فرض موعد انتخابات 2023 نفسه في لحظة تاريخية بعضها شاءه القدر كما زلزال 6 شباط المدمر، وبعضها الآخر حتمه عمر الجمهورية المئوي. وبين الولادة الجديدة من رحم كارثة القرن والولادة القديمة من رحم الحرب العالمية تحولات وتغيرات كان محورها الأساس الهوية التركية بأبعادها الثلاثة الدينية والقومية والاجتماعية.
لم يكن في يوم من الأيام ممكنًا الحديث، بهذا الوضوح، عن الهويات المتعددة في سياق التنافس على السلطة، رئاسة أو برلمانًا، بل إن الإعلان بهذا الشكل السافر عن الانتماء الديني أو القومي المختلف في تركيا هو سابقة في سجل الاستحقاقات الدستورية. وبعد أن كانت سمة الانتخابات غالبًا الصراع في البعد الاجتماعي للهوية السياسية (اشتراكية ورأسمالية ـ يسار ويمين ـ ديمقراطية وعسكريتاريا ـ علمانية وإسلامية)، تراجع هذا البعد أمام الاستثمار المتوقع في البعد القومي وغير المتوقع في البعد الديني (المذهبي).
أن ينشر المرشح الرئاسي المعارض كمال كيلتشدار أوغلو مقطعًا (تغريدة على حسابه في 19-04-2023 حصدت ما يصل إلى 36 مليون مشاهدة ووصل الفيديو لـ114 مليون شخص) ويعنونه فقط بكلمة “علوي” ليست مسألة عابرة، ربما يريد المنافس الأول للرئيس التركي رجب طيب اردوغان من قوله “أنا علوي، هل أنتم مستعدون لتدمير هذا النظام الذي يقول لا يوجد علويون؟” إظهار “مظلومية” أقلوية في ظل حكم حزب العدالة والتنمية ذي الصبغة الإسلامية. والمفارقة أن اللعب بحد النار المذهبية، وإن كان بعنوان التقريب والانتماء للإسلام بشكله الأوسع (“مسلم مخلص نشأت على عقيدة حق محمد وعلي”)، لم يكن صادرًا عن داعية أو واعظ ديني، بل عن مرشح يفترض أن ينتمي إلى المبادئ “الجمهورية” و”العلمانية” التي يمثلها حزب الشعب الجمهوري الذي يرأسه. ولعل لعبة الانتخابات و”غاية” الوصول إلى كرسي الرئاسة وكسر احتكار الحزب الحاكم “تبرر الوسيلة”، حتى إذا فشل كيلتيشدار أوغلو كان الأمر بابًا للطعن، إن أمكن قانونًا أو مفتاحًا التشكيك سياسةً بمآلات النتائج بوصفها تعبيرًا عن فوز فئة بالمنصب دون أخرى أو أغلبية من لون معين على حساب أقلية من لون آخر.
لكن خطاب الطاولة السداسية لم يكن أحاديًا في الاصطفاف خلف “أقلية” مرشحها الرئاسي، وإنما تعددية المواقف وتوزيع اتجاهات الخطاب كانت أقرب لمنهج اعتمدته المعارضة المكونة من ستة رؤوس، حتى أن أحد أركانها رئيس حزب “المستقبل” أحمد داوود أوغلو (المنشق عن العدالة والتنمية) أطلق هو الآخر مقطعًا (تغريدة على حسابه في 20-04-2023 حصدت ما يصل إلى 2.3 مليون مشاهدة ووصل الفيديو لـ8.4 مليون شخص) بترويسة مؤلفة من عبارة واحدة: “سني”… في مسعى لانتزاع “الطاولة” حصتها من الطيف السني الذي يُعد أكبر المكونات في خارطة التنوع التركي، فالمعارضة، بحاجة حتمًا، ليس لأصوات العلويين فقط.
رئيسة ثاني أحزاب المعارضة، حزب الجيد، ميرال أكشنار لم تكن بعيدة أيضًا عن الجدل الديني، فقد أطلت أكثر من مرة في مناسبات خلال شهر رمضان المبارك بالحجاب، وحرصت في عدد من الخطابات الانتخابية والمقابلات التلفزيونية على تكرار القول: “أنا امرأة ذهبت إلى الحج، ولم أشرب الخمر في حياتي أبدًا، ولا مكان لكؤوس الخمر حيث أتواجد”، هي إشارة إلى التزام إسلامي (سني) أمام الجمهور التركي بما يكفل لها قبول أوسع لدى غالبية محافظة تسيطر على المجتمع في بلاد الأناضول.
الخطاب “المذهبي” المستجد للمعارضة استفز تحالف الشعب الحاكم، وهو ما بدا بالردود المباشرة، خاصة من اردوغان، الذي حاول سحب اتهام سلطته بـ”التمييز”، مكررًا في خطابين انتخابيين حاشدين غير مسبوقين (في إزمير معقل العلمانية والمعارضة يوم 29-04-2023، وانقرة التي يحكم بلديتها حزب الشعب الجمهوري يوم 30-04-2023) أن “أحدًا لم يسأل كليتشدار أوغلو عن دينه أو مذهبه أو طريقته ولم يعترض أحد عليه بناء على دينه أو مذهبه”، وحاول رئيس الجمهورية الخروج من دائرة الجدل الديني ( في حفل “قرن المستقبل” يوم 01-05-2025 بالعاصمة التركية حيث أطلق طائرة “قاآن” المقاتلة )، فأطلق كلامًا جامعًا للاتراك بأن “لا مكان في معتقداتنا ولا في تقاليدنا السياسية للتمييز بين الناس بسبب أفكارهم أو مذهبهم أو أصولهم”.
وبينما كان خطاب رأس الدولة “الديني” هادئًا إلى حد ما، فإن الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية وزير الداخلية سليمان صويلو ذكّر كيلتشدار أوغلو، من مدينة توكات وسط منطقة البحر الأسود (20-04-2023)، بأن أردوغان “هو رئيس جمهورية لـ85 مليونًا، والدولة هي دولة الـ85 مليونًا”، والوزير، المعروف عنه الحدة في الخطاب السياسي، أعاد تذكير زعيم المعارضة في خطاب جماهيري آخر في إسنلر بإسطنبول (22-04-2023) بأنه “ألا يعرف أن قبل أردوغان لم يكن أحد ليجرؤ على قول أنا علوي في تركيا، أما الآن فالكل يعبّر عن نفسه بكل حرية”.
على أن الخطاب المذهبي في تركيا 2023 قد يكون تأثيره مؤلمًا لللتحالف الحاكم الذي قد يتأذى من تشظي الأصوات وإن لم يكن هذا التكتيك المعارض ناجحًا جدًّا في توجه الناخب نحو المرشح الرئاسي، فإن وقعه، بلا شك، أكبر على اختيار المقترعين لممثليهم إلى البرلمان وما يستتبعها من رسم لسياسات “مجلس الأمة الكبير” القادم التي يأخذها في الحسبان حزب العدالة والتنمية وحلفاؤه في الانتخابات.
وإلى حين سطوع شمس الانتخابات في الرابع عشر من الشهر الحالي، لا يمكن إغفال أن استجلاب الهوية الدينية في تركيا ضمن الخطابات الانتخابية، سيترك ندوبًا في هذا المجتمع غير المعتاد على هذا النوع من إشكاليات التنوع، وسط خوف داخلي من دفع الجمهور نحو إعلاء شأن الطائفة (سنية أو علوية أو غيرهما) مقابل الدولة الحامية لجميع المواطنين من كل المذاهب، إلى حد أن وسائل الإعلام والصحافة حفلت بتحذيرات من مخاطر السير بهذا الشرخ الذي يقترب من حافة التماثل مع أزمات كيانية تعاني منها دول الجوار.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.