نوّاف سلام: أن يكون الكيد رجلًا!
لم يأتِ نواف سلام إلى السراي بالباراشوت ولا من عالم بيروقراطي لا يحتكم إلى سياسات الأميركيين والمجتمع الدولي. لقد جاء من خلفية القضاء الدولي الذي يمتثل بأدواتية مكشوفة لأوامر “الأقوياء”. ولذا يُعتبر تزامن تعيينه رئيسًا لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، في شباط/فبراير 2024 مباشرة مع أول جلسة استماع في قضية جنوب إفريقيا ضد “إسرائيل” بتهمة الإبادة الجماعية في كانون الثاني/يناير 2024،، دليلًا دامغًا على طواعيّته وحسن استجابته للأوامر و”المَوْنة” الأميركية عليه. وكما كان متوقّعًا منه، لم يخيّب أمل من عيّنوه في أداء المهمّة إذ عمل بجهد وتفانٍ مع نائبته القاضية الأوغندية جوليا سيبوتيندي المعروفة بانحيازها لإسرائيل، في سبيل التغطية على الارتكابات “الإسرائيلية” وإخراج الدعوى الجنوب أفريقية من التداول! ودعكم ممّا يقوله عن تبنّيه للقضية الفلسطينية في المحافل الدوليّة وعن كيفية تقديمه الخدمات لها في فترة عمله كقاضٍ دوليّ، فالحديث هذا لا يعدو كونه شعارات وحكي “بدون جمرك”، وإلّا فليحدّث عن مأثرة واحدة بهذا الخصوص.
بدون إطالة، كُلّف نواف سلام برئاسة الحكومة في لبنان تحت وطأة الضغط السياسيّ وعلى سبيل الانحناء للعاصفة وتجنّب جرّ المقاومة إلى صراع داخليّ يُهدر فيه دم الناس وأمانهم. أيّ كُلّف وفق معيار الرّضا بالسيّئ لاجتناب الأسوأ. وقال النّاس لعلّ تولّيه مسؤولية بهذا الحجم يدفعه إلى وقفة مع ذاته تؤدي به إلى العمل بروحية المسؤول والمؤتمن، لا المكلّف بتنفيذ أجندة الوصاية الأميركية بالحرف الواحد. إلّا أن مسار عمل نواف سلام كان يكشف في كلّ جلسة عن التزام متصاعد بما ترغب به الولايات المتحدة الأميركية، وبشكل سافر إلى حدّ تجنّبه أيّ كلمة قد تثير غضب المبعوثين الأميركيين منه، فتجاهل حتى البروتوكولات التي يتوجّب عليه القيام بها كرئيس حكومة في بلد يتعرّض للعدوان بشكل يومي، ويُستشهد فيه، أيضًا بشكل شبه يوميّ، خيرة أبنائه، اغتيالًا! قالها بالحرف الواحد “شو كلّ ما طلعت مسيّرة بدي اطلع احكي؟!”. في واقع الأمر، هو غير معنيّ حتى بالتظاهر بحمل مسؤوليته الوطنية تجاه البلد والناس. على العكس، هو مهتمّ بتظهير العكس، كبادرة حسن سلوك متواصلة باتجاه أميركا، وأدواتها من دول وسفراء.
سلك نواف سلام دربًا بلا عودة في معاداة أهل المقاومة من جميع الأطياف والطوائف. وهو يتباهى بذلك كأنّه إنجاز يُضاف إلى إنجازاته في المحكمة الدولية. ويحقّ له ذلك طبعًا، فإن كان معيار الإنجاز هو مقدار وسرعة الاستجابة للأوامر مهما اختلفت الظروف وتغيّرت المناصب، فالرجل ينجز ما عليه بشكل تفوّق فيه على أيّ عامل في الشأن العام ضمن المربّع الأميركي. هل يعني ذلك أن نوّاف سلام لا يقوم بمبادرات معبّرة عن سماته الشخصيّة في سياق عمله؟ بالطبع يفعل. فالرجل شفّاف جدًا في تعاطيه مع كافة الأمور بحيث لا يستطيع إخفاء غضبه الشخصيّ حيال أيّ كلمة تُقال ضدّ مساره، ولا يجيد الفصل بين ردود فعله كشخص وما ينبغي أن تكون ردّات فعله كرئيس للحكومة. وهنا مكمن “الكيد” الذي يمارسه ويوظّفه في خدمة هدفه الأسمى: ضحكة رضا على وجه مبعوث أميركي!
حين دخل نواف سلام مجال الرؤية في المدينة الرياضية، استقبله جمهور النجمة بهتافات شعر بأنّها تستهدف شخصه، ما جعله يُستثار غضبًا بحيث لو أمكن له تقديم الجمهور كله إلى ساحة الإعدام لما قصّر. حوّل جميع نشاطه البروتوكولي في السراي إلى الحديث عمّا فعل “جمهور النجمة” وسوّق لفكرة أن حزب الله يقف وراء الهتافات التي أثارت غضبه، ما دفع بالعلاقات الإعلامية في الحزب إلى إصدار بيان ينفي ادعاءات سلام، لعلّه يسكت، وما سكت. اعتداءات “إسرائيلية” متواصلة وضغط داخليّ يتزايد في ظلّ قرار منع إعادة الإعمار ومعاقبة أهل المقاومة وملفّات شائكة كملف الكهرباء، جميعها لم تُخرِج نوّاف سلام عن طوره، كما فعل هتاف من جمهور رياضيّ، حتّى ظهر للناس أن لنواف روحًا رياضية واسعة في تقبّل اعتداءات “إسرائيل” وإهانات المبعوثين الأميركيين، وتضيق، تضيق جدًا حتى تختفي في مواجهة أهل البلد. وحين لم يجد إلى تنفيس غضبه سبيلًا، ادّعى أنّ وفد نادي النجمة الرياضي الذي زاره وفق موعد روتيني قد حضر لتقديم اعتذار عمّا هتف به الجمهور، ليتبيّن عدم صحة الخبر بعد ساعات من إعلان تلقّيه الاعتذار. ولأن طبع “الكيد” غلّاب، بقيت أثار الاحتقان والحقد بادية على وجه سلام حتى اللحظة. وحتّى اللحظة أيضًا، ما زال عالقًا على صخرة الغضب منذ فعالية “صخرة الرّوشة” في الذكرى الأولى لاستشهاد السيّد حسن نصر الله وصفّيه الهاشميّ. منذ أُضيئت الصخرة بصورتهما، يُحكى أنّ نوّاف لا يظهر مبتسمًا وتغلب صوته حشرجة الغضب، بعد أن اخترع معركة وخرج منها مأزومًا، ولا نقول مهزومًا كي لا يظنّ روّاد المعلف الأميركي-الإسرائيلي أنّ الفعالية كانت بعين أهلها معركة أو إنجازًا مقاوِمًا. كانت مجرّد نشاط تعبيريّ يؤدي التحيّة إلى القادة الشهداء، ويعبّر عن هويّة بيروت الحقيقية، بعيدًا عن رغبات نوّاف وأحلامه. في اليوم التالي للفعالية، ألغى سلام جميع نشاطه في السراي وتفرّغ للبحث في سبل معاقبة كلّ من حضرها، ولو كان الأمر أمره، لطلب قصف الحاضرين والصخرة في ذلك اليوم، عسى يُشفى غليله، ولن. ترك الرجل كلّ ما عليه وذهب في جموح نرجسيّ لتحويل القضية من فعالية رمزية وبسيطة إلى حرب على كلّ من كانت له في تنفيذها يد. وجد في الإعلاميّ علي برّو مكسرًا لعصاه، أو ظنّ ذلك، فأمر القضاء باستدعائه، ولمّا لم يحضر علي شخصيًّا بل حضر بالوكالة عنه محاميه، وفق الأصول القانونية، ازداد غضب نوّاف ومُسّت نرجسيّته أكثر، فتحوّل الاستدعاء إلى مذكرة بحث وتحرٍّ، هكذا وبلا خجل، في الوقت الذي تتحوّل فيه محكوميات العملاء إلى مضحكة، وفي الوقت الذي يوزّع فيه نوّاف عطفه على قاتلي الجيش، من الجولاني إلى فضل شاكر ومن بينهما، أصبحت قضيّته المركزية هي الانتقام من علي برّو، بل من مجتمع المقاومة عبر علي برّو. وفي سياق متصّل، سكب غضبته الكوميدية نفسها، ضدّ جمعية رسالات الثقافية والفنية، ووضع بند سحب “العلم والخبر” منها من ضمن رأس جدول أعمال جلسة الحكومة، لا لشيء سوى لأنّها تمثّل شريحة لبنانية تعادي أسياده، وتقدّم أعمالًا ثقافية وفنيّة تتنافى مع ثقافة الانبطاح وفنّ الخضوع، ولذلك، يشكّل استهدافها استهدافًا لكلّ عزيز لا يخضع، ولكلّ حرّ لا ينبطح، أيّ لكلّ من لا يشبه نواف وأشباه نواف.
عجز الأميركي عبر فريقه السياسيّ والإعلاميّ عن جرّ المقاومة وأهلها إلى اقتتال داخليّ، رغم مواصلة الضغط وتكثيف الاستهدافات، كما عجزت آلة الحرب الإسرائيلية عن دخول الجنوب إلّا حين تولّت حكومة نواف مسؤولية الردع الدبلوماسي. ولذلك يجري اليوم تصغير الأهداف وتجزئتها على قاعدة إن لم تستطع إلى كسر العسكر سبيلًا فاختر أهدافًا مدنية تحمل روحه، وصبّ عليها جام كيدك، عبر استدعاء قضائي، أو عبر سحب “علم وخبر”. قيل في ما مضى، تُقاس الرجال برفعة أهدافها، وبهذا المقياس، يُقاس نواف بما عُرف سابقًا بـ”كيد النّسا” وصار اليوم اسمه كيد نواف!
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.