د. أكرم شمص | خاص الناشر
في مشهد يختلط فيه الدمع بالعهد، والحزن بالصلابة، أطلّ رئيس المجلس السياسي في حزب الله، السيد إبراهيم أمين السيد، من على منبر الحسين في مجمع سيد الشهداء، حاملًا في صوته نبرة وداع ثقيلة، وفي كلماته شعلة لا تنطفئ من الإيمان بالمشروع الذي تركه شهيد المقاومة الأسمى السيد حسن نصر الله. فجاءت كلمته لتكون أكثر من رثاء، إنها بيان سياسي وروحي وإستراتيجي يؤسس للمرحلة المقبلة، ويؤطر المفاهيم التي يجب أن تسود في عقل ووجدان جمهور المقاومة.
أولًا: دموع الولاء.. الحزن ليس نهاية الطريق
افتتح السيد إبراهيم كلمته بجملة مؤثرة حملت كلّ معاني الفقد:
“يحزنني أن أقف على منبر طالما وقف عليه العزيز والحبيب الشهيد الأسمى، سيد شهداء الأمة، السيد حسن نصر الله..”. هذه العبارة لم تكن مجرد تعبير عاطفي، بل بداية مشهد وجداني مركب، يُظهر كيف تحوّل نصر الله من قائد إلى رمز تتجلّى فيه صفات الأمة والنهج. ومنبره لم يكن منبر كلام، بل منبر مشروع، وقف عليه ليخاطب العقول والقلوب معًا، ويُرسي مفاهيم الكرامة والسيادة.
وفي حديثه عن السيد هاشم صفي الدين وغيره من الشهداء، يؤكد السيد إبراهيم أن المسيرة واحدة والدم مشترك، وأن الذين مضوا هم “حاضرون فينا”، كما يقول المفكرون الإسلاميون الذين يرون في الشهادة حضورًا أعلى لا غيابًا.
ثانيًا: عقلٌ بحجم أمّة.. نصر الله كقائد استثنائي
في توصيفه لشخصية السيد نصر الله، قال: “السلام على عقلك الذي كان بحجم أمّة، يسع الجميع ويضمّ الجميع” بهذه العبارة، “يقدّم السيد إبراهيم بورتريهًا نادرًا للقائد الشهيد..”. حيث إنه يرسم صورة متكاملة لشخصية السيد نصر الله من حيث عقله، وقيادته، وتواضعه، وشموليته، وقدرته على احتضان الجميع، وليس فقط أنه كان “زعيمًا سياسيًا”.
لم يكن مجرد عقل عسكري أو سياسي، بل كان عقلًا جامعًا، قادرًا على احتضان التيارات والمذاهب والطوائف دون أن يتنازل عن جوهر مشروع المقاومة. الشهيد الاسمى السيد حسن نصر الله لم يكن فقط زعيم طائفة أو قائد حزب، بل ضمير جماعي يتّسع للبنان وفلسطين وكلّ المظلومين.
وتابع قائلًا: “كنت للناس كأمة… الجميع كان ينتظر طلّتك… يا أشرف الناس”. إن هذه الإشارة إلى عبارة “يا أشرف الناس”، التي كان يختم بها السيد نصر الله خطاباته الكبرى، ليست مجازًا. إنها شيفرة وجدانية ومفصل تعبوي، كانت تنقل المقاومة من مستوى الخطاب إلى مستوى المعركة.
ثالثًا: من الحزن إلى النهضة.. الحب لا يُقاس بالدموع
في مقطع بالغ القوّة، انتقل السيد إبراهيم من الرثاء إلى التحفيز والتكليف: “مع السيد نصر الله بكينا وسنظل نبكي، لكن الذي يحبّه يجب أن ينهض بمشروعه وإفشال مشروع الأعداء”.
هذا المفصل يؤكد أن البكاء لا يكفي، والوفاء لا يكون بالرثاء، بل بترجمة دم الشهداء إلى أنتصارات. والحب هنا ليس عاطفة فقط، بل مسؤولية وقرار واستمرارية. فالمعركة التي خسرنا فيها القائد، لم تنتهِ بل اشتدت. إنه نوع من الحداد المقاوم الذي لا يركن إلى العجز، بل يتحوّل إلى دافع للنهوض وإكمال المسيرة.
رابعًا: المقاومة جيلًا بعد جيل.. تسليم الراية المنتصرة
قال السيد إبراهيم السيد: “أقول لكل الطواغيت: انتظروا قدوم الجيل الغاضب والمنتقم… المهم أن نسلمه الراية مرفوعة”. وهنا يضع السيد إبراهيم نظرية الجيل الجديد في المقاومة، حيث لا مكان للجمود أو الانقطاع التاريخي. والجيل الحالي لا يموت بل يُسلّم. والمشروع لا يُدفن مع رجاله بل يُستأنف. والراية ليست فقط شعارًا بل رمزًا للهُوية التاريخية المتوارثة. وهو بذلك يُحاكي أدبيات عاشوراء: حين تُحمل راية الحسين من بعده، وتُكمل المسيرة في مواجهة الطغيان.
خامسًا: إيران.. قلب المشروع ودرعه
وفي خطاب إستراتيجي واضح، قدّم السيد أربعة أركان لانتصار إيران: “العامل الأول هو الإمام الخامنئي، والثاني الشعب، والثالث القوات المسلحة، والرابع الدولة”. وهذا التقسيم يُظهر تماسك البناء السياسي والعسكري والاجتماعي للجمهورية الإسلامية، ويؤكد أن إيران ليست محض نظام، بل منظومة مقاومة متكاملة، قائمة على الشرعية الشعبية والصلابة العقائدية والقرار السيادي.
وأضاف: “تمّت محاربة إيران لأنها وقفت إلى جانب فلسطين والمظلومين” وبهذا، يُسقِط السيد إبراهيم الرواية الغربية التي تُشيطن إيران، ويعيد تعريفها كدولة مقاومة ذات رسالة إنسانية. كما يسأل: “أي دولة في العالم تجرّأت على الوقوف إلى جانب فلسطين؟” إنه سؤال كاشف، يسلّط الضوء على الخزي العربي الرسمي والتواطؤ الدولي، في مقابل موقف إيران الأخلاقي الثابت.
سادسًا: عصر المقاومة.. لا مكان للخضوع
أحد أخطر وأكثر مقاطع الخطاب رمزية هو: “الزمن زمننا… والعصر عصرنا… لأن المتخاذلين ليس لهم زمن” بهذه العبارة لا تضع فقط المقاومة في موقع الفعل، بل تصادر زمام الزمن من أيدي الطغاة. فنحن أمام فلسفة تاريخية جديدة، تعتبر أن المشروع المقاوم هو الذي يصنع الحاضر ويُعيد كتابة التاريخ، وأن المقاومات في لبنان وفلسطين والعراق واليمن هي عصب هذه المرحلة، ورمز الكرامة الجماعية.
خاتمة: من المجالس إلى السواتر.. الاتّجاه عاشورائي
انها كلمة وموقف ينقلنا “من المجالس إلى السواتر، الوجهة الحقيقية لعاشوراء” انها كلمة تختصر فلسفة المقاومة الحسينية في المعركة المعاصرة. فليس المطلوب البكاء فقط، بل ترجمة كربلاء إلى موقف، وترجمة عاشوراء إلى جبهة. إن الخطاب كله هو بيان عاشورائي مقاوم، يربط دماء الشهداء بمشروع الأمة، ويجعل من الفقد دافعًا للنهضة.
كلمة السيد إبراهيم أمين السيد لم تكن خطاب رثاء، بل بيان عهد ومواصلة. فيها حزن، لكن لا وهن. فيها دموع، لكن لا انكسار. إنها خلاصة مسار طويل من التضحيات، تُختزل في لحظة غياب الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله، لتعلن ولادة زمن جديد، وزحف جيل جديد، يحمل راية “يا أشرف الناس” في قلبه، ويكمل الطريق على الساتر. إنها الكلمة التي تليق بشهيد يُسمّى “سيد شهداء الأمة”، وتليق بأمة اختارت أن يكون الخضوع موتًا… والمقاومة حياة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.