“إنهم الرجال الذين يزحفون تحت صدر العتمة؛ ليبنوا لنا شرفًا نظيفًا غير ملطّخ بالوحل…”.
بضع من كلمات خطّها الشهيد المقاوم المشتبك حسين قراقع في وقتٍ سابق، وأخذنا نرددها اليوم حين ترجمها على ساحة نصره وهو يبني الشرف النظيف كما وصف، زاحفًا من تحت صدر العتمة التي قصد بها المحتل الصهيوني الوضيع واهبًا حتى للشمس حريتها بالإشراق.
أنقل كلمات الشهيد الآن لا لتكون مطلعًا لهذا المقال فحسب، بل لضمائرنا، فلا متن ولا خاتمة تصلح هنا؛ إلاّ بقرار رصاصات البطل وهي تدوّي كما أحرفه التي تركها لتطمئن على سماء وطننا العربي الذي لطالما عشقه ومن القدس حيّاه…
القدس حيث تحتفل بانتصارها، وبزلزلة كيان محتلها، وهي ترى جنود العدو الصهيوني والمغتصبين وقادتهم يجفلون حتى من فرامل مركبة حسين، وهي تدور على أجسادهم، ومن ثم يهرولون لتغطية دماء جثثهم النجسة كي لا تُفتضح هزيمتهم، على يد حسين وما أدراكم ما حسين الذي صان حتى قدسية اسمه الذي يحمله نسبة للإمام الحسين شهيد كربلاء الذي اقتدى به وواظب على ما ملك من شعر ينثره وهو يكابد شقاء حسرته على ما آلت له الأمة من قرون حتى لحظة ارتقائه…
لحظة الارتقاء هذه كانت مسعى حسين، ابن مخيم الثورة دهيشة، الذي ما زال يواسي القدس الشريف على رحيل نجلها عن أرضها حيث بلدة طور التي تكفكف الدمع وتصمد أمام جيش المحتل الذي ما زال ينصب حواجز “عسكرية”، عفوًا مغتصبة، على أبوابها، حتى بعدما غدرها واقتحمها من قبل جنوده ليصلوا منزل حسين علّهم يجدون الشهيد بعدما أعدموه، فهم يُدركون تمامًا أن المقاومين لا يموتون بل يُغافلونهم ويفاجئوهم بقتال عنيف حيثما ارتقوا، وليبدد العدو هلعه شرع باعتقال زوجة الشهيد، وذويه، وأشقائه، وفجر أمس 12 فبراير/ شباط، بعث بقطعان جنوده ليحاصروا منزل الشهيد، ويهدموا جدرانه بعد إخضاعها للتحقيق حين وجدوها تنطق باسم الشهيد وتحفظ مسيرته منذ كان شبلًا مقاومًا ثم جريحًا ثم أسيرًا ثم مشتبكًا حتى نقشت أحرفه بالمجد حين ارتقى شهيدًا.
كما أغلق العدو منزل الشهيد وهو يعاقب الجدران التي أبت بأن لا تقر بنبأ حول حسين، إذ أن روحه كما كل الشهداء تكسر قيد العدو الذي يفرضه على جثامينهم الطاهرة، وهم يصعدون إلى اللّه.
وبينما كان الاحتلال ينشغل بالبحث عن حسين كانت الإجابة حاضرة على لسان الشبان المقاومين الذين احتشدوا أمام منزله في دهيشة وهم يرددون “مين قال حسين مات… وهَي رجاله بالساحات”، وأخذت العيساوية تصعقهم بالمواجهات مع الشباب الثائر، وتقتلهم حبّات الحلويات التي تجوب البلاد المحتلة احتفاءً بانتصار حسين على عدو متغطرس، وهو يمضي على نهج قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وينفذ وصاياهم ويُمسك بعلمها من دهيشة القلعة الحمراء كما وصفها ويمرُّ بالقدس يدهس قطعان العدو ويقتل ثلاثة منهم حتى يصعد إلى السماء، ويلتقي رفيقه المقاوم عمر مناع ويذهبا إلى قادتهما يلقون التحية ويؤدون قسم الجبهة الشعبية، حاملين بيدهم شعلتها حتى النصر.
النصر الذي اختار الشهيد توقيته المكاني والزماني، حيث كان يدهس قطعان العدو تارة وأُخرى يستعيد الأراضي المحتلة التي سلبها العدو وبنى على أنقاضها مغتصبة “رامون” تارة أخرى، ليُنهي بتلك العملية عام 2023 بعد أقل من مرور شهرين على احيائه لرأس السنة، الليلة التي سنخبركم كيف أمضاها الشهيد وكيف استقبل العام الجديد…
العام الذي استهله بمعايدة البلاد العربية وبشرّ الصامدة منها أمام تهديدات واستهداف عدوان غاشم بنصرٍ قريب وأرسل لها المعايدات من القدس المحتلة حيث صدح “من القدس كل عام وسوريا واليمن والعراق بألف خير، النصر قريب”.
وبعدها بساعاتٍ بارك الليلة بمشاهدته لفيلمًا وثائقيًا حمل عنوان “نحن قادرون” وأرفق صورة منه بمنشور كتب فيه “تحت عنوان نحن قادرون، حزب اللّه ينشر شريط فيديو يظهر فيه جنود النخبة من حزب الله وهم يزيلون جدار الفصل الصهيوني”، ولم يدع ليلته تمضي قبل أن يوجه التحية لسماحة السيد حسن نصر اللّه، كاتبًا له “كل عام وأنت سيد الأحرار، دام رعبك سماحة العشق”، وهو يُعرب عن أمله بلقاء قريب للسيد، اللقاء الذي يأمله كل أسد في المقاومة ومن آمن بها.
وقبل أن يغفو حسين دوى صوت الشهيد المقاوم عمر مناع من حوله، فأمسك بدفتره ونثر كلماته لعمر على رأس الصفحة “كان دمه في خبزه، وخبزه في دمه…”، وعلى الصفحة التي تليها خطّ ملخصًا عن عام 2022 المنصرم بتلك الأحرف “كان عامًا بدايته الدخيل والشيشاني والمبسلط، كان عامًا مليء بوصايا الشهداء، عام التميمي وعام كريات أربع، عام حاجز الجملة، وعش الدبابير، عام زفة العريس فاروق، وعام السعدي والحصري وأبو التين، عام كتيبة بلاطة، عامًا مليئًا بالبطولات، من نابلس وجنين شمالًا حتى رام اللّه والخليل وبيت لحم جنوبًا، كان عام عرين الأسود، والحمد للّه على هذه النعمة…”.
وهكذا أنهى ليلته، حتى وصل الصفحة الأخيرة من الدفتر، وهو يرسم خارطة تُحدد مواقع أراضيه المحتلة التي يحفظها عن ظهر قلبه، ويتمعن حتى بالزوايا ليحدد أهدافه، وهو محتار بطريقة التنفيذ، وإخماد نار الثأر داخله، الثأر الذي لم ولن يُنتزع بأكمله إلاّ بيد المقاومة، وترك وصية في النهاية لم يُبصرها سوى أطفاله الثلاثة.
وكما شددتُ في مطلع المقال على أنّ الكلمات تلك بأمرٍ من رصاص حسين، سأخط للشهداء ولحسين بأحرفه مع تصرف طفيف؛ ولأننا لا نرقى لأحذيتكم، نرفع أيادينا إلى السماء لتقبل منّا نعيكم، فأنتم من جمعتم أسباب الطهارة، ونحن ها هنا نحاول أن نتخلص من كل نقائض الوضوء التي جُمعت رغمًا عنّا، فلا تحرموننا من طيفكم أيها الأبرار، فقسمًا إن هذه الأرض لا تليقُ إلاّ بأرواحكم.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.