في مسار إثبات الكفاءة وحسن السلوك للأميركي، تجاوز نواف سلام وجوزف عون والفريق السياسي الأميركي في السلطة في لبنان امتحان إقرار الورقة الأميركية الأولى بنجاح، والآن عليهم الانتقال إلى المرحلة الثانية: إقرار الورقة الإسرائيلية، أي الأميركية الثانية، ومن بنودها تسليم ١٤ قرية من قرى الحافّة بشكلّ كلّي أو جزئي إلى العدو، ونسيانها!
لن تُسمّى هذه القرى في أدبيات “الدولة” أرضًا محتلّة أو حتى متنازعًا عليها. ستصبح بلغة ضلال هذه “الدولة” أرضًا إسرائيلية. وبالطبع، على أهلها أن يجدوا حلولًا أخرى، أرضًا أُخرى، أن يجدوا شتاتًا يسكنون فيه، وألّا يفكّروا في العودة إليها. وربّما سيكون عليهم، بأمر من سلطة الوصاية الأميركية، أن يمحوا من ذاكرتهم صور بيوتهم، ورائحة أرضهم، وكلّ أعمارهم هناك. ستكون تلك طريقة “الدولة” في مكافأة قرى الحافّة، التي قاتلت عدوّها ومنعته من تدنيس أرضها طوال ٦٦ يومًا وليلة من المعارك والمواجهات، وحين سلّمت أمرها “للدولة” ولدبلوماسية الدموع، ما اكتفى العدوّ بتدنيسها فحسب، بل طالب بضمّها إليه. و”الدولة” اللاهثة من أجل إثبات حسن نواياها للعدوّ، قدّمتها له على طبق من ذلّة!
هذا هو المشهد الذي يريده الأميركي، كبداية. فالتوسّع الإسرائيلي لن تشبعه أربع عشرة قرية، وإن كانت رمزيّتها بالذات تعنيه كثيرًا، فهي التي حطّمت غروره وعنجهية تفوّقه في المواجهات! وهي التي فرّ منها ذات تحرير تحت جنح الخيبات والظلام، بعد أن حطّمت أنف جبروته عمليات المقاومة!
بحسب ما نقل السيّد جميل السيد عبر منصة x، تسلّم الموفد الأميركي توم برّاك الردّ الإسرائيلي على “الخطوة اللبنانية” المتمثّلة بإقرار الورقة الأميركية حول نزع سلاح المقاومة، وورد فيه ترسيم الحدود مع لبنان وفقاً لعدّة شروط ومنها أن يلتزم لبنان بإعطاء “إسرائيل” الحق في البقاء داخل ١٤ قرية وإفراغها من الأهالي كلياً أو جزئياً. البلدات المطلوب ضمّها بشكل كلّيّ هي: العديسة، كفركلا، حولا، مركبا وعيتا الشعب، والبلدات التي يريد العدوّ إقامة مواقع عسكرية دائمة فيها هي: الخيام، رامية، يارون، عيترون، علما الشعب، الضهيرة، مروحين، مارون الراس و بليدا! ونُقِل عن برّاك أنّه لا حلّ سوى “تنازل الطرفين” للوصول لاتفاق يحمي من أي اعتداء مستقبلي وأنّ “إسرائيل” لن تتراجع عن الشروط التي طلبتها!
في إطار تبريره لإقرار الورقة الأميركية، كان رئيس الجمهورية جوزف عون قد قال إنّه يعتمد سياسية “خطوة بخطوة”، بمعنى أنّ هذا الإقرار بظاهره المذلّ وباطنه المهين إنّما هو تنازل ضروريّ سيؤدّي إلى خطوة إسرائيلية بالمقابل وتتمثّل بانسحاب العدوّ من النقاط الخمس ووقف اعتداءاته المتواصلة وإعادة الأسرى. ما أدَّى إليه هذا الإنبطاح التنازليّ كان العكس تمامًا: طلب احتلال رسميّ لا تملك سلطة الوصاية الأميركية أن ترفضه حتّى! وبذلك يكون حديث برّاك عن ضرورة “تنازل الطرفين” نوعًا من السخرية السوداء! الفكرة برمّتها تكمن في التساؤل عمّا يدور الآن في رأس هذه السلطة التي لا يمنحها الأميركي حتى حقّ حفظ ماء الوجه، فيفضح انبطاحها بالطريقة الأكثر إذلالًا. وبذلك، يسهّل الأميركي على المغرّر بهم السُذّج الموعودين بحلول “دبلوماسية” توقف سيل الدم واحتلال الأرض حسم أمرهم، إذ يقول لهم بوضوح تام: التنازل الأوّل سيؤدي إلى المزيد والمزيد من التنازلات، ولا حلّ يردع هذا العدوّ إلّا السّلاح.
بناء على ما تقدّم، لا يمتلك اليوم أيّ عاقل، إن وُجد، في صفوف دعاة نزع السلاح وتحاشي الصدام مع العدو حقّ افتراض حسن النيَّة. فالأمر بات أوضح من أن يحتاج شرحًا أو إثباتًا. الإسرائيلي بنفسه يقول لكم: سأنتزع ما أشاء من أرضكم، باستخدام دبلوماسيتكم هذه، وسأتَّخذ من انبطاحكم الذليل هذا جسر عبور إلى ما لم أستطع تحقيقه بالقوّة. يقول لكم إنه حان وقت استعادة هيبتي وجبروتي اللّذين كانا قد تحطّما تحت أقدام هذه القرى المقاتلة. ماذا أنتم فاعلون؟ بكلام آخر، يمعن الأميركي، بلسان “الإسرائيلي”، في إذلال سلطة الوصاية، ويضعها عارية من كلّ احتمالات الكرامة الوطنية على منصّة الذلّ على مرأى العالم كلّه، ويُشهد، من حيث لا يدري، كلّ أهل الأرض أنّ المقاومة هي السبيل الأوحد للتحرير وللعيش بكرامة!
ببساطة، يلقّن “الإسرائيلي” العالم كلّه الآن درسًا في جدوى المقاومة، وبعنجهية أعمت البصر والبصيرة، يقول الأميركي لكلّ شعوب أهل الأرض، إن كانت فرص النجاة لمن يقاومنا ضئيلة، فهي معدومة لمن ينبطح لنا!
“خطوة بخطوة” إذًا، مع مهزلة “تنازل الطرفين”، تعني ببساطة أن يستمرّ لبنان في التنازل ويستمرّ الإسرائيلي بالتوسّع.. هي سياسة ستؤدي حتمًا، إذا تواصلت، إلى لافتات شوارع باللغة العبرية في بيروت، وإلى زبائن ببزات جيش الاحتلال في المقاهي والمطاعم. خطوة بخطوة، نحو هدر كلّ الدّم العزيز الذي بُذل في هذه الأرض وكلّ التّعب الشريف الذي تراكم سنين فوق سنين من عمر الأحرار الشرفاء. “خطوة بخطوة”، نحو الهلاك المذلّ، نحو لبنان إسرائيليّ! كل ذلك كان يمكن أن يكون حقيقيًا، قابلًا للحدوث لولا المقاومة، لولا الصّدق الذي ما زال يسطع من صوت شهيدها الأسمى: “لبنان هذا لن يكون إسرائيليًا!”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.