بعد نحو 7 أشهر على “طوفان الأقصى” لم تستفق الدولة التركية جيدًا من “صدمة السابع من أكتوبر”، وهي إن بدأت مقاربتها في الأسابيع الأولى من باب أقرب إلى الحياد، وأحيانًا النأي بالنفس “عما فعلته حركة حماس في [غلاف غزّة]” والتنديد بـ”استهداف (مقاتلي حماس) المدنيين” والمطالبة بالإفراج عن “الرهائن” فورًا، فقد انتقلت لاحقًا إلى تنديد دبلوماسي وإعلامي بـ”حرب الإبادة والمجازر الإسرائيلية” في قطاع غزّة، من دون أن تتحول المواقف أو التصريحات إلى أفعال توجب قطع العلاقات من جانب أنقرة (أو على الأقل تجميدها) مع “إسرائيل”، أو حتّى وقف تدفق موارد الطاقة والصادرات الحيوية والغذائية إلى الموانئ الإسرائيلية، باستثناء حظر محدود لبضعة منتجات تحقق بعد تجاوز المحرقة شهرها السادس.
هذه “الصدمة” وضعت قطار أنقرة السريع عند محطة توقف إلزامية في مسار طويل بُنِيَ خلال الأعوام الأخيرة على سكتي المصالحات مع الدول البارزة إقليميًا (خاصة مصر والسعودية) وخفض التوترات البارزة (بينها “إسرائيل”) من جهة، واستجلاب الاستثمارات والمشاريع من الدول ذات الثقل الاقتصادي في المنطقة (دول الخليج العربية تحديدًا)، فضلًا عن تطوير علاقات التجارة البينية مع الدول المجاورة (لا سيما إيران والعراق) من جهة ثانية.
براغماتية الساسة الأتراك ساهمت في محاولة “الاستفادة من اللحظة” بتخيل توازن ما في العلاقة بين “طرفي الصراع” الذي شغل العالم ولا يزال (“إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية)، حيث حرصت الحكومة، بشخص الرئيس رجب طيب اردوغان، على الإشادة بحماس (كبرى الفصائل الفلسطينية) ورفضت تصنيفها حركة إرهابية (كما تريد دول غربية)، وأسمتها “حركة مقاومة”، بل شبهها رئيس الجمهورية بـ”القوات الوطنية التركية” خلال حرب الاستقلال، وما يحمله هذا التشبيه في الوجدان العام للأتراك (اجتماع كتلة العدالة والتنمية 17 – 04 – 2024)، لكن ذلك اقتصر على استضافة هياكل الحركة في اسطنبول وتأمين بنية علاقات عامة لحماس (لغايات التفاوض غير المباشر مع الإسرائيلي)، بحدود لم تتجاوز الموقف الدبلوماسي المعلن، والمعبّر عن توجه الدولة الرسمي: “حل الدولتين” هو الأنسب للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. بينما في المقلب الآخر من “الصراع” حافظت أنقرة على سقف عالي النبرة مع حكومة بنيامين نتنياهو ووزرائه و”أداء” الجيش الإسرائيلي، مقابل نبرة منخفضة أحيانًا، وغير محسوسة أحيانًا أخرى، تجاه “الدولة الإسرائيلية”، لعلّ في ذلك حفظًا لقنوات الاتّصال مع “تل أبيب” في “اليوم التالي” بعد الحرب في قطاع غزّة، أو ربما انهيار حكومة الحرب، يضاف إليها حجم العلاقات الاقتصادية مع “إسرائيل” الذي تتصدر فيه تركيا على دول أخرى.
“الاستفادة من اللحظة” يمكن تلمس بداياتها من نبش “إرث غزّة” الذي عبّر عنه زعيم حزب الحركة القوميّة دولت بهتشلي (الحليف الأول لاردوغان، والمُعبّر الأقوى عن تمنيات الأخير) بالقول “إن الأمر متروك لنا للقيام بمهمة حماية غزّة والدفاع عنها. إنه إرث أجدادنا (البرلمان 22 – 10 – 2023)”، بل إنه رأى أن “على تركيا أن تتدخل بسرعة وتفعل كلّ ما هو ضروري من منطلق مسؤولياتها التاريخية والإنسانية والدينية”. لكن هذا التدخل لم يعنِ يومًا أن تشارك أنقرة بأي عمل عسكري أحادي الجانب لإيقاف “استمرار إسقاط القنابل على المضطهدين” (كما وصف بهتشلي، وقتها، الوضع في القطاع)، وإنما يتطابق مع ما يطمح إليه اردوغان من استعداد تركيا “للاضطلاع بالمسؤولية مع دول أخرى في المنظومة الأمنية التي ستؤسَّس في غزّة، بما في ذلك أن تكون دولة ضامنة (قمة العشرين 22 – 11 – 2023)”، وهو طموح للعب دور قيادي في إطار “قوة حفظ سلام دولية” يكون فيه الأتراك طرفًا ضامنًا للفلسطيني لا “يُغضب كثيرًا” الإسرائيلي بما يقترب من “تسوية” تنسجم مع مقاربة السياسيين في بلاد الأناضول للاستقرار الإقليمي كشرط للسير في المشاريع الاقتصادية المؤجلة أو المتوقفة.
ولعل انقرة في تصورها، غير الناضج عمليًا حتّى الآن، تستند إلى رضى فلسطيني ملحوظ عن دورها في الملف الفلسطيني يرفده حفاوة الاستقبال الرئاسي الأخير لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية ووفد الحركة بإسطنبول (قصر دولمه بهتشه 20 – 04 – 2024)، بالتوازي مع قبول غربي بـ”تدخلها” انطلاقًا من إرثها الأطلسي، ونموذج شمال كوسوفو (مع الفوارق الجوهرية أمام القضية الفلسطينية) ماثل حيث تقود قوة حفظ السلام التابعة لحلف شمال الأطلسي “كفور”، كما أن “الهدوء” لازم لإنجاح مشاريع الغاز الطبيعي في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط التي تنتظرها تركيا على أحر من الجمر، وما يحمله حقل “غزّة مارين” قبالة سواحل القطاع من إمكانيات واعدة قد يكون للأتراك حظوة فيها إذا ما تم إيجاد موطئ قدم عند سواحل غزّة.
ومع مرور أكثر من نصف عام على معركة “الطوفان”، تأقلمت تركيا كما غيرها من الدول في المنطقة، مع “روتين” الأحداث في قطاع غزّة، لكن ضربات “الوعد الصادق” الإيرانية كانت بالنسبة لانقرة “الليلة التي بلغت فيها القلوب الحناجر”، كما قال اردوغان (اجتماع الحكومة 16 – 04 – 2024)، محملًا مسؤولية التوتر في المنطقة لـ”نتنياهو وإدارته المتعطشة للدماء بالدرجة الأولى” بعد أن كان استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق “القشة الأخيرة”، وفق توصيف الرئيس التركي الذي لم يستطع أن يخفي مع طاقمه الحكومي، وعلى رأسه وزير الخارجية هاكان فيدان، مظهر “الصدمة” عن وجوه رأت سماء غرب آسيا، منشغلًا بالمسيّرات ومشتعلًا بالصواريخ التي أطلقتها الجمهورية الإسلامية بين ليل الثالث عشر وفجر الرابع عشر من أبريل، وفق مشهد يبتعد أكثر فأكثر عن طموح الجمهورية التركية بأن لا ترى “مزيدًا من التصعيد للتوترات في المنطقة”، ونحو خروج مفاتيح “الصراع” في المنطقة من فلسطيني ـ إسرائيلي إلى “أحداث يمكن أن تتحول بسرعة إلى حرب إقليمية (بيان وزارة الخارجية التركية 15 – 04 – 2024)” بين محور تقوده إيران وآخر تنخرط فيه كلّ مظلات حماية “إسرائيل” في المنطقة والعالم.
وبينما تؤكد الأحداث أن موقعة 7 أكتوبر، وحتّى 14 أبريل، أدخلت المنطقة في مسار لا عودة فيه إلى الوضع القائم سابقًا، تحاول السياسة التركية أن تضع نفسها، لاعبًا مؤثرًا أمام واشنطن في الملف الفلسطيني، ومن علامات ذلك العدد غير المسبوق من اللقاءات والاتّصالات بين فيدان ونظيره الأميركي انتوني بلينكن، للتأكيد على دور يزاحم أولًا أدوار الدول العربية، ومن بينها مصر (غير الضامنة لحماس)، وربما قطر التي تواجه ضغوطًا في إدارة ملف التفاوض غير المباشر، ويستند ثانيًا إلى ثقة غربية (بصيغة أطلسية)، وتناغم مع رؤية أميركية لما يعرف بـ”حل الدولتين”، ويحاول ثالثًا أن يبعد التأثير الإيراني (خاصة بعد ارتدادات عملية “الوعد الصادق”) عن فصائل المقاومة الفلسطينية بما يتقاطع أيضًا مع أهداف واشنطن و”تل أبيب”… فهل تنجح الحكومة التركية في حجز دور أساس لها في الملف؟ أم أن التحولات ستسبق أنقرة التي لم تتوقع يومًا أن ترى “طوفانًا” يجرف و”وعدًا” يضرب “دولة” لم تجرؤ تركيا حتّى اللحظة على قطع العلاقات الاقتصادية والسياسية معها؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.