منذ الإعلان عن تشكيل الحكومة العراقية الجديدة في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، برئاسة محمد شيّاع السوداني، يسير الأخير في حقل ألغام السياستين الداخلية والخارجية لبغداد. ورغم نجاحه في اجتياز عقبات كثيرة، على المستوى الداخلي، ليس أولها إعادة الاستقرار إلى المشهد السياسي العراقي ككل، وليس آخرها الكشف عن أكبر فضيحة فساد مالي في تاريخ البلاد، إلا أن المهام الملقاة على عاتق الرجل تبقى أكثر مما أُنجز، وحجم التطلعات الشعبية على المستويين السياسي والخدمي أكبر بكثير مما تحقق.
أما خارجيًا، يحاول الرجل موازنة علاقات العراق الخارجية شرقًا وغربًا، وإبعادها عن لغة المحاور والاصطفافات، مع الإقرار بصعوبة المهمة لجملة أسباب يتعلق أبرزها بالدور الأميركي على الساحة العراقية. وفي هذا الإطار، جاءت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى بغداد، حيث شمل جدول أعمال الزيارة مناقشة ملفات التعاون الاقتصادي والعسكري، وأمورًا أخرى متصلة بآفاق العلاقات الثنائية بين البلدين على وقع الحرب في أوكرانيا، والعقوبات الغربية ضد روسيا.
ماذا تريد روسيا؟
في السياق العام لتنامي العلاقات الروسية العراقية خلال الأعوام الماضية، بعد تراجعها في فترة ما بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، يبدو أن موسكو عازمة، وتحديدًا منذ إلغاء الديون المستحقة على العراق عام 2008 والمقدرة قيمتها بحوالي 13 مليار دولار، على الرد على النظام العالمي الذي ترعاه واشنطن، والتأسيس لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب قائم على المصالح بعيدًا عن الاعتبارات الأيديولوجية. ومع نجاح “روسيا بوتين” في ترميم سمعتها كحليف موثوق به حين تدخلت عسكريًا في سوريا دعمًا لحكومة دمشق، والتقاطها فرصة التردد الأميركي في دعم جهود الحكومة العراقية لدحر تنظيم “داعش”، لإمداد حكومة حيدر العبادي بطائرات مقاتلة، ومروحية، إضافة إلى أنظمة دفاع جوي وقاذفات لهب، بدأت أحلام استعادة “المجد الروسي المفقود” في العراق تراود القيادة الروسية، مع تحول بلاد الرافدين إلى إحدى أبرز ساحات المواجهة الجيوسياسية بين طهران، وواشنطن.
ورغم أن موسكو عايشت فترات صعود وهبوط في علاقاتها مع بغداد، بسبب ضغوط أميركية، على غرار إلغاء صفقة أسلحة مبرمة معها تشمل طائرات مروحية وأنظمة دفاع جوي خلال العام 2012 بزعم شبهات فساد، فإنها، ومع عودة مشهد الاستقطاب الدولي بسبب تطورات الوضع في أوكرانيا، تعاود محاولاتها للاستثمار في الساحة العراقية، سواء من بوابة مزاحمة الدور الأميركي وقطع الطرق عليه هناك، سياسيًا واستراتيجيًا، أو عبر الحفاظ على حضور اقتصادي قوي لشركاتها في قطاع النفط المربح في العراق، كنوع من طرق مقاومة التضييق الغربي على تلك الشركات. وكما هو معلوم، فإن شركة “لوك أويل” الروسية فازت بأحد عقود النفط الأولى في عراق ما بعد الحرب، وهو مشروع بدأته الشركة عام 2009 لتطوير حقل غرب “القرنة – 2” في البصرة، بقدرة إنتاجية توازي 12 في المئة من صادرات النفط العراقية، وهي تملك حاليًا حوالي 75 في المئة من المشروع، في حين بلغ إجمالي الاستثمارات الروسية في قطاع الطاقة في البلاد، 10 مليارات دولار. وعلى ما يبدو، فإن حسابات موسكو الاستراتيجية على الساحة العراقية، لا ترتبط فقط بالعامل الاقتصادي أو التجاري المترتب على تطور علاقاتها مع بغداد، بل يرتبط بعنصر توظيف عامل الطاقة، وبخاصة النفط والغاز، كأداة أساسية في توجيه سياستها الخارجية، بالنظر إلى الصراع الدولي المحتدم راهنًا، على السيطرة على خطوط إنتاج وتصدير أنابيب النفط أو الغاز ضمن “اللعبة الكبرى” بين روسيا والغرب. من هنا، قد يكون الرهان الروسي معلّقًا على إبقاء النفط العراقي ضمن أجندتها الاستثمارية للحؤول دون تحوله إلى أحد البدائل الأوروبية المحتملة لتعويض النقص في إمدادات الطاقة المصدرة لها من روسيا.
وبالحديث عن “هبّة باردة”، و”هبّة ساخنة” في العلاقات بين موسكو وبغداد، يمكن القول إن ذلك التذبذب شجّع الروس على نسج علاقات مميزة مع “الجار الكردي اللدود” لبغداد، في أربيل، عبر إبرام العديد من الاتفاقيات في مجال الطاقة، جعلت موسكو أحد أهم المستثمرين في حقول النفط داخل إقليم كردستان العراق. فقد مثّلت اتفاقية القرض الموقعة بين شركة الطاقة الروسية العملاقة “روسنفت”، وحكومة إقليم كردستان بقيمة 3.5 مليار دولار، في العام 2017 إحدى أبرز تلك الاتفاقات، علمًا أنها تزامنت مع احتدام الخلاف بين أربيل وبغداد حول حصة كل منهما من العائدات النفطية للإقليم، وذلك قبل أن تعاود الشركة نفسها شراء النسبة الأكبر من الأسهم في خط أنابيب النفط الممتد من كردستان العراق إلى تركيا، تزامنًا مع شروعها في بناء خط أنابيب غاز مواز له. وبحسب موقع “أويل برايس” المتخصص في شؤون النفط، فإن روسيا باتت تضع نصب أعينها، التأسيس لوجود قوي لشركاتها في حقول النفط الجنوبية للعراق، بغية الدخول على خط الوساطة في النزاع الدائم بين أربيل وبغداد حول الإيرادات النفطية. ولعل أهم ما حضر على أجندة محادثات الوزير الروسي مع المسؤولين العراقيين خلال زيارته الأخيرة إلى بغداد، هو العنصر الأصعب تحقيقه، وهو محاولة إقناع الجانب العراقي بالتمسك بالتعاون مع موسكو، ومقاومة ضغوط الإدارة الأميركية للانضمام إلى “جوقة العقوبات” ضد بلاده، مع الإشارة إلى أن زيارة لافروف استبقت زيارة مرتقبة لوفد عراقي رفيع المستوى، برئاسة وزير الخارجية فؤاد حسين، إلى العاصمة الأميركية لإجراء محادثات حول مسائل مالية ونقدية ملحّة، من ضمنها أزمة انخفاض سعر الدينار، وبعض المعايير المطلوبة من البنك الفيدرالي الأميركية في التعاملات المالية للعراق.
رهانات العراق: الاقتصاد أولًا
في المقابل، ينصب جهد حكومة السوداني حاليًا على تهيئة المناخات الإقليمية والدولية المناسبة لدعم العراق ومساعدته على الخروج من أزماته، بخاصة الاقتصادية والنقدية منها، مع هبوط سعر صرف الدينار العراقي في الأسابيع الأخيرة، وهو ما يعدّه محللون مؤشرًا بشأن عدم وجود رضى أميركي حيال بعض توجهات حكومة السوداني، بخاصة في السياسة الخارجية. هنا، تبدو بغداد مهتمة باستقطاب الاستثمارات، وتوفير الجو السياسي والأمني الملائم لضمان عدم انجرار العراق إلى مربع أزمات جديد، داخليًا وخارجيًا. وهذا يفسر لهجة السوداني المعتدلة تجاه طهران، بعد أزمة القصف الحدودي على إقليم كردستان، من ناحية، ومضيه في مسار الانفتاح على دول الخليج، الذي دشنه سلفه مصطفى الكاظمي من ناحية ثانية. وعلى المنوال نفسه، قد لا يكون السوداني راغبًا في إدخال بلاده في لعبة المحاور على خلفية الحرب في أوكرانيا، والمواجهة التي تزداد حدتها يومًا بعد يوم، بين موسكو والغرب. من هنا، سيحاول الرجل الاستفادة من جو العقوبات ضد روسيا، وبحث المستثمرين والشركات الروسية عن ملاذ آمن من تلك العقوبات، من أجل جلبها إلى العراق، وتنسيق المسألة مع المسؤولين الأميركيين من أجل محاولة الحصول على إعفاءات من العقوبات الأميركية في حال مضى في تعاملاته التجارية والمالية مع موسكو.
الأكيد، أن ثمة تقاطعًا في مكان ما بين بغداد وموسكو على الصعيد العسكري. فمن جهتها، تحث بغداد الخطى نحو تنويع وارداتها من الأسلحة، وعدم إبقاء الجيش العراقي أسيرًا لمزاجية واشنطن على هذا الصعيد التي تُكسبها بعض تشابكات العلاقة الاستراتيجية مع بغداد نفوذًا أكبر لدى الأخيرة. بدورها، ترحّب موسكو بأي مسعى من شأنه أن يعيدها إلى خريطة أبرز موردي الأسلحة إلى العراق، خصوصًا وأن 30 في المئة من أسلحة الجيش هي روسية الصنع، ومتوارثة عن عهد النظام السابق. هذا، وتتواتر أنباء بشأن وجود اهتمام قيادات الجيش العراقي باقتناء أسلحة روسية حديثة، مثل أنظمة الدفاع الجوي “إس-400″، بناء على توصيات برلمانية سابقة صدرت في أعقاب اغتيال اللواء قاسم سليماني عبر طائرة مسيّرة أميركية، وهو أمر لم يُترجم بسبب ممانعة واشنطن. كذلك، تكشف مصادر روسية أن الجانب العراقي أبدى اهتمامه بشراء مقاتلات “سو-57″، والتي تنتمي إلى الجيل الخامس، رغم أن موسكو لم تفتح أبواب تصديرها إلى عملاء أجانب حتى الآن.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.