نواف سلام: حيث لا يجرؤ الآخرون!
منذ تكليفه رئاسة الحكومة حتى الساعة، أثبت رئيسها نواف سلام جرأة عالية في خوض ما لم يتجرّأ رئيس حكومة قبله على قوله. فجميع رؤساء الحكومات السابقة، لم يبلغوا رتبة إشهار الولاء المطلق للأميركي، وحرصوا على مستوى تخاطبي وتواصليّ مع المقاومة وممثّليها، حتى في أشدّ المنعطفات “المحلية” خطورة والذي تمثّل بقراري حكومة السنيورة الشهيرين في ٥ أيار ٢٠٠٨، إذ عزم السنيورة حينها على تفكيك شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة في المقاومة. يومها، كان القراران الخبيثان يستهدفان المقاومة علانية، وإنّما حاول السنيورة ومن معه القيام بهذا الاستهداف بأسلوب متذاكٍ، يموّه العداء بالقرارات الإدارية. وبذلك، يكون سلام قد تفوّق على سلفه الذي يتشارك معه الولاء للأميركي وكافة أدواته: من الملوك إلى أجراء السفارات، وما بينهما.
يشهر سلام المعاداة لمكوّن سياسي واجتماعي وازن وأساسي في البلد، يضرب عرض الحائط بكلّ المعايير الأخلاقية والإنسانية التي يتوجّب عليه مراعاتها كرئيس للحكومة، وإن كان السنيورة قد ذرف دموعًا من أجل شهداء لبنان في تموز ٢٠٠٦، وبغضّ النظر عن مصداقيتها، فسلام يتعمّد إظهار التجاهل لكلّ ما تتسبّب به الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة من خسائر في الأرواح. لا يراوغ. لا يدّعي حتى تعاطفًا لا يشعر به، على العكس، يجيب باستخفاف وفوقية حين يُطالب بموقف واضح من استمرار “إسرائيل” قتل الناس في بيوتهم وفي الطرقات. وبالتالي هو يسيء بالدرجة الأولى لموقع رئاسة الحكومة ويهين نفسه، معرّضًا إياها إلى لعنات سيحفظها التاريخ جيّدًا.
يشتعل الجنوب، يُقصف البقاع، تُستهدف الضاحية، ويصوغ حفيد بائع “سهل الحولة” جملًا وعبارات بدا وكأنه قد حفظها عن ظهر قلب وتدرّب عليها وسُرّ بها فصار يكرّرها في جميع المناسبات، وربّما حتى في مناسباته الشخصية، ومنها “استعادت الدولة اللبنانية قرار السلم والحرب”. وهنا أيضًا، يتبوأ سلام مرتبة لم يبلغها أحد قبله، فبغضّ النظر عن مدى التوافق أو التباين بين المقاومة ورؤساء الحكومات السابقين، ينبغي الإقرار بأنّ كلّ الذين سبقوا نواف اجتهدوا في أن يكونوا شخصيات تجيد التعبير عن نفسها، ومنهم من استعان بمدرّبي خطابة، إلّا نواف، في كلّ ظهور له وفي كل خطاب، يبدو كمن يخترع عبارات عديمة المعنى كي يدسّ فيما بينها عباراته الشهيرة المذكورة آنفًا. وهو يعلم ذلك جيّدًا، ويعلم أنّ السامعين يعلمون، ولكنه لا يخجل، لا يخجل حتى من المجاهرة بالأدواتية، ويواصل التصرّف بالفوقية ذاتها، كمن يتغاوى بتدنّي قدراته وملكاته.
وبعد، وبموضوعية شديدة، ماذا لو فنّدنا كلمات سلام، وكما يقول المثل الشعبي، “لحقنا نواف ع باب الدار”؟ هل تمتلك حكومة لبنان، كما يقول، قرار الحرب والسلم؟ عبارته الشهيرة “استعادت الدولة اللبنانية قرار الحرب والسلم” هي جملة يستقبل بها الموفدين حين يأتون إليه متسائلين عن الخطوات التي حقّقها في إطار العمل المكلّف بتنفيذه: نزع سلاح المقاومة، وكذلك يحملها في حقيبته كلّما زار أحدًا، في لبنان والخارج. في افتتاح مهرجان فنّي كما في لقاء رياضي. ولا يعلم أحد إن كان سلام يصدّق ما يقول، وإن كان يفعل، فالمصيبة أعظم مما نتخيّل، فقرار السلم والحرب لطالما كان، ولم يزل، في يد الأميركي، وإن كان في قوله “استعادت” إشارة إلى أن هذا القرار كان في يد المقاومة، فهو ومردّدو قوله، يمارسون فعل استغباء وتغابٍ قلّ نظيره في العالم. ففي كلّ نزاع بين طرفين، عادة ما يكون قرار السلم والحرب في يد المعتدي لا في يد المعتدى عليهم الذين يقومون بالدفاع عن النفس وصدّ العدوان. فقرار الحرب هو أن يقرّر العدو أن يعتدي، وقرار السلم هو أن يقرّر كفّ عدوانه، ولا يحدث ذلك بالدبلوماسية طبعًا، وإنّما حين يتكبّد خسائر تفوق ما يمكن أن تحقّقه له الحرب من مكاسب. وبالتالي، لا تمتلك المقاومة قرارًا كهذا، بل تمتلك قرار ردّ الفعل حيال العدوان، وتبقى في دائرة الدفاع المشروع عن النفس، الذي تختار بنفسها توقيته وشكله وحدّته. لذلك، حين يصرّح نواف سلام باستعادة قرار السلم والحرب ينبغي أن يُسأل: ممّن؟ من الأميركي الذي يحرّك أدواته في الحكومة والمجلس النيابي بخيطان مخصّصة لعروض الدمى المتحركة الرخيصة؟ أم من الإسرائيلي الذي يواصل الحرب، بقرار أميركي؟
في الواقع، ما يمتلكه رئيس الحكومة حاليًا هو قرار الاستسلام والخضوع، وهو أشدّ العارفين بذلك، فالتعليمات التي يتلقاها في هذا السياق واضحة ومباشرة، ولا يملك حتى حقّ التفكير بمنطقيتها أو بأخلاقيّتها. وبذلك أيضًا، يخطو حيث لا يجرؤ أحد، فألدّ أعداء المقاومة المحليين، والمعروفون بأدواتيّهم وامتثالهم لأوامر السفارات، يحاولون صياغة التعليمات بشكل يموّهها قليلًا، إلا هو، يحتفي باستسلامه، يتباهى بتبعيّته، ويحبّ أن يرى الجميع مثله خاضعين.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.