محمد علي | خاص الناشر
استكمالًا للمقال السّابق الذي نُشر منذ أيّام حول دور الهندسة المعماريّة في الحدّ من الجرائم، ومن باب اغتنام الفرصة حيث لم نزل في مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب الأخيرة، ارتأيت أن أُلفت النّظر إلى مسألة أُخرى قبل فوات الأوان. ما أُريد أن أتحدّث عنه هو المسمّى بـ “العمارة العدائيّة” (hostile architecture)، والتي يُطلق عليها أيضًا “العمارة الدّفاعيّة” (defensive architecture) أو “التّصميم الإقصائيّ” (exclusionary design). وتشير هذه المصطلحات المرادفة إلى استراتيجيا مدينيّة (مدينيّة، أي متعلّقة بالمدينة، فالمُراد: “urban”، وليس “civil”.) تستغلّ الأماكن والبُنى العامّة من أجل منع نشاطات معيّنة أو حظر بعض أصناف المجتمع من استخدامها ، ولا سيّما الفقراء والمشرّدين (homeless).
قبل الحديث عن أهداف وآثار العمارة العدائيّة، لا بُدّ من ذكر بعض الأمثلة عليها. فمن جملتها المسامير والأشواك الموضوعة على النّوافذ والأرصفة خارج الشّقق الفاخرة، والمقاعد المائلة والمجزّأة بمساند للذّراعين التي تعمل كفواصل مانعة للاستلقاء، والصّخور والمسامير الموجودة أسفل الجسور، وغيرها ممّا يُراد به عدم توفير مكان للمشرّدين. ومن جملة التّصاميم العدائيّة أيضًا الحدائق الخالية من الظِّلِّ والتي تهدف إلى ثني النّاس عن البقاء فيها طويلًا، والمقاعد غير المريحة الحجريّة وغيرها، ولوحات الاتّكاء (leaning bars) الموضوعة في الأماكن العامّة بدلًا من المقاعد، فإنّ هذه من التّصاميم المموّهة إلّا أنّها تؤثّر بشكل مباشر على الشّباب وكبار السنّ وذوي الاحتياجات إضافةً إلى المشرّدين.
نعم، بعض التّصاميم العدائيّة أو الدّفاعيّة قد تساعد في مكافحة الجرائم، حيث إنّ الحدّ من تسكّع الشّباب في بعض الأماكن والتَّجمُّعات الزّائدة في بعض المساحات العامّة التي قد لا يوجد فيها رقابة كافية قد يقلّل احتمال وقوع الجرائم. ومثال واضح على ذلك ما يُعتمد في بعض المدن حيث توضع الإضاءة الزّرقاء في المراحيض العامّة بحُجّة أنّها تعسّر رؤية الأوردة لمن يريد تعاطي المخدّرات. لكن بشكل عامّ، قد تكون هذه التّصاميم مسوّغة للجريمة (criminogenic) من عدّة جهات:
1.إنّ احتمال قيام الشّباب بارتكاب جريمة في الأماكن العامّة المكشوفة أقلّ منه في الأماكن الخاصّة الخالية من الرّقابة سواء كانت طبيعيّة أو تقليديّة. فإشعار الشّباب بأنّه لا مكان لهم في الفضاء العامّ يطبّع عندهم الشّعور بالانعزال، وهو عين فلسفة السّجن في واقع الأمر.
2.إنّ من آثار العزل والتّهميش المترتّب على كثير من هذه التّصاميم أنّه يؤدّي إلى ارتكاب الجرائم الاضطراريّة (survival crimes) تعويضًا عن خسارة التّسهيلات العامّة كالمقاعد غير المجزّأة.
3.إنّ هذه التّصاميم قد تزيد الفئات المستضعفة شعورًا بالضّعف والبؤس والتّهميش، الأمر الذي قد يدفعهم إلى قصد أماكن أقلّ رقابة من قِبل الجهات الرّسميّة، فيصبحون هناك عرضةً للجرائم والاعتداء والتَّحرُّش ونحو ذلك. فبدلًا من الحدّ من الجريمة، تكون التّصاميم مسوّغة لها.
4.إنّ لهذه التّصاميم من الآثار النّفسيّة ما قد يزيد في احتمال وقوع الجرائم باعتبار أنّها تصنع جوًّا اجتماعيًّا مليئًا بالشّبهة ومظاهر الاستهداف والإلغاء والاستبعاد المتعمّد. ولا شكّ أنّ هذا يؤثّر سلبًا على الصحّة النّفسيّة، الأمر الذي قد يؤدّي إلى الجرائم والمخالفات القانونيّة كما لا يخفى.
طبعًا، الآثار السّلبيّة للعمارة العدائيّة على الصّعيد الصحّي لا تقتصر على الصحّة النّفسيّة، بل تشمل أيضًا الحالات الناتجة من قلّة النّوم، والنّاجمة عن عدم توفّر مقدّمات النّظافة اللّازمة، وما قد يترتّب على البقاء طويلًا في الأماكن الباردة حيث لا يوجد إضاءة كافية، فإنّه قد يؤدّي إلى هبوط الحرارة (hypothermia) وقدم الخنادق (trench foot) وقضمة الصّقيع (frostbite) وغيرها من المشاكل الصحّية.
المشكلة الرّئيسيّة في هذا النّمط من التّصاميم هو أنّه يجعل الأولويّة لمنطق “المدينة المحصّنة” (fortress-city) بدلًا من الاهتمام بوضع الحلول للمشاكل الأمنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي قد تدفع بفئات مختلفة من النّاس نحو المساحات والأماكن العامّة. ومن الواضح أنّ هذا ليس أمرًا مستقلًّا عن السّياسة، إذ أنّه مظهر للقوّة الباردة التي تتمتّع بها السّلطة والتي تستطيع أن توظّفها من أجل سدّ الثّغرات في أدائها السّياسيّ. فعلى سبيل المثال، من المعلوم أنّ الكثير من حالات التَّشرُّد هي نتيجة الفساد السّياسيّ والقانونيّ المتراكم، وضعف الاقتصاد وغير ذلك من العوامل المؤثّرة على المجتمع. لكن مع ذلك، تُستخدم تصاميم العمارة العدائيّة من أجل تلميع صورة السّلطة أمام السِّيَّاح والأجانب للاستفادة من ذلك سياسيًّا وإعلاميًّا.
إذًا، لا ينبغي الشَّكُّ في أنّ هذا الموضوع له بعد نظاميّ، وهو أهمّ بكثير ممّا قد يبدو للوهلة الأُولى، فإنّ له دلالات على الصّعيد السّياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ والثّقافيّ. ثُمّ له تجلّيات في نسبة الجرائم وفي الصحّة العامّة والعدالة الاجتماعيّة. والغرض من تصاميم العمارة العدائيّة هو استهداف من فشلت الجهات الرّسميّة في تأمين احتياجاته؛ هي حرب باردة على الفقراء والمنسيّين وضحايا المؤامرات الكبرى. ولا ينبغي للمسؤولين في مثل مُدننا وقرانا التي تفتخر بصمود أبنائها أن يغفلوا عن ذلك فيكونوا عونًا للمتورّطين في مشاريع الاستكبار على إلغاء المستضعفين..
في لبنان، لا سيّما بعد الحرب الأخيرة، هناك الكثير من النّاس الذين أُخرجوا من بيوتهم وليس السّبب في عدم عودتهم إليها إلّا تأخُّر إعادة الإعمار من قِبل الدّولة اللّبنانيّة، التي ما برحت تخضع لضغوطات القوى الخارجيّة التي تحاول استغلال هذا الأمر كورقة قوّة لفرض شروط سياسيّة على المقاومة ومجتمعها، ومن ثَمّ تحديد مصير لبنان فيما يرتبط بالصّراع مع الكيان الصّهيونيّ. من جهة المتصدّين لإعادة الإعمار داخل بيئة المقاومة، علينا ألّا نغفل عن أهمِّيَّة الاعتبارات المتعلّقة بمثل قضيّة العمارة العدائيّة، فإنّ هذا أقلّ الواجب في حقّ أهلنا وأبنائنا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.