من الأسر إلى الخلود: حكاية “الشوك والقرنفل”

8

سمعتُ عنها قبل الطوفان، ونويتُ قراءتها بعده، وقرأتها بالفعل بعد شهادة كاتبها، وربما بطلها أيضًا.

لماذا “ربما”؟ لأنّ الكاتب لم يُصرِّح جهارًا بأنّ ما يكتبه سيرةٌ ذاتية -وإنْ يُفهَم ذلك ضمنًا- بل قدّم سيرةً موضوعيةً لأسرةٍ فلسطينية داخلَ القطاع، تعيش حالاتِ نضالٍ عامًا بعد عام، بتطوّرها وتأزّماتِها وصراعاتِ الأيديولوجيات.

رواية “الشوك والقرنفل” التي كتبها القائد الشهيد والأسير “يحيى السنوار – أبو إبراهيم” وهرّبها من خلف القضبان، ليست مجرد عملٍ أدبي، بل وثيقةُ نضالٍ إنسانيٍّ وسياسيٍّ تُنقل بصدقٍ نادر. من خلال أسرةٍ فلسطينيةٍ واحدة، يرسم الكاتب ملامح المجتمع في زمن الحصار والمواجهة، حيث لا تنفصل الحياة اليومية عن فعل المقاومة هناك، ولا السرد في الرواية انفكّ عن صوت الرصاص لما تحمله من واقعية في نقل المشهد.

بعد مطالعتها، تشعر أنّك فهمتَ عقليةَ هذا الرجل الشهم والبطل: إلى ماذا يرمز؟ وماذا ينوي؟ بل تشعر كأنّك دخلتَ القطاعَ ومشيتَ بين أزقّته، وشاركتَ في الكمائن، وتحوّلَ لديك الخبرُ الذي يُذاع عن المقاتلين وبطولاتهم إلى أمرٍ أعقدَ من ذلك، حيث تَلحَظ أنّ خلفَ إنجازٍ صغيرٍ تقفُ تحضيراتٌ عظيمة وتضحيات جسام.

سردٌ جميلٌ يبدأ مع النكسة وما رافقها من آلامٍ للشعب المظلوم في الداخل الفلسطيني، وينتهي بما يُشعرُك به كاتبُ الرواية بين سطورها: أنّ النضالَ قادمٌ لا محالة، ومستمرٌّ حتى النهاية. نضالٌ سيبقى يشتعل، ومع اشتعاله سيحرقُ كيانَ العدوّ حتى زواله من الوجود.

يصفُ البعضُ الروايةَ بأنّها “رسالةٌ إلى الأمّة”، كتبها أبو إبراهيم في السجن وهرّبَها من بينِ الأسوار كمحاولةٍ إبداعيةٍ وجديدةٍ في المواجهة.

“الشوك والقرنفل” هي ملحمةٌ متواصلة، كفاحٌ دامَ لسنوات، وكان الوقتُ فيها أستاذًا قاسيًا ومربّيًا صبورًا، إذ تكفّل بتطويرِ الخبرات الميدانية والتقنية -كما وصفَ الكاتب- ورفعها إلى مستوى ينتصرُ به الرجلُ المحاصَر، ولو طالت الحربُ لسنوات.

الروايةُ موجّهةٌ لكلِّ من يرغبُ في فهمِ حالةِ المجتمعِ الفلسطينيّ، وفلسفةِ صمودِه وإصراره.

أما كاتبُها، القائد أبو إبراهيم، فهو حالةٌ فريدة في ذاته؛ أيقظَ الكثيرَ من الشباب، ورفعَ مستوى الوعي، وشبهُه واضحٌ في أبطالٍ ذكرَهم في روايته كالقائدين المبدعين عماد عقل ويحيى عيّاش وغيرهما، ممّن كانت تُتداولُ أسماؤهم همسًا لشدةِ ما ألحقوه بالعدوّ من ضرباتٍ.

“يحيى السنوار” -بطلُ الرواية وبطلُ المرحلة- كان رجلًا من رجال الألبوم الفلسطيني المشرّف، الذين جعلوا من القتال طريقًا إلى الحياة، ومن الكلمة بندقيةً أخرى في معركة الوعي.

ربما كتب أبو إبراهيم روايته ليخلّد من رحلوا، ولماذا وكيف رحلوا، فإذا بها تخلّد فلسطين كلّها.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.