منذ بدء الحرب على اليمن، بدا الدور العسكري والسياسي البريطاني متماهيًا، بصورة تكاد تكون عضوية، في الحرب على اليمن، مع دول التحالف، بقيادة الرياض، والمدعوم أميركيًّا، لدوافع “مصلحية” بحتة، منفصلة تمامًا عن المزاعم الغربية بشأن الحرص على حقوق الإنسان، والسلام.
صفقات أسلحة ودعم لوجستي وعملياتي
فإلى جانب الصفقات المعقودة بين لندن والرياض على مستوى التسليح، والتدريب، والصيانة لحساب الجيش السعودي، والتي زادت بأكثر من ثلاثة أضعاف في الفترة ما بين عامَي 2012 – 2017، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة، كانت الكوادر العسكرية البريطانية المتخصصة، لا سيما تلك التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، حاضرة على الدوام داخل مركز إدارة عمليات التحكّم والسيطرة العسكري الخاص بـ “عاصفة الحزم”، وذلك لمساعدة الحملة العسكرية الجوية التي تقودها الرياض داخل اليمن على تحديد بنك أهداف القصف، إضافة إلى مهمات استشارية ولوجستية أخرى، تشمل تخطيط مهام سلاح الجو هناك، وتذخير طائراته وفقاً لطبيعة تلك المهام وأهدافها. وكانت أبرز “طلائع” ذلك الدور، ما انتقده البرلماني البريطاني آندرو ميتشيل بشأن خطة سرّبها جيش بلاده عن طريق الخطأ أواخر العام 2017، وعُرفت باسم ” “كروس وايز”، شملت انخراط أكثر من 50 عسكريًّا بريطانيًّا بتدريب الأطقم العسكرية السعودية على المهارات الحربية والقتالية، من بينهم أفراد من قوات من الكتيبة الثانية للفوج الملكي الإسكتلندي، انكبوا على تدريس تقنيات “الحرب غير النظامية” لضباط من معهد مشاة القوات البرية السعودية.
الوجود العسكري المباشر: قوات خاصة بريطانية على أرض اليمن
وكما بات معلومًا، فقد ناهز عدد الخبراء والمستشارين العسكريين البريطانيين العاملين داخل السعودية، بعد حرب اليمن، 7 آلاف عنصر، بعضهم أوكل إليه تنفيذ مهمات ذات طبيعة عسكرية مباشرة داخل اليمن، إلى جانب قوات التحالف، الأمر الذي نفته لندن تارة، واعترفت به ووضعته تحت خانة “مكافحة الإرهاب والتهريب” تارة أخرى.
ومنذ شيوع أنباء حول إصابة أفراد من القوات الخاصة البريطانية على الحدود اليمنية السعودية عام 2019، انتقل الكلام رويدًا رويدًا عن دور بريطاني مباشر داخل اليمن، من الكواليس إلى المؤتمرات الصحافية. ففي آذار/ مارس من العام 2021 ألمح رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون إلى إمكانية مشاركة قوات بلاده في مهمة عسكرية تحت لواء “الأمم المتحدة” هناك. وبعد طول نفي، وعلى خلفية ما كشفته وسائل إعلام غربية حول موافقة لندن على انتشار عدد من عناصر القوات الخاصة البريطانية داخل اليمن، تحت مزاعم تتصل بملاحقة المتسببين بالهجوم على ناقلة “ميرسير ستريت”، الذي أسفر عن مقتل أحد الرعايا البريطانيين في صيف العام 2021، أقرّ سفير بريطانيا لدى اليمن في العام نفسه مايكل آرون بوجود عسكريين من جيش بلاده، على الأراضي اليمنية لأغراض لا تتصل بحرب اليمن، على حد زعمه.
فخلال السنوات الأخيرة، كثر الحديث عن وقوع الأزمة اليمنية في “مستنقع التدويل” على وقع أنباء عن انتشار قرابة 40 عسكريًّا بريطانيًّا، يعملون جنبًا إلى جنب مع قوة من العمليات الخاصة الأميركية في منطقة المهرة، الواقعة على الحدود اليمنية، العمانية، وذلك بهدف تقديم خدمات تدريبية لوحدات “الكوماندوز” السعودية. تلك التطورات تعكس الدور العسكري المتنامي لبريطانيا على الساحة اليمنية، بالتوازي مع صعوبات ميدانية تعترض طريق الرياض لحسم حربها داخل حدود جارها الجنوبي، على وقع تباينات بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي جو بايدن، ما يفسر لجوء المملكة المتحدة للإبقاء على 15 موقعًا في السعودية، شأنها شأن 16 موقعًا في سلطنة عمان، التي تعد الدولة الأكثر استضافة للنشاط العسكري البريطاني في الخليج.
وكجزء من ذلك التوجه، عزّزت القوات البريطانية في الآونة الأخيرة من تواجدها قبالة خليج عدن وخليج عمان وفي مينائي نشطون وقشن بالمهرة، وذلك عقب تعرض بعض سفن النقل البريطانية لسلسلة هجمات، إحداها قبالة سواحل المكلا في أيار/ مايو من العام 2020، وأخرى قبالة سواحل المهرة في كانون الأول/ ديسمبر من نفس العام، قبل استهداف ناقلة النفط “ميرسر ستريت” صيف العام التالي. وبعد إنفاق أكثر من 20 مليون جنيه إسترليني على توسعة قاعدتها البحرية في ميناء الدقم العماني بما يتيح استقبال القاعدة لحاملات الطائرات، اتجهت المملكة المتحدة إلى ترسيخ أقدامها في عمان وعلى الحدود اليمنية. وبدا لافتًا ما كشفه موقع “ديكلاسيفايد” حول وصول قوات خاصة بريطانية إلى مطار الغيضة بمحافظة المهرة جنوب اليمن مطلع العام 2021، وما كشفته صحيفة “ديلي اكسبرس” لاحقًا ضمن الإطار نفسه.
دور دبلوماسي مشبوه تحت ستار أممي
سبحة التدخل البريطاني في الأزمة اليمنية، بأشكاله المختلفة، وصلت إلى حد اختراق الدوائر الاستخبارية البريطانية لمهام الوساطة الأممية خلال فترة تولي مواطنها مارتن غريفيث، منصب المبعوث الأممي الخاص باليمن. وبحسب ما جاء في موقع “ديكلاسيفايد”، المتخصص في قضايا السياسة الخارجية البريطانية، فقد تبيّن أنّ مبعوثَ الأمم المتحدة السابق إلى اليمن مارتن غريفيث، مرتبط بجهاز MI6.
وبيّن الموقع أنّ غريفيث، وبالاشتراك مع مدير مكتب رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، جوناثان باول، لعب دورًا كبيرًا في تأسيس شركة “إنترميديات للاستشارات” عام 2011، قبل أن يتجه الأول إلى العمل كمستشار لثلاثة مبعوثين خاصين للأمم المتحدة في سوريا، وكنائب لرئيس بعثة الأمم المتحدة في ذلك البلد بين عامي 2012 و 2014، في حين تولى الثاني دورًا مشابهًا، وتحديدًا منصب المبعوث الخاص للمملكة المتحدة في ليبيا، في الفترة نفسها لتوليه رئاسة الشركة الوليدة. وعُرف عن “إنترميديات” أنها استقطبت خلال سنواتها الأولى بعد التأسيس، دبلوماسيين قدامى سبق أن عملوا في وزارة الخارجية البريطانية، فضلًا عن تولي قيادات عسكرية رفيعة سابقة في الجيش والاستخبارات البريطانيَّين، مراكز إدارية رفيعة فيها. وبحسب وثائق دبلوماسية بريطانية رُفع عنها السرية، أدارت “إنترميديات” مشاريع ممولة من وزارة الخارجية البريطانية داخل عدد من الدول النامية، كليبيا، وبورما.
وتكشف تقارير غربية أنّ الشركة عملت على تشكيل ما يمكن وصفه بـ “بعثات دبلوماسية سرية” داخل مجموعة من البلدان، وذلك بتمويل من حكومة لندن، أو من شخصيات وكيانات غير حكومية. ومن ضمن الوثائق المسرّبة حول ملف “إنترميديات”، تُظهر رسالة عبر البريد الإلكتروني بعث بها باول إلى مسؤولين في الخارجية الأميركية في آذار / مارس 2012 اعترافًا صريحًا بالصلات التي تربط بين شركته، وهيئات حكومية بريطانية على رأسها وزارة الخارجية، وجهاز المخابرات. ومما يورده باول في نص الرسالة: “إننا نعمل عن كثب مع وزارة الخارجية والكومنولث، ومجلس الأمن القومي وجهاز المخابرات السريّة في لندن”. وفي رسالة أخرى، يقرّ باول بأن الشركة المذكورة “أقامت قنوات سرية بين المتمردين والحكومات، في نيجيريا وكولومبيا، والبحرين، وأفغانستان، وكوريا الشمالية”، إضافة إلى مهام أخرى تسلمها في سوريا، واليمن، والصومال.
أمام هذا كله، تعود السياسة البريطانية من البوابة اليمنية إلى دورها الخبيث في المنطقة بصورة يبدو معها رهان بعض اليمنيين، على دبلوماسية ما يسمى” المجتمع الدولي” لحل الأزمة في البلاد، رهانًا لا يقل مرارة عن الرهان على معسكر الحرب نفسه.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.