الناهب الأمريكي يفقد توازنه.. والمنطقة تتكتل في وجه الهيمنة

33

في المشهد الجيوسياسي الراهن، لم يعد السؤال: “هل الولايات المتحدة تضعف؟”، بل “كم تبقّى من قدرتها على الهيمنة؟”. لقد دخلت واشنطن فعليًا مرحلة التراجع البنيوي، ويكاد لا يمرّ أسبوع إلا ويُسجَّل مؤشر جديد على اهتزاز سلطتها العالمية، لا سيما في الشرق الأوسط الذي كان يُعرف تقليديًا بـ”الحديقة الخلفية” للنفوذ الأمريكي.

مؤشرات ضعف الهيمنة الأمريكية

  1. الفشل في الحسم العسكري
    رغم مئات المليارات التي أُنفقت على الجيوش والحروب، لم تستطع واشنطن تحقيق نصر حقيقي في أي من تدخلاتها الكبرى (أفغانستان، العراق، لبنان ). وانسحابها الفوضوي من كابول عام 2021 سيظل رمزًا مريرًا لتآكل هيبتها العسكرية.
  2. فقدان القدرة على الإملاء السياسي
    في السابق، كانت واشنطن تُصدر التوجيهات وتُفرض الحلول. أما اليوم، فالدول الإقليمية تبني تحالفاتها وتُعيد تموضعها دون الرجوع إليها. أكثر من ذلك، تُقابل تهديداتها أحيانًا بالتجاهل أو حتى بالسخرية، من دول كانت تُحسب تاريخيًا ضمن “المعسكر الأمريكي”.
  3. أزمات داخلية خانقة
    الاستقطاب السياسي الداخلي، تدهور البنية التحتية، تفاقم الدين العام، وتراجع الثقة بالمؤسسات، جميعها أضعفت صورة “القوة النموذجية” التي كانت تروج لها أمريكا. العالم يتغيّر والمنطقة تعيد تشكيل نفسها
    في ظل هذا التراجع الأمريكي، بدأت المنطقة العربية والإسلامية تخرج من عباءة القطبية الواحدة، وتتجه نحو تموضع جديد أكثر توازنًا واستقلالًا.

تحالفات إقليمية تتشكل خارج الإرادة الأمريكية

  1. إيران – مصر
    بعد عقود من القطيعة السياسية، بدأت محادثات تطبيعية غير مسبوقة بين القاهرة وطهران، بما فيها تقارير عن تبادل دبلوماسي جزئي.

هذا يُعد خطًا أحمر في الحسابات الأمريكية والإسرائيلية، لأن استقرار العلاقة بين البلدين يُربك أي مشروع للتطويق أو العزل السياسي لإيران.

  1. إيران – السعودية
    الاتفاق التاريخي بوساطة صينية، أعاد العلاقات بين طهران والرياض بعد سنوات من القطيعة والتوتر. هذا التحالف الجديد قلّص فرص الاستثمار في الفتنة الطائفية، وأربك الأجندة الأمريكية التي طالما لعبت على وتر “السنة والشيعة”.
  2. السعودية – باكستان
    في مواجهة التغول الأمريكي الصهيوني، بدأت الرياض تعيد تقييم تحالفاتها، ومنها تطوير علاقاتها مع باكستان، الدولة النووية ذات الثقل الإسلامي الكبير. هذا التعاون يُقلق الغرب، لأنه يعيد باكستان إلى دائرة التأثير الإقليمي الإسلامي بعيدًا عن الوصاية الأمريكية.

لبنان: عنق الزجاجة في المخاض الإقليمي
وسط هذا الحراك، يظل لبنان في قلب التحولات، لا لأنه الأقوى أو الأغنى، بل لأنه ببساطة المفترق الذي تمر منه المشاريع أو تتحطم عنده.

لبنان ليس “ساحة صراع” فقط، بل مختبر حقيقي لإعادة تعريف الشرق الأوسط. من الضغط الاقتصادي، إلى التهديدات الأمنية، إلى الحرب الإعلامية، كل ذلك يُدار كجزء من معركة الهيمنة أو التحرر.

واشنطن تترنح.. لكن لم تسقط بعد
الناهب الأمريكي لم يسقط تمامًا، لكنه لم يعد يتحكم في المسرح. و”فرط القوة” الذي يستخدمه اليوم -سواء في التهديد أو العقوبات أو الفوضى- ليس سوى ارتداد جنوني لنظام يحتضر.

من أفغانستان إلى أوكرانيا، ومن العراق إلى فلسطين، تتساقط أوراق السيطرة الأمريكية تباعًا.

المرحلة المقبلة: بين وعي الشعوب وخيارات النُخَب
ما نحتاجه في هذه اللحظة التاريخية ليس فقط التحالفات السياسية، بل:

وعي شعبي واسع بأن أمريكا لم تعد ضامنًا للاستقرار، بل مولّدًا للفوضى.
نُخب وطنية تعرف متى تفتح الأبواب ومتى تغلقها.
إعلام مقاوم يحمي العقول من الترويض، ويكشف خدع “السلام المُسموم”.

الخاتمة: العالم الجديد يُولد من رماد الهيمنة
نعم، واشنطن تترنح.
ونعم، المنطقة تعيد ترتيب أوراقها.
لكن المسار لم يُحسم بعد.
وإذا كان الليل طويلًا، فالضوء قادم من الشرق، لا من الغرب هذه المرة. والمشروع الصهيوني الأمريكي، وإن تمدد قليلًا، فقد أصبح مكشوفًا ومرفوضًا ومحدودًا.

المعركة اليوم هي بين نُخب تُطبع، وشعوب ترفض وتقاوم وتصوغ شرقها الجديد بوعي وتجربة ودمٍ أيضًا.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.