يقول “ول ديورانت”: إن التاريخ عند هيجل حركة منطقية جدلية، وهو في الغالب سلسلة من الثورات، تستخدم فيها الشعوب إثر الشعوب والعباقرة إثر العباقرة أدوات في تحقيق النموّ والتطوّر نحو الحرية.
محظوظون نحنُ، بعكس ما يظنّ الكثير من الناس، أننا خُلِقنا في هذه البقعة من العالم. فنحنُ نعيش في إقليم جغرافي يُعَدّ من أبرز العناصر التي شكّلت حقائق التاريخ الفعّال منذ خلق الله تلك البسيطة. لقد عاشت بلادنا، منذ القرون الأولى، صراعًا مُتَكامِلًا ضد “لصوص” التاريخ الذين أرادوا انتزاع الكيان السياسي للشعوب وإزالة المنظومة “الإنسانية” الخاصة بأبناء هذه البلاد لزراعة أخرى تلائم تَحَكُّم المُستَعمِرين.
ما نعيشه اليوم في بلدان منطقتنا يمثّل تراكمًا استعماريًا أنهك الكيانات الإنسانية قبل السياسية، واجتاح المجتمعات بكَينونَتها وماهيَتها. لكن لم تخلُ حقبات التاريخ يومًا من الحركات الثورية التي تعدَّدَت عقائدها ورؤاها الثورَويّة، لكنها افتَقَدَت دائمًا إلى عقيدة الفصل الحاسمة ضد أعدائها ومكائدهم وعناصر قوّتهم الماديّة والمعنوية.
وفي عالم يرزح تحت وطأة الحرب الباردة التي تشنّها الولايات المتّحدة ضد الأنظمة الشيوعية في العالم، والتي كانت تَتَلَخَّصُ بالاتّحاد السوفياتي، ومن ناحية أخرى استسلام معظم القوى العالمية باستثناء الأخير لهَيمنة الامبراطوريّة الأميركيّة، استطاعت ثورة شعبية انتزاع حريّة أبنائها واستعادة سيادتهم، هناك في ايران، ما شكّل دفعة تحفيزيّة هائلة لعدد من شعوب غرب آسيا الذين يعانون من تبعات الاستعمار السياسي، والذي لحقه احتلال عسكري مباشر في لبنان عام 1982 من قِبَل الكيان الاسرائيلي المُحتَل، وتلك كانت اللحظة “الحيويّة” لانطلاق إطار ثوري جديد، وهو المقاومة الاسلامية – حزب الله.
امتَلَكَت المقاومة منذ انطلاقتها وعيًا سياسيًا شاملًا لطبيعة الصراع الجاري، وعلِمَت علم اليقين أن الاحتلال العسكري ما هو إلا أداة “مادية” للهيمنة، وأن معركة التحرّر قدرها أن تكون شاملة، وتِبعًا للأولويّات التي توجب بدايةً التخلّص من ذلك الاحتلال عسكريًا، بالتوازي مع بناء أرضية سياسية حسبما تقتضي الحاجة الآنيّة. ولم تشتَبِه المقاومة ولو للحظة، أن مطامع الامبراطوريّة التي تنشد إخضاع العالم أجمَع ستتوقّف عند لحظة خروج “ربيبَته” مطرودةً عن الأراضي اللبنانيّة.
لحظة العام 2005 كانت مفصلية في أطوار الصراع، إذ وقع فيها حادثان شكّلا افتتاحية لمرحلة أخرى وأشدّ ضراوة في الصراع السياسي، وهما اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري على إثره من لبنان. تلاها في العام 2006 فشل أميركا، عبر “اسرائيل”، بالقضاء على حزب الله. أدرَك الحزب حينها، وبدرجة عالية من الفطنة، أنه مقبلٌ على مرحلة طويلة من المواجهة العنيفة ضد قوى الاستعمار الذي أصبح هو عائقًا في طريق تحقيق تَسَلُّطها الكُلّي على السيادة اللبنانيّة، وهذه المرة سيكون ميدانها ناعمًا، نظَرًا لعدم قدرة الأعداء على تحقيق أهدافهم في الميدان “الصلب”.
استطاع حزب الله الصمود في تلك المواجهة، لا بل لم يكتفِ بالصمود فقط في كثير من الأحيان، إنما كان المبادِر عندما تسمح المعطيات الميدانية للمعركة، وتَمَكّن في العديد من المحطات فرض إرادته والتقدّم خطوات إلى الأمام، كالذي حدث عقب اندلاع الثورة الملوّنة في 17 تشرين، أو في موضوع الترسيم البحري. ويمكننا من خلال مراقبة مسار المواجهة السياسية التي يخوضها حزب الله ضد قوى الاستعمار الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، أن نسلّط الضوء على بعض المعايير التي خاضها الحزب ضمن المجرى التصادمي مع تلك القوى الاستعمارية:
- التناقض المطلق مع قوى الهيمنة منذ انطلاقة هذه النسخة من المواجهة الشرسة بين الطرفين، حيث الاصطفافات والسرديّات والحرب الإعلاميّة وغيرها من الميادين، حيث جعل الحزب من السهل التفرقة بين المشروعين المتصارعَين، الذي لا يوجد اصطفاف ثالث لهما.
- الوثوق بإمكانية تحقيق النصر، ولو تطلّب ذلك الأمر وقتًا طويلًا واحتاج إلى نفس متين. وهذا ما خبرته المقاومة من خلال مسار التحرير الذي احتاج 18 عامًا حتى تحقيقه.
- تفعيل وضعيّة المؤامرة الدائمة، حيث من الغباء والبلاهة السياسية التغاضي عن الطبيعة الوظيفيّة للبنان ودوره المطلوب تأديته في خدمة الغرب الاستعماري. كما ووجوده في قلب مشروع “الشرق الأوسط الجديد” و”السلام الشامل”، وبالتالي لا إمكانية لوجود حركات تقاوم تلك المشاريع أو تقف عائقًا في درب تحقيقها.
- قوميّة الصراع والمصالح، وتأصيل حالة المواجهة. يعني توطين الصراع على صعيد قومي ومنطقة مستهدَفة، وعدم فصل ميادين الصراع ولا تجزئة المشاريع. بمعنى آخر، التعامل مع الصراع من فوق، على أساس مشروعَين متصارعَين لا مكان لهما سويةً في نهاية المطاف، مشروع يريد الهيمنة على بلدان غرب آسيا وتطويعها في خدمة الاستعمار الغربي، المتمثّل بإسرائيل بشكل رئيسي، ومشروع آخر يناهضه ويسعى نحو الاستقلال التامّ.
- المحافظة على الركائز التي يحاول العدو تدميرها، وهي نقاط القوة التي يتمتّع بها المحور المناهض للاستعمار، أهمها العناصر القيَميّة والثقافية والعسكرية. والتمسُّك بمنظومة القيَم التي تبني كيانَنا الإنساني وتجعله عصيًا على السلب والإفراغ.
لقد كوّن #حزب_الله فلسفتَه الخاصة في مكافحة النسخة الحديثة من الهيمنة، وهي خلاصة تجربة ثورية تمتدّ 14 قرنًا، وصلت إلى مرحلة النضوج المطلق مطلع الألفية الثالثة. تلك المدرسة الفلسفية، دعامة نظريتها تعتمد على تأصيل الأزمة والتفاعل مع منشئها واتّخاذ الواقعية أساسًا عند مفاصلها، كما وعدم الالتهاء بالنظريات التي لا تُصرَف داخل الواقع السياسي اللبناني، الذي يكوّن صورة مصغّرة عن واقع الكيانات الواقعة ضمن هذه المنطقة الحيويّة داخل حركة التاريخ، بالإضافة إلى التناقض التام مع كل ما تسوّقه قوى الاستعمار، وتفعيل وضعيّة المؤامرة حتى يثبت العكس، الذي غالبًا لا يثبت.
دَعكُم من أصحاب التُرَّهات السياسية الذين يعيشون بين الأمواج المتلاطمة التي أصابتهم في ارتجاجٍ بدماغهم السياسي. استطاع حزب الله إنشاء كتلة صلبة تعادي أميركا في لبنان، والمشاركة في إنشاء كتلة أكبر تمتدّ إلى دول المحور كافة التي تواجه مشاريع الامبريالية والغطرسة العالمية. هذه الكتلة كان لها الدور الأكبر في كسر الهيمنة وبداية انحدارها بقوة، وهذا ما نراه اليوم في العالم، وهو مسار تراكمي يشمل ميادين عدة من المواجهة، ما نعرفه وما لا نعرفه، تمكّن هذا المحور من تشكيل تَكَتُّل صلب يصعب هضمه، بل يستحيل ذلك، من قبل أميركا وأتباعها.
لست فوكوياما، ولا أدّعي نهاية التاريخ. لكن، وبشكل حتمي، إن الصراع الحالي بين مشروع الاستعمار ومشروع المقاومة في المنطقة، والذي يشكّل نقطة محورية داخل الصراع الشامل في العالم أجمع، لا يمكن أن ينتهي من دون تغييرات جذرية احتاجت قرونًا لتثبيت معادلاتها وموازينها. ومن هنا، فإن للمقاومة دورًا هامًا داخل تلك المنظومة، وهو تكثيف للحالة الثورية التي سبقتها بقرون ضد الهيمنة والتسلُّط، وهي التي ستَصنَع الفارق، وهي التي ستَنتَصِر في نهاية المطاف وتغيّر حركة التاريخ من جديد.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.