د. أكرم شمص – خاص الناشر |
مقدمة
يشهد لبنان في هذه المرحلة تقاطعًا حادًا بين ضغوط خارجية وإخفاق داخلي في صيانة السيادة، تجلّى مؤخرًا في مشهدين متوازيين: تصريحات علنية صادرة عن مبعوثة أميركية تمسّ صميم القرار اللبناني، واستدعاء السفير الإيراني على خلفية تغريدة عامة لم تشر إلى لبنان. يهدف هذا المقال إلى تحليل هذين الحدثين من منظور قانوني ودبلوماسي، انطلاقًا من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961)، ومبدأ السيادة الوطنية المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة، وصولًا إلى تقييم الأداء الرسمي اللبناني وأثره على صورته الدولية.
أولًا: خرق واضح لاتفاقية فيينا من قِبَل الولايات المتحدة
أطلقت نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، تصريحات من قصر بعبدا وصفت فيها حزب الله بأنه مهزوم عسكريًا، مطالبة بإقصائه من الحكومة ونزع سلاحه. هذه التصريحات تُعد خرقًا صريحًا للمادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، التي تنص على أنه يجب على الدبلوماسيين احترام قوانين الدولة المضيفة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. كما تُعد انتهاكًا للفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، التي تمنع التدخل في المسائل الداخلة ضمن الصلاحيات السيادية للدول. وتتجاوز هذه التصريحات الدور التمثيلي المرسوم للبعثات الدبلوماسية، والتي تقتصر وظائفها، بحسب المادة 3 من اتفاقية فيينا، على تمثيل دولهم، وحماية المصالح، وتنسيق العلاقات، من دون الإملاء السياسي أو توجيه المؤسسات.
ثانيًا: الرد الرسمي اللبناني.. خجول وغير متوازن
رغم وضوح خرق الأعراف الدبلوماسية، اكتفى مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية اللبنانية ببيان مقتضب وصف فيه التصريحات بأنها تعبر عن رأي خاص، دون اتخاذ خطوات قانونية أو دبلوماسية كاستدعاء السفيرة الأميركية، أو تقديم احتجاج رسمي لدى الأمم المتحدة أو الجامعة العربية. وقد كان الأجدر بالدولة اللبنانية أن تستدعي السفيرة، وتسلمها مذكرة احتجاج رسمي، وتعلن موقفًا واضحًا يؤكد أن الشأن السيادي غير قابل للتفاوض أو التوجيه الخارجي، وأن مكونًا وطنيًا لا يُمكن أن يكون موضوعًا لتعليمات خارجية.
ثالثًا: استدعاء السفير الإيراني.. خضوع لموازين داخلية
في المقابل، تم استدعاء السفير الإيراني بسبب تغريدة عامة لم تتضمن أي إشارة إلى لبنان. من الناحية القانونية، لا يُعد هذا الفعل تدخلًا وفقًا للمادة 41 من اتفاقية فيينا، لأن التغريدة لم تتجاوز حدود الرأي العام ولم تُخاطب الدولة اللبنانية بشكل مباشر أو غير مباشر. هذا الاستدعاء يعكس انحيازًا سياسيًا داخليًا لا يستند إلى مرجعية قانونية، ويبدو أنه أُنجز لتسجيل نقاط في الصراع الداخلي لا للدفاع عن السيادة.
رابعًا: انتهاك الأعراف الدبلوماسية باستدعاء وزير الخارجية إلى السفارة الأميركية
من أخطر مظاهر هذا الخلل السيادي، هو استدعاء وزير الخارجية اللبناني إلى مقر السفارة الأميركية لتلقّي ما سُمّي تعليمات عالية المستوى تتعلق بملف نزع سلاح حزب الله. ويُعدّ هذا الأمر انتهاكًا صريحًا لمبدأ التكافؤ بين الدول، ويتعارض مع الأعراف الدولية التي تمنع أي جهة دبلوماسية من استدعاء ممثل سيادي رفيع إلى أرض ذات سيادة أجنبية. هذا الفعل لا يُعد فقط إخلالًا دبلوماسيًا، بل إهانة للكرامة الوطنية، وتكريسًا لمنطق الوصاية السياسية، لا الشراكة السيادية.
خامسًا: ازدواجية المعايير وتسييس العمل الدبلوماسي
يُظهر هذا السلوك انتقائية فادحة في تطبيق الأعراف الدولية، إذ يتم تجاهل التصريحات الأميركية الفظة، ويُسارَع في المقابل إلى استدعاء السفير الإيراني دون موجب قانوني. وهذا يعكس تسييسًا مفضوحًا للدبلوماسية اللبنانية، يجعل من وزارة الخارجية أداة صراع داخلي بدل أن تكون حامية للسيادة الوطنية.
سادسًا: دور القوى الداخلية في تغذية الضغط الخارجي
من اللافت أن التصريحات الأميركية تتناغم مع خطابات قوى سياسية داخلية، أبرزها حزب “القوات اللبنانية”، التي تُجاهر بطلب نزع سلاح المقاومة، وتدعو لتدويل هذا الملف. وهذا التلاقي يُحوّل النقاش حول الاستراتيجية الدفاعية من حوار داخلي إلى منصة ضغط خارجي، ما يُهدد السلم الأهلي، ويزيد من انقسام المشهد الوطني.
سابعًا: توصيات لإعادة الاعتبار إلى السيادة الدبلوماسية
- إعادة تفعيل دور وزارة الخارجية كجهة سيادية تمثل الدولة، لا القوى السياسية.
- استدعاء أي سفير يتجاوز حدوده، دون النظر إلى موقعه أو جنسيته.
- احترام مبدأ التكافؤ بين الدول، ورفض اللقاءات السيادية على أرض البعثات الأجنبية.
- العودة إلى مبادئ القانون الدولي واتفاقية فيينا كمرجع وحيد في إدارة العلاقات الخارجية.
- توحيد الخطاب الرسمي اللبناني في المحافل الدولية، بعيدًا عن التجاذب الداخلي.
خاتمة
لا تُبنى السيادة على بيانات خجولة ولا على استرضاء القوى الكبرى، بل تُصان عبر تطبيق القانون الدولي بعدالة وتوازن. إن ضعف الرد اللبناني على التدخل الأميركي، مقابل الاستدعاء المتسرع للسفير الإيراني، لا يعكس فقط أزمة قرار خارجي، بل أزمة بنيوية في إدارة السيادة. ولعل أخطر ما في المشهد هو أن تتحوّل وزارة الخارجية إلى منصة للتجاذب الداخلي، بدل أن تكون جدار حماية لموقع لبنان الإقليمي والدولي. وبهذا، تبقى الحاجة ملحّة لتقويم المسار الدبلوماسي، والعودة إلى خطاب متماسك يحفظ لبنان ويحمي الدولة من أن تكون ساحة بلا أبواب أمام الخارج.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.