعركة المحفوفة بالمخاطر \ وهج الصواريخ الأحمر \ انفجار القنابل \ يعسكر العدو \ فوضى الحرب \ غسلت دماؤهم \ خراب الحرب \ هؤلاء المرتزقة والعبيد \ نفتح البلاد \ ارتباك المعركة …

هذه هي الهوية القومية لـ “أميركا”، ولكن يجب معرفتها من خلال التصرفات أيضًا لمقاربة السلوك مع الهوية، وعندها نستطيع أن نحكم على صدقها من عدمه.

فأميركا منذ نشأتها كانت محارِبة، وتاريخها ثري بأسماء الحروب، ورؤساؤها مهووسون بقيادة هذه الحروب، فقد بدأ تكوين ما يسمى اليوم بالولايات المتحدة الأميركية عبر حرب ضد الهنود الحمر، تمَّ من خلالها تدمير المنازل والتهجير الجماعي وحرق المحاصيل، وقد وصل الأمر إلى قتل ما يقرب من 18 مليون شخص من الهنود.

ولا يخلو سجل التاريخ الدموي الأميركي من حرب كانت دليلًا على المرض الجيني “الولع بالحروب البربرية” عند الأميركيين، وهي حرب فيتنام سنة 1955، وهناك صال وجال الجيش الأميركي بأبشع الجرائم ضدّ الإنسانية، وضدّ كلّ ما فيه حياة، بل وحتى الجماد! لقد سفك الأميركيون دم حوالي 3 ملايين فيتنامي، وجرحوا ثلاثة ملايين، وشرّدوا أكثر من 12 مليون إنسان.
ولا ننسى الحرب العالمية الأولى، وبعدها الحرب العالمية الثانية حيث أنهتها أميركا بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناكازاكي لتقتل ما يقرب من 200 ألف، وتصيب وتشوّه مئات الآلاف من المدنيين، وفي العام 1982 دخلت أميركا بقواتها إلى لبنان، لمطاردة عناصر المقاومة الفلسطينية، ودعم إسرائيل في غزوها لبنان تحت ستار قوات حفظ السلام الدولية، وفي العام 1986 أغارت الطائرات الأميركية على الأراضي الليبية بحجة تورط ليبيا في عمل إرهابي ضد أميركا، وفي عام 1989 تمّ اجتياح “بنما” لعزل الديكتاتور “نورييجا” حيث نصّبته للحكم من قبل، وأسفر الغزو عن قتل عشرة آلاف بنمي والسيطرة على قناة بنما وهو الهدف غير المعلن من الغزو.

وفي العام 1991 دخلت أميركا على رأس تحالف دولي في حرب مع الجيش العراقي فيما سمّي بعملية “تحرير الكويت”، أسفرت عن إلقاء 880 ألف طن من القنابل ليتمَّ قتلُ ما يقرب من 200 ألف عراقي وإصابة ما يزيد عن نصف مليون آخرين، كما قصفت الطائرات الأميركية ملجأ العامرية مما أدى إلى قتل 400 مدني وجرح أكثر من 1500 آخرين، العديد منهم من النساء والأطفال. ثم في العام 1992 حصلت أميركا على تفويض من الأمم المتحدة بقيادة تحالف لاحتلال الصومال، قُتِل فيها عشرة آلاف صومالي، بحجة إعادة الاستقرار إليه بعد حرب أهلية طاحنة.

ما ذكر من شرب أميركا للدماء ما هو إلّا نقطة في بحر كبير لا تتسع له هذه الصفحات، فهي قامت واستمرت بالدماء ولا تزال إلى يومنا هذا حربًا عشوائية، تضرب في كل اتجاه باطراد، سرًا وجهرًا، استخباراتيًا وعسكريًا، إعلاميًا وسياسيًا، تعدّدت أوجهها ولكنّ الهدفَ واحد.

فحذار أن تصل إلى صدقها معكم، وإياكم أن تستجيبوا لها دعوتها حيث لا ينفع الندم، وتتبرأ منكم بقولها “إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ”.

والملفت هنا أن النشيد الوطني الأميركي بعد ذكره لكل مشاهد العنف والقتل والتكبر والوحشية والحرب يقول: “ويكون شعارنا بعدئذ بالله نثق”. إنّها أميركا الصّادقة في ملازمة هويتها بمسلكها… وما يتمّ مشاهدته من مواقف إنسانية ومساعدات وإنقاذ شعوب، ما هو إلا نفاق كمرحلة انتقالية لوصولها إلى الصدق. فإن كانت وظيفة وزارة الدفاع ترتبط بالحرب، وتنظيم الجيوش والاحتلال، فلماذا وزارة الدفاع الأميركية تهتم بتمويل الجمعيات الإنسانية الأميركية؟

*الدكتور يحيى خفاجة باحث اجتماعي تربوي

dr.yehyakhafaja@gmail.com

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد