لا يقل ملف النزوح السوري في لبنان أهمية عن غيره من أسباب الأزمة الكارثية التي يعيشها البلد. وبغض النظر عن الجانب الإنساني والرابط الأخوي الذي يجمع الشعبين اللبناني والسوري، إلا أن تداعيات هذه الأزمة زادت الوضع اللبناني سوءًا ودمارًا طال كل قطاعاته الإنتاجية والخدماتية والحياتية.
لم تكن قضية النزوح السوري جديدة على الساحة اللبنانية، فالأزمة بدأت معالمها بالظهور مع بداية الحرب السورية والنزوح السوري إلى لبنان. واليوم ومع وصول الأمور إلى وضعها الكارثي وبعد أن ألقى المجتمع الدولي بثقل القضية على الدولة اللبنانية، فإن الحاجة إلى الحل الجذري باتت ضرورية جدًا وغير قابلة لأي شكل من أشكال المماطلة والتأجيل.
إحصاءات وتداعيات خطيرة
تشير الإحصاءات الخاصة بملف النزوح السوري، إلى أن عدد النازحين السوريين في لبنان قد بلغ مليونين و200 ألف نازح. وبحسب المصادر فإن “النزوح السوري يغطي حوالي الألف منطقة من أصل 1050 منطقة، مما يعني أن الانتشار يغطي معظم الاراضي اللبنانية”.
وبالحديث عن عدد هؤلاء النازحين مقارنة مع عدد سكان لبنان، فإنه وبحسب العدد الإجمالي للّبنانيين المقيمين في الأراضي اللبنانية، يشكل النازحون السوريون ما نسبته 40% من عدد سكان، والنسبة بحد ذاتها كارثية لبلد مزدهر اقتصاديًّا ومستقر سياسيًّا، فكيف هو الحال بالنسبة لدولة مترهّلة كلبنان؟
الجدير بالذكر أن الأعداد التي تقدمها الإحصاءات لا تشمل أعدادًا غفيرة من الولادات غير المسجلة، والتي وصل عددها للآلاف في غضون السنوات الماضية، وهي تشكل بحد ذاتها مأزقًا حقيقيًّا لهؤلاء على صعيد الأحوال الشخصية، إذ كيف ستستقبلهم الدولة السورية لاحقًا إن لم يكن لديهم وثيقة ولادة وهوية؟
هذه الواقع الذي يعيشه لبنان منذ سنوات، كان له تداعيات كارثية على كافة قطاعات الدولة ومؤسساتها، ويتمثل ذلك بالدرجة الأولى بالخسائر المادية والمالية الملقاة على الاقتصاد اللبناني والتي تقسم بحسب الخبراء الاقتصاديين إلى نوعين “المباشرة وغير المباشرة”.
وبحسب الخبراء فإن الأولى تقدر “بمليار و700 مليون دولار سنويًّا تتضمن مساهمة الدولة بالطبابة، الكهرباء، الصرف الصحي، استهلاك البنى التحتية”، أمّا الثانية فهي “خسائر على الاقتصاد وعلى خزينة الدولة التي كانت تستطيع أن تستحصل عليها وهي تقدر بما لا يقل عن 40 مليار دولار منذ العام 2011 الى اليوم”. والجدير بالذكر أن “المساعدات الدولية للبنان يقال إنها بلغت حوالي 9 مليارات دولار وغطت جزءًا بسيطًا من الخسائر المباشرة، لكن الواضح أن المبالغ تبخّرت بسبب الفساد”.
أزمة النزوح بين “الكيدية السياسية” والحلول الواقعية
بات من الواضح والمعروف أن أزمة النزوح السوري طالت بالدرجة الأولى لبنان بكل ما فيه، وأن الدول الأخرى التي استقطبت مواطنين سوريين نازحين كانت على الأقل في حال أفضل وأكثر استقرارًا من الدولة اللبنانية.
وفي قراءة لمجريات الأمور منذ بداية حركة النزوح مع بدء الحرب السورية وحتى يومنا هذا، يتبين أن التحريض على توطين النازحين السوريين في لبنان كان ولا زال هدف المنظمات الدولية ومن ورائها المجتمع الدولي والدول المتحكمة به. وإن كان هذا التحريض يمارس تحت شعار الإنسانية والديمقراطية إلا أن مآرب هذه المنظمات الحقيقية مختلفة تمامًا عمّا يظهر إعلاميًا، فهذه المنظمات أوهمت النازحين أنّ العودة الى سورية غير آمنة وهدّدتهم بأنّهم لن يدفعوا أي مساعدة لهم في حال عادوا الى بلدهم، مما يثبت فعلًا مؤامرة التوطين.
وبالعودة إلى لبنان، فإن الإجماع اللبناني على إعادة النازحين السوريين إلى بلدهم موجود أيضًا بصورته الإعلامية، إلا أن الواقع والمواقف تعكس في الكثير من الأحيان تناقضًا وحقيقة مغايرة، لا سيما وأن هناك فريقًا سياسيًّا يحاول الاستثمار في مفاهيم الإنسانية والعنصرية والحضارة، لتمرير قرارات دولية وتنفيذ أجندات خارجية خدمة لمصالحه وتوجهاته بعيدًا عن مصلحة لبنان كليًّا، وتقضي هذه الأجندات بإبقاء النازحين السوريين في لبنان والسعي إلى عملية توطين واسعة بغض النظر عن تداعياتها الكارثية على حاضر لبنان ومستقبله.
أمام هذه “الكيدية السياسية” التي يمارسها البعض في لبنان، فإن فريقًا آخر وعلى رأسه “حزب الله” يسعى إلى إيجاد حلول جذرية لقضية النزوح السوري، وتأمين العودة الآمنة للنازحين السوريين إلى بلادهم، وإبعادهم عن المناكفات السياسية وتصفية الحسابات الدولية، انطلاقًا من مبدأ إنساني وأخلاقي ووطني يراعي مصلحة الدولة اللبنانية من جهة والشعب السوري من جهة أخرى.
وفي هذا الإطار، بات من المطلوب اليوم الضغط على الجهات الغربية والمجتمع الدولي للمساهمة في العودة الآمنة للنازحين إلى بلادهم، والأمر مسحوب أيضًا على الحكومة اللبنانية التي لا بد من أن تتحرك بكل إمكانياتها السياسية والدبلوماسية للتنسيق مع السلطات السورية بهذا الشأن والوصول إلى صيغة مشتركة ومستعجلة لحل هذه القضية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.