لا شك أن الوضع في لبنان يدخل حثيثًا إلى منطقة الخطر، ويبدو أن الخطر هنا لا يتوقف عند حد الفوضى الداخلية أو نذر حرب أهلية، بل يتجاوز ذلك ليلامس سيناريوهات تتعلق بمخططات تقسيم لبنان، حيث لا يستبعد أن يكون هذا المخطط هو المعتمد بينما السيناريوهات المتعلقة بالفوضى أو التلويح بتدخلات خارجية لا تعدو كونها ستائر دخانية أو مناورات للتمويه.
بالطبع لا نجزم بأن مخطط التقسيم يتم تنفيذه، لكن بالمقابل، لا يمكن، بل ولا يصح، استبعاد مراقبة ورصد هذا الاحتمال، وخاصة أن الشواهد بشأنه، قد تعددت. وهنا نحاول طرح ما نود قوله عبر مسارين، أولهما، هو خدمة هذا المشروع لأهداف الغرب وخاصة المشروع الصهيو – أميركي، وثانيهما، استعراض الشواهد التي تجعل من استعراض هذا الاحتمال أمرًا وجيهًا ينبغي التعاطي معه والتحسب له.
أولًا: كيف يخدم التقسيم المشروع الصهيو – أميركي؟
يذكر التاريخ أنه وفي بداية الحرب الأهلية اللبنانية، رفضت أميركا تقسيم لبنان رفضًا حاسمًا. وكانت فلسفة القيادة الأميركية وقتها، هي أن التقسيم يعني قيام دولتَين، وهو ما يعني أن إحداهما سوف تكون في أيدي اليسار، اللبناني والفلسطيني، وهو ما لا يمكِن أن تقبَل به واشنطن.
إلا أن أميركا قدمت وقتها فكرة الكانتونات أو المقاطعات، ذات الاستقلال الذاتي، على غرار سويسرا. وكان أول من طرح الفكرة، علنًا، هو الدكتور شارل مالك، وزير خارجية لبنان السابق؛ إذ أعلن، في 5 يوليه 1976، أنه ليس لديه معلومات عن خطة أميركية للتقسيم. ولكنه يتصور، بعد كل الذي حدث في لبنان، “أن الولايات المتحدة الأميركية على استعداد للنظر في المساهمة في إيجاد نوع من التنظيم الداخلي، الذي يؤدي إلى الاستقرار”. وهو ما قد أعلن كيسنجر تأييده لمشروع إعادة توحيد لبنان، من طريق الكانتونات. وقال إنه يجب أن يكون لكلٍّ من الطائفتَين، المسيحية والإسلامية، نمط حياة خاص، يتوافق مع تقاليدها.
ولكن الفلسفة الأميركية قد تتغير وفقًا للمستجدات، فقد كان الخوف في حينها من بروز دولة تستطيع تشكيل بؤرة للمقاومة وبيئة حاضنة، وتستطيع أن تشكل خطرًا حقيقيًا أو على الأقل توازنًا للردع مع العدو الإسرائيلي. بينما الوضع الراهن يشهد وجود هذه القوة بالفعل ممثلة في المقاومة وبيئتها وما شكلته من رقم صعب في معادلة الردع والرعب مع العدو، وكذلك هي قوة سياسية تتمتع بالشرعية في الدولة اللبنانية، وأعلنت على لسان سماحة السيد حسن نصر الله أنها “ستكون حيث يجب أن تكون”.
وبالتالي فإن التقسيم يحقق عدة أهداف منها:
1- يحرم المقاومة من شرعيتها وتشكيلها في حكومة الدولة ويعزلها باعتبارها مارقة.
2- يحد من تنقلاتها وحرية تواجدها حيثما يجب أن تكون، باعتبارها تتخطى حدودها وتنتهك حدود مكون آخر فيدرالي، أو دولة أخرى كانت بالأمس جزءًا من الوطن!
3- يحرر قرار المكونات الأخرى الراغبة في الحياد أو التطبيع، باعتبار أن لها سلطة مستقلة غير مقيدة بإجماع عام أو برلمان جامع يستطيع تحجيم هذه التوجهات ومنع هكذا قرارات.
وبالتالي، فإن التقسيم يسهم في اختراق العدو للبنان (الكبير سابقًا) ويجعل من المقاومة كانتونًا محاصرًا.
ثانيًا: الشواهد التي تكسب هذا السيناريو وجاهته:
من مجمل الحصار والتعطيل وتحويل لبنان تدريجيًا إلى “دولة فاشلة”، وما يتزامن مع ذلك من تصريحات وأطروحات وممارسات، فإن ما يراد تصديره عدة عناوين منها:
- صعوبة العيش المشترك واستحالة التوافق.
- حتمية التوصل لعقد سياسي جديد بديلًا عن اتفاق الطائف.
- الانقسام الحاد في التوجهات بين القوى السياسية واكتساب هذا الانقسام ابعادًا دولية واقليمية تصل خطورتها لجعل لبنان ساحة لتصفية الصراعات الكبرى.
- الوصول بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لحالة الانهيار والفوضى، مما يجعل أي أطروحة للخروج والانقاذ مقبولة أيًا كانت خطورتها أو تناقضاتها مع الثوابت.
- شيطنة المقاومة وتحميلها مسؤولية الانهيار والخراب وأنها مصدر العقاب الجماعي للبنان، وبالتالي وجوب التنصل منها ولو بالانفصال، طالما يصعب التخلص منها بالقوة.
وبخلاف هذه العناوين، فإن هناك خطوات صريحة ترجح هذا السيناريو، ويمكن رصدها كما يلي:
1- نُشر مقال لمجلة فورين بوليسي الأميركية، حمل عنوانًا خطيرًا وهو “التقسيم هو الحل الوحيد لمشاكل لبنان”، واللافت أن كاتب المقال هو “جوزيف كيشيان”، وهو برتبة زميل أول في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في الرياض. وكانت افتتاحية المقال تقول: (لقد حرمت هيمنة حزب الله اللبنانيين من غير الشيعة من أن يكون لهم صوت في بلدهم. حان الوقت لإعادة النظر في قرن من الديمقراطية التوافقية والعودة إلى شكل من أشكال الفيدرالية.)
وكان المقال عبارة عن تنظير لهذه الفيدرالية إلى أن اختتمه بالقول: (لطالما اتّضح أن اللبنانيين، رغم تقاسمهم سمات مشتركة كثيرة، يعجزون عن التوافق حول الحريات السياسية والاجتماعية الأساسية، ولا يمكن الحفاظ على هذه الحريات إلا عبر ميثاق سياسي جديد… من دون حرية لا معنى للبنان، لأن الأطراف التي أنشأت الكيان الجغرافي الراهن كانت تهدف إلى تزويد سكان البلد بالحريات الغائبة في أماكن أخرى من منطقة الشرق الأوسط. لكن للأسف، فشلت تجربة عام 1920، ويواجه اللبنانيون في عام 2020 سؤالًا محوريًا لا مفر منه: هل يجب أن يعود البلد إلى التركيبة التي سبقت عام 1920؟).
2- في نفس توقيت حرب تموز 2006، كتب الضابط الأميركي السابق (كولونيل متقاعد من الأكاديمية الحربية الوطنية الأميركية)، رالف بيترز، مقالة بعنوان “حدود الدم”، في مجلة القوات المسلحة الأميركية (عدد تموز 2006)، وهي جزء من كتابه “لا تترك القتال أبدًا”. وتشكّل هذه المقالة تقريرًا متكاملًا عن الصراعات في الشرق الأوسط، والتوتّر الدائم في المنطقة، والتي يعتبرها “بيترز” نتيجة منطقية لخلل كبير في الحدود الاعتباطية الحالية التي وضعها، حسب تعبيره، “الأوروبيون الانتهازيون”.
ويعتقد رالف بيترز أن المجموعات الإثنية والدينية في الشرق الأوسط مارست الاختلاط والتعايش والتزاوج، ولكن لا بد من إعادة رسم الحدود لإنصاف الإثنيات الموجودة، حسب قوله. لذلك، ومن أجل شرق أوسط أميركي (جديد – كبير)، تقدّم بيترز منذ ذلك الوقت بخريطة أميركية “مبتكرة”، قد تكون بديلة لسايكس بيكو البريطانية الفرنسية قبل 100 عام وعام، تلغي بعض الحدود القائمة بين الدول، وتعتمد على مبدأ تقسيم الدول الحالية، فتتحوّل الدولة الواحدة إلى دويلات، وتنشأ دول جديدة، وتكبر دول صغيرة، وتصغر دول كبيرة. وبالطبع قد تناول في خرائطه تقسيم لبنان.
3- الرئيس الأميركي الحالي بايدن هو من أنصار مخطط التقسيم، وفي 2014، أكد عندما كان نائبًا للرئيس، أن الولايات المتحدة تدعم نظامًا فيدراليًا في العراق، كوسيلة لتجاوز الانقسامات.
وقالت وكالة فرانس برس وقتها إن بايدن منذ فترة طويلة يؤيد خطة تقضي بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق تتمتع بحكم ذاتي: للشيعة والسنة والأكراد.
واقترح بايدن “نظامًا فيدراليًا فعالًا” كوسيلة لتجاوز الانقسامات في العراق، وكتب أن خطة من هذا النوع “ستؤمن تقاسمًا عادلًا للعائدات بين كل الأقاليم وتسمح بإقامة بنى أمنية متمركزة محليًا مثل حرس وطني لحماية السكان في المدن ومنع تمدد الدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه تضمن حماية وحدة وسلامة أراضي العراق”.
إن تحركات كثيرة دولية وإقليمية، تتزامن مع ممارسات وتصريحات داخلية، ترجح هذا السيناريو، أو على الأقل تجعل منه احتمالًا مطروحًا لا ينبغي تجاهله، بل ينبغي وضعه في الاعتبار والتحسب له.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.