تعيش بلاد الأناضول منذ الأسابيع الماضية قيظًا لم تعرفه من قبل، وهي الهضبة التي عرفت مناخًا معتدلًا على الدوام، لكن التطرف المناخي ليس حكرًا عليها، فالعالم كله يشهد غليان الأرض، وما كان يؤمل الانتهاء من أيامه (“Eyyam-ı Bahur” الأيام الأكثر حرارة في السنة بين 3 تموز/يوليو و11 آب/اغسطس) امتد إلى ما بعد منتصف الشهر الحالي مع موجة حارة شديدة، قيل إنها قادمة مرورًا بشبه الجزيرة العربية فأرض الرافدين وبلاد الشام وصولًا إلى تركيا، حيث قفزت درجات الحرارة أحيانًا فوق الـ50 درجة مئوية خاصة في الجنوب والجنوب الشرقي.
المفارقة، أن بعض الإعلام المعارض في تركيا يصر على استخدام جملة “موجة حارة ستعبر الحدود العراقية السورية” باتجاه الداخل، فلم يعد كافيًا أن يكون الضخ الإعلامي في السياسة والأمن والاقتصاد، بل بات لزامًا على من يناوئ سلطة الرئيس رجب طيب اردوغان أن يستخدم الرياح القادمة من بلاد الجوار العربية كسبب من أسباب المشاكل التي تعاني منها تركيا، ربما لأن المناخ القادم يشبه إلى حد ما قصة اللجوء، خاصة “اللجوء السوري”، الذي حمّلته الأحزاب المعارضة، لا سيما اليمينية منها، وزر أزمات البلد.
وعلى الرغم من أن معضلة اللجوء لم تثمر حسمًا للمعارضة في الاستحقاق الفائت، إلا أن التحالف الخاسر في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لم يستغن عن “فزاعة” أزمة اللجوء وإثارة الجلبة حول اللاجئين، فالمجالس المحلية على موعد مع صناديق الاقتراع خلال أشهر (مقررة في آذار/مارس 2024) وحزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، لا ينوي التخلي عن 11 مدينة كبرى، ومدن أخرى يسيطر عليها، على رأسها العاصمتان السياسية أنقرة والتاريخية اسطنبول (أكبر المدن كثافة سكانية)، حتى أن ما عجز تحالف الطاولة السداسية عن تحقيقه لفشله بتولي الحكم في أيار/مايو الماضي، سارع إلى تطبيقه في بلدياته، ومن أبرز مظاهره الفاقعة التشدد في نزع اللوحات العربية عن المحال التجارية، وبينما لا يسلط الضوء كثيرًا على جوانب سلبية اخرى أثرت على الاقتصاد، يزاد اتكاء المعارضة على شماعة اللاجئين خاصة بعد أن صرح اردوغان في نهاية 2019 أن الحكومة أنفقت 40 مليار دولار لرعاية اللاجئين السوريين، فقط، خلال 8 سنوات ونصف، وهو رقم ترى المعارضة أن الأجدى كان إنفاقه على الأتراك.
الضخ السياسي والإعلامي المعارض بأزمة اللجوء، أوقع التحالف الحاكم في حرج التعامل مع ملف حساس لا يحتمل إثارة الضوضاء حوله، لتشعب تعقيداته المرتبطة أحيانًا بأبعاد تؤثر على الأمن القومي، إلا أن الرئيس وفريقه ليسا بوارد الاستهانة بتأثيراته الانتخابية (فضلًا عن عوامل أخرى)، بلحاظ الفوز بهامش ضيق، رئاسة وبرلمانًا، وهو ما دفع حزب العدالة والتنمية إلى وضع خطة لانتخابات بلدية اسطنبول الكبرى (المعقل التاريخي للعدالة والتنمية) تلحظ “أكبر 6 مشكلات تمس حياة المواطنين”، على رأس قائمتها “اللاجئون والمهاجرون غير الشرعيين”، بعد سنوات من انتهاج الحزب وتحالفه سياسة “الباب المفتوح” للهاربين إلى بلاد الأناضول من “جحيم الحرب” في سوريا.
هذا الملف الحساس، شهد مراجعة واسعة في التحالف الحاكم، وأحد أبرز تجلياته إعلان اردوغان، الشهر الماضي، عن خطة لإعادة مليون لاجئ سوري “عاد أكثر من 600 ألف منهم”، والمشاريع التي كُشف عنها قبل الانتخابات وبعدها، ضمن خطة ثلاثية السنوات لاستقرار اللاجئين السوريين في مئات آلاف المنازل الجاهزة التي بنيت، بتمويل قطري، في مناطق سيطرة القوات التركية في شمال سوريا “في إطار العودة الطوعية التي تحفظ كرامتهم”، كما يقول وزير الداخلية السابق والنائب الحالي سليمان صويلو، ولأجل ذلك ضاعفت الحكومة التركية استثماراتها في بنى تحتية عدة لإعادة تثبيت العائدين في منطقتي عمليات “درع الفرات” و”نبع السلام”، حتى أن الصحافة المقربة من العدالة والتنمية تحدثت، مؤخرًا، عن آلية ثلاثية تضم وزارة الداخلية، والحزب، وكتلته البرلمانية، لـ”إحياء الحياة الاقتصادية والتجارية” في الشمال السوري، متوقعة عودة متسارعة للاجئين بدءًا من شهر تشرين الأول/أكتوبر.
غير أن معالجة اردوغان، وفريقه الحكومي والبرلماني، أزمة اللاجئين أو محاولة احتوائها، لم يمنع المعارضة من إكمال المعركة عبر جعل اللاجئين سببًا لانعدام الأمن والتحذير من اجتياحهم البلاد، كما فعل النائب عن حزب الشعب الجمهوري جودت أكاي الذي بلغ به الأمر أن يدعو المعارضة إلى “التصرف، وإلا سوف يصبح عدد السوريين في تركيا أكثر من 40 مليونًا”، بل اتهامهم بارتفاع معدلات الجريمة، تحديدًا في أحياء العاصمة التاريخية، التي لا يخلو يوم من دون جدل حولها، إن على المنابر الإعلامية أو المنصات الافتراضية، ما دفع والي اسطنبول داوود غل للكشف عن أن 6 من أصل 100 تركي مرتكبون للجرائم مقابل 1 من أصل 100 أجنبي.
هي معركة، رأت المعارضة أن تغرف فيها من رصيد كراهية الاجانب، وتحديدًا اللاجئين، ربما لتعوض في البلديات ما خسرته في القصر الجمهوري و”مجلس الأمة الكبير”، وإن انتهت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلى ما انتهت عليه، إلا أنها أثخنت الجراح عند جانبي الصراع على أصوات الناخبين، وتركت انقساما عموديًا في السياسة والمجتمع، لم يندمل بعد، وربما سيزيد في استحقاق العام القادم، بين تيارين كبيرين، تيار معارض يرفع العلمانية بصورتها الليبرالية الغربية هوية معلنة، والتعددية في قرار الدولة هدفًا سياسيًا، مقابل تيار سلطة يعتبر المزج بين المحافظة والاسلام وصفة ناجحة للحكم، ومركزية واضحة بيد رأس الدولة الذي ألف حكومته بوجوه رسمت برمزيتها مؤشرات على سعي لمرحلة مقبلة… فهل ستكون مختلفة؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.