الهندسة المعماريّة والحدّ من الجرائم

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

محمد علي | خاص الناشر

بعد مرور نصف عام على العدوان الإسرائيليّ على لبنان، من المفيد أن نتحدّث ولو بشكل مختصر عن بعض القضايا التي لها ارتباط بعمليّة إعادة الإعمار من جهة، وبالتّأسيس لمجتمع يحاول القيام من جديد من جهة أُخرى.
لا أتحدّث عن الجنبة السّياسيّة لهذه القضيّة، وإنّما عن دور الهندسة المعماريّة في الحدّ من الجرائم. فمن المعلوم أنّ نسبة الجرائم متأثّرة بعوامل وأُمور متعدّدة ومتنوّعة مثل المستوى التّعليميّ ونسبة التّوظيف والتّربية الدّينيّة وتوفّر الأنشطة الرّياضيّة لدى أبناء المجتمع وحملات التّوعية الاجتماعيّة وغيرها، إلّا أنّ دور الهندسة المعماريّة في هذا المجال ما زال مهملًا إلى حدّ كبير. وهذه فرصة لتسليط الضّوء عليه عبر مفاهيم ونظريّات تُبحث في علم الجرائم (Criminology).

تؤدّي الهندسة المعماريّة دورًا بارزًا في عمليّة الحدّ من الجرائم، كما يؤكّد مفهوم “الوقاية من الجريمة عبر التّصميم البيئيّ” (CPTED)، والذي يتمحور حول كيفيّة تأثير المباني والشّوارع والمساحات العامّة على السّلوك الاجراميّ. طبعًا، إنّ هذا يعتمد على عدّة أساليب وعوامل وتفاصيل. أوّلها ما يعبّر عنه بـ “التَّحكُّم بالوصول” (access control)، الذي يشير إلى تصميم الأبنية والمجامع السّكنيّة والاستفادة من الحواجز المادِّيَّة أو غيرها كجزء من هندسة ذكيّة تسيّر الحركة العامّة وتعزّز حضور النّاس في ممرّات ونقاط أكثر أمنًا وانضباطًا. فعندما يصبح من الصّعب أو المعقّد الوصول إلى مكان إلّا من خلال مدخل واحد فيه الكثير من النّاس، يكون حصول الجريمة فيه أقلّ احتمالًا من غيره. وهذا نوع من الرّدع البيئيّ، إذا صحّ التّعبير.

المفهوم الثّاني هو ما يُطلق عليه “المراقبة الطّبيعيّة” (natural surveillance). وهو إشارة إلى ما من شأنه تحسين الرّؤية والشّفافيّة في الأماكن العامّة، كما لو تمّ تحسين الإضاءة في الطّرقات والشّوارع والحدائق ومواقف السّيارات ومداخل الأبنية، حيث إنّ المحيط الذي تتوفّر فيه إضاءة جيّدة ومناسبة لا يصلح للجريمة بشكل عامّ، لأنّ الإضاءة تُشعر النّاس بالأمان وتشجّعهم على التَّجوُّل والتّواجد، ما يعني وجود شهود فيما لو كانت الجريمة ستقع. على أنّ هذا المثال متوقّف إلى حدّ ما على عمل البلديّات، بل وتوفير الكهرباء من قِبل الدّولة أوّلًا، لكن لا يخفى أنّ هناك مجالًا للمبادرات الفرديّة والاجتماعيّة.

مثال آخر إلى جانب تحسين الإضاءة هو الاستفادة من التّصاميم التي تسوّغ للأفراد مراقبة محيطهم بشكل طبيعيّ ضمن حركتهم اليوميّة، مثل النّوافذ الواسعة والواجهات الشّفافة في المتاجر وغيرها من الأماكن العامّة، إضافةً إلى تجنّب الجدران والأسوار والنّباتات والأشجار العالية الحاجبة للرّؤية، والسّعي من أجل تحويل الأماكن المعزولة والمنزوية إلى أماكن قابلة للضّبط ومستوعبة للحركة (كما يُستفاد ذلك من المفهوم الأوّل). والتّركيز على أساليب المراقبة الطّبيعيّة له فوائد، فمن جهة يساعد في تكوين حالة من الوعي بحيث يدرك الجميع أنّه محاط بشبكة مراقبة طبيعيّة قائمة بنفسها؛ ومن جهة أُخرى، لا شكّ أنّه الأنسب حاليًّا بلحاظ بعض الاعتبارات الأمنيّة، لا سيّما بعد الحرب الأخيرة.

المفهوم الثّالث هو “الفضاء القابل للدّفاع” (defensible space)، وهو المطلوب حيث يسدّ الثّغرة بين دور السّلطة ودور الشّعب من ناحية، وبين الأماكن العامّة والخاصّة من ناحية أُخرى. ويمكن توضيح ذلك من خلال تسليط الضّوء على بعض المفاهيم المتشعّبة منه. فإنّه من الطّبيعيّ أنّ المهندس المعماريّ قادر على اعتماد التّصاميم التي تُشعر سكّان المنطقة بالمُلكيّة، وهذا الشّعور (sense of ownership) يعطي انطباعًا يساعد على الحدّ من الجريمة، لا سيّما إذا اجتمع بالجنبة الاجتماعيّة التي تتلخّص بما يُعبّر عنه بـ “تعزيز الإقليميّة” (territorial reinforcement)، ومعناه تطوير الشّعور العامّ بالمسؤوليّة اتّجاه مبنى أو شارع أو مدينة أو مكان معيّن. فقد أثبتت الدّراسات أنّ هذا يعطي شعورًا بأنّ المحيط الذي يُراد ارتكاب الجريمة فيه غير مُهمل، أو أنّه يحظى بما يكفي من التّنظيم والانتباه والاهتمام المتواصل لجعل فكرة الجريمة أمرًا غير عقلائيّ. فعلامات الإهمال تجذب السّلوك الإجراميّ.

ومن النّظريّات المهمّة في هذا المجال “نظريّة النّوافذ المحطّمة” (Broken Windows Theory)، التي تفترض أنّ علامات الإهمال مثل النّوافذ المكسورة والكتابة على الجدران ووجود النّفايات وغير ذلك ترفع انطباع الملكيّة والاهتمام ووجود السّيطرة الفاعلة والانتباه وما إلى ذلك، فيزداد احتمال وقوع جرائم أشدّ خطورة نتيجة إبداء صورة تجذب السّلوكيّات الإجراميّة. من هنا يركّز من يبحث حول هذه النّظريّة على أهمِّيَّة الصّيانة (maintenance) المتواصلة للأبنية والمتاجر والأماكن العامّة.

الخلاصة أنّ للهندسة المعماريّة مدخليّة في الحدّ من الجرائم من خلال عدّة أساليب تندرج تحت مفهوم “تقسية الأهداف” (target hardening)، وبإمكان هذه الأساليب أن تعوّض عن تقصير الجهات الرّسميّة في تحقيق الأمن وحماية النّاس إذ أنّ الحدّ من الجرائم يُعدّ أولويّة إنسانيّة واجتماعيّة وإن كانت من مسؤوليّات الدّولة والمتصدّين للشّؤون العامّة على نحو الخصوص. وكنّا قد رأينا في أيّام الحرب الأخيرة كيف بادر أبناء المناطق لحماية بيوت النّاس وأرزاقهم من السّرقة، حيث تمّ القبض على الكثير من السّارقين من قِبل النّاس وليس أجهزة الدّولة. كذلك الهندسة المعماريّة فإنّها تفتح أُفُقًا جديدًا في هذا المجال. وهذا ما يمكن الانتفاع منه في عمليّة إعادة الإعمار من خلال الالتفات إلى ما تمّت الإشارة إليه من مفاهيم.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد