فجر السبت 14 من سبتمبر (أيلول) لعام 2019، استهدفت طائرات مسيرة موقعين نفطيين حساسين شرق المملكة العربية السعودية، وتعطل بذلك 5% من إنتاج النفط العالمي، أي ما يقارب نصف الإنتاج السعودي، وتسبب بارتفاع مفاجئ في أسعار النفط، وأثبت هشاشة منظومة أمن الطاقة في أهم منطقة منتجة عالميًّا، ومعها وُضعت معادلة «الأمن مقابل النفط» موضع الاختبار، المعادلة التي أسست العلاقة السعودية الأمريكية.
ومع صعود الرئيس الأمريكي جو بايدن، أصبحت تصريحات الساسة السعوديين أكثر وضوحًا عن ضرورة إعادة تعريف العلاقة، وإعلان انتهاء عصر معادلة الأمن مقابل النفط، وكان ذلك جليًّا في مقال السفيرة السعودية في واشنطن، ريما بنت بندر، المنشور في موقع «بوليتيكيو»؛ عندما صرحت بأنَّ معادلة النفط مقابل الأمن قد ولى زمانها.
فكيف تشكلت معادلة الأمن مقابل النفط؟ وكيف وضعت قواعد سوق النفط السعودي والعالمي؟ وما إمكانية انتقال السعودية لمعادلة أخرى تكون فيها بكين وموسكو محورين رئيسيين؟
أمريكا شرطيًّا لسوق النفط العالمي
قبل تسعة أشهر من نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، التقى مؤسس الدولة السعودية الملك عبد العزيز بن سعود الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وكان هذا الاجتماع السري تاريخيًّا ومؤسسًا للعلاقات، وهو الاجتماع المُشار إليه عادة لتوصيف معادلة الأمن مقابل النفط.
وبالعودة إلى التاريخ، نجد أن السعودية بدأت من جانبها التزامًا بالموافقة على إنشاء خط أنابيب طويل يصل آبار النفط السعودية بالبحر الأبيض المتوسط عبر سواحل لبنان، مع امتيازات للشركات الأمريكية في صناعة النفط السعودي، بالمقابل التزمت أمريكا بأمن السعودية ببناء قواعد قريبة من آبار النفط، وقدمت برامج تدريب عسكري داخل السعودية، ولاحقًا مبيعات السلاح الضخمة.
وبخلاف عصر الاستعمار السابق، فإن عصر الهيمنة الغربية بقيادة أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن يطمح إلى سيطرة مباشرة على موارد الدول، وشهد هذا العصر تفكيك المستعمرات وموجات التحرر الوطني في العالم الثالث، لكن المعسكر الغربي كان مضطرًّا لتفادي مشكلات الحرب العالمية الثانية فيما يخص الموارد الطبيعية؛ ما دفعه لتأمين سوق النفط دون استعمار الدول النفطية، وتشكيل السوق بما يضمن الهيمنة الغربية والاستفادة من ريوعها.
في هذا الإطار نفهم جهد الرئيس الأمريكي روزفلت في الأشهر الأخيرة للحرب العالمية، وعلى الأهمية العظمى للنفط وبدء دخوله في كل شيء في حياتنا، إلا أن النفط كان منخفض السعر نسبيًّا، وكان يلزم الولايات المتحدة مع ذلك أن تضمن استمرار تدفق النفط ضمن هذه الأسعار المنخفضة نسبيًّا، ومركزية دول الخليج في ذلك، خصوصًا بعد انطلاق موجة تأميم الموارد الطبيعية في العالم الثالث كما حصل في ليبيا، والجزائر، والعراق، وكما كان يمكن أن يحصل في إيران عام 1953 لولا الانقلاب الذي دبرته الولايات المتحدة.
وبسبب هذه المركزية الخليجية في سوق الطاقة، وقدرتها الإنتاجية على تحديد مسار سوق النفط وأسعاره العالمية، كان عام 1973 محوريًّا للولايات المتحدة وللغرب، لأن معادلة الأمن مقابل النفط التي ابتدأت عام 1945، وتجاوزت عقبة النكبة عام 1948، والنكسة عام 1967 بسلام وصولًا إلى حرب عام 1973، مع بدء الدول العربية حظرها النفطي على الدول الداعمة للكيان الإسرائيلي.
أطلق هذا الحظر الخوف الغربي على أمن الطاقة، وبدأ منذ ذلك الوقت السعي الأمريكي لـ«ضمان أمن المنطقة»، وهو ما تُرجم فعليًّا ببدء مرحلة انعدام أمن كامل للمنطقة مع تدخلات أمريكية مباشرة، ويصفها «مشروع الشرق الأوسط للبحوث والمعلومات» بعلاقة «النفط مقابل الأمن».
وبهدف تبرير الوجود الأمريكي في المنطقة، وضرورة توفير الأمن لدول الخليج والسعودية، كان لا بد من خلق شرق أوسط ملتهب على الدوام، دوله النفطية تشعر بالتهديد المستمر. وعزز ذلك الغزو السوفيتي لأفغانستان، لتصبح التدخلات الأمريكية العسكرية مبررة، وأخيرًا انهيار الكتلة الشرقية مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتفرد الكتلة الغربية.
تمكنت الولايات المتحدة من إنهاء الحظر العربي بحلول عام 1974، بجهود متوازية للتوسط بين الكيان الإسرائيلي ومصر وسوريا، وبدء انسحاب إسرائيلي من بعض المناطق المصرية، ولكن الأهم في تلك الفترة هو ظهور ما يعرف بـ«البترودولار»، والذي ضمن تسعير النفط بالدولار الأمريكي مساهمًا بذلك في جعله العملة الأساسية للعالم.
لكن الحظر العربي جعل أمريكا تدرك خطورة أهمية السيطرة على سوق الطاقة، وبدأت سياسة مزدوجة قوامها تأمين نفط الشرق الأوسط والاستقلال عنه على المدى البعيد، وذلك بالاستثمار في التنقيب عن النفط محليًّا، وتطوير تكنولوجيا تسمح باستخراج النفط الأمريكي الأعلى كلفة.
يشير دكتور الاقتصاد علي القادري في كتابه «تفكيك الاشتراكية العربية» إلى أن أهمية الهيمنة الأمريكية على سوق الطاقة لا تتأتى ببساطة من سيطرة مباشرة على النفط، أو من تحصيله بسعر أرخص مثلًا؛ بل بوصفه أحد أعمدة الهيمنة العالمية، عن طريق ربطه بالدولار، وعن طريق احتياج مستهلكي الطاقة في كل مكان لهذه الهيمنة حتى من حلفاء أمريكا في أوروبا وآسيا.
حتى أوروبا التي قد لا تحتاج نفط الخليج مباشرة يهمها أمن هذه السوق، لأن انعدام أمنها يعني ارتفاع أسعار استيراد الطاقة بشكل خيالي، وأخيرًا تدفُّق عوائد النفط للسوق الأمريكية يعني أرباحًا كبرى للقطاعات المصرفية الأمريكية، وغيرها من القطاعات التي تُستثمر فيها هذه العوائد.
سلاح الطاقة
لا يهمنا استعراض جميع المحطات التاريخية المتعلقة بسوق الطاقة في منطقتنا، وبمعادلة الأمن مقابل النفط، ولكننا مهتمون بالمحطات الأهم التي خلقت المعادلة ورسمتها خلال الزمن، وما نتج من ذلك نهاية خلال تشكل معادلة الأمن مقابل النفط، كان هنالك محطات تاريخية بارزة التقت فيها مصالح الطرفين السعودي والأمريكي، منها التخوف الخليجي من المد القومي العربي، الذي كان أقرب إلى الاتحاد السوفيتي، منافس الولايات المتحدة.
من هذه المراحل ما ذكرته الأميرة ريما في مقالها، وهو ضمان أمن الخليج بتدخل عسكري مباشر مطلع تسعينيات القرن الماضي، قضت فيه أمريكا على الغزو العراقي للكويت. وما يهمنا الاقتصار على أمرين؛ الأول مصيرية قيادة السعودية لسوق الطاقة وتحديد أسعارها، ومن ثم تسليحها للنفط سياسيًّا في العالم.
تكمن مصيرية الدور السعودي ببساطة في أن السعودية تمتلك القدرة الإنتاجية الأكبر في العالم، احتياطات هائلة من العملة الصعبة، وبذلك تستطيع تخفيض إنتاجها رافعةً أسعار الطاقة عالميًّا، أو تزيد الإنتاج فتخفض سعر الطاقة، وذلك يعني أن سوق النفط ليست سوقًا تنافسيةً بأي شكل، بل يستطيع منتِج واحد التأثير بشكل كبير في أسعار الطاقة في العالم، مع قدرة السعودية على استخدام احتياطاتها النقدية لتعويض خسائر انخفاض الأسعار.
يشار عادة إلى دور السعودية المساهم في إشعال أزمة مالية في الاتحاد السوفيتي منتصف الثمانينيات، والتي ساهمت في سقوطه، وذلك عن طريق تسليح قدرتها في رفع إنتاجها للنفط بكميات هائلة في وقت قصير، فأغرقت السوق بالنفط خافضة سعره، والاتحاد السوفيتي كان يعتمد على مبيعاته للنفط لدعم اقتصاده.
قبل ذلك ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير على إثر سقوط شاه إيران، وانقطاع النفط الإيراني عن السوق العالمية، ما مكن منافسين كثر من دخول السوق، وذلك بسبب أن هؤلاء كانوا ممتنعين عن الاستثمار في استخراج النفط في دولهم بسبب الكلفة العالية، ولكن ارتفاع السعر عنى إمكانية تغطية التكاليف، ودخول منتجين كثر أدى نهاية إلى ارتفاع الإنتاج بشكل كبير، والتهديد بسقوط سعر النفط مرة أخرى، ولكن السعودية قادت حملة لتخفيض الإنتاج للمحافظة على استقرار الأسعار.
محمد بن سلمان ضد جو بايدن أم السعودية ضد أمريكا؟
بسبب الإستراتيجية المزدوجة تمكنت أمريكا أخيرًا من الوصول إلى الاكتفاء الكامل من النفط وبدء تصديره ابتداء من عام 2020، وزادت القناعة الأمريكية لدى الرئيسين السابقين باراك أوباما، ودونالد ترامب بانخفاض جدوى الانغماس في الشرق الأوسط بعد حرب العراق، بالإضافة إلى صعود الصين خطرًا رئيسيًّا على الهيمنة الغربية.
كل ذلك أدى إلى تشييد بنية تحتية لتغيير المعادلات السابقة في الشرق الأوسط، والرغبة الأمريكية بالابتعاد عن وحل التدخل المباشر في المنطقة لصالح التفرغ للصين فيما يعرف باسم «الارتكاز الآسيوي»، فامتنعت عن الانغماس في سوريا، وأتمت صفقة الاتفاق النووي مع إيران، وأوكلت لحلفائها مسؤولية حرب اليمن بدعم وسلاح وإشراف أمريكي، وحتى عندما جاء ترامب المخالف في تصوراته لأوباما كان يرغب في النتيجة بالأمور نفسها، ولكن بطرق مختلفة، تتضمن مسؤولية أكبر لدول المنطقة، مع بقاء الدور الأمريكي مدفوعًا بثمن أكبر ونقدي هذه المرة.
ولكن ما ميز إدارة ترامب أنَّها كانت مستعدة لترك المجال واسعًا أمام السعودية لإدارة شؤونها كما تريد مقابل صفقات عسكرية واستثمارية، بعد تحقيق تعاون هذه الدول مع الكيان الإسرائيلي ودمجها معًا، ليصبح الدور الأمريكي في الخلفية وداعمًا لجهودهم ضد إيران وغيرها، وكان ذلك مناسبًا لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وظهر ذلك في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، التي تسببت بأزمة لابن سلمان، خفف من وطأتها الرئيس ترامب بشكل كبير.
ولكن ترامب لم ينجح في الفوز بفترة رئاسية ثانية عام 2020، وعاد الديمقراطيون ليعود شبح مقتل خاشقجي للسطح، ومعه مخاوف العودة للاتفاق النووي، والانسحاب الأمريكي من المنطقة بالصورة التي أرادها أوباما، دون مراعاة مصالح السعودية من وجهة نظر محمد بن سلمان، وبدأت الخلافات لهذا السبب.
على المدى البعيد فإن السعودية قد تكون الخاسر الأكبر من كل هذه التطورات مقابل الغرب، فالعالم متجه أكثر نحو التخلي عن النفط؛ أو على الأقل تخفيض أهميته، وبلوغ مرحلة تكون فيها اليد العليا للمستهلكين لا للمنتجين في سوق النفط، وربما نبلغ فيها أيضًا قمة الطلب على النفط ويبدأ بعدها التراجع عالميًّا.
وبينما تستمر المخاوف السعودية الأمنية والعسكرية، لا يظهر وجود إستراتيجية واضحة سواءً للاعتماد الذاتي أو الاعتماد على دول أخرى مثل روسيا والصين.
لكن اليد العليا عادت للسعودية مؤخرًا بسبب الظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم اليوم، فمع جائحة كورونا وحرب أوكرانيا وارتفاع أسعار النفط، يحتاج العالم إلى السعودية للتحكم بالأسعار. وآخر محطات تسليح النفط السعودي كانت سابقة مباشرة للانتخابات النصفية الأمريكية، وبعد أنباء عن اتفاق سري بين إدارة بايدن والسعوديين لضمان رفع الإنتاج وتخفيض الأسعار، ما يخفف من وطأة التضخم ويزيد من فرص الديمقراطيين، لكن السعوديين تخلوا عن هذا الاتفاق وأعلنوا خفض الإنتاج.
ورغم أن عصر النفط لن ينتهي في السنوات القليلة القادمة، ما يعني استمرار المصالح الأمريكية في المنطقة وتأمين سوق النفط فيها، فإن الوضع الاستثنائي الحالي ليس وضعًا يمكن التعويل على استمراره، بل إن نتائج الانتخابات النصفية تظهر فشل الرهان على خسارة الديمقراطيين، وهو ما يمكن أن يكون سبب التحركات السعودية الأخيرة في سوق النفط، والآن أمام ابن سلمان عامان على الأقل من حكم الديمقراطيين دون مؤشرات على إضعافهم أو إمكانية عودة الجمهوريين أو الرئيس السابق ترامب.
العلاقة مع الصين وروسيا في الميزان
يُبالغ كثيرًا في تقدير عمق العلاقات السعودية مع كل من الصين وروسيا خصوصًا في الوقت الحالي، ويُبالغ معه تقدير مدى قدرة السعودية في المضي أكثر في هذا الاتجاه، فمن ناحية لا وجود حقيقي يمكن الانتفاع منه للسعودية في المنطقة لكل من الصين وروسيا لا أمنيًّا ولا عسكريًّا، وهما متقاربتان مع إيران التي ترى فيها السعودية تهديدًا لأمنها ووجودها، وكل من البلدين مشغولان بهموم داخلية وخارجية تخصهما وتمنعهما من أداء دور الولايات المتحدة على المدى القريب.
يعود تركيز الإعلام على الخلاف بين السعودية وأمريكا بسبب ضخامة العلاقة بين الطرفين، وفي المقابل يُركز على أي خطوة تقارب مع خصوم أمريكا، مثل مسألة تسعير النفط السعودية باليوان الصيني بدلًا من الدولار، ولكن عند التدقيق يظهر أن الخبر يقول بأن السعودية تفكر بتسعير جزء من مبيعاتها للصين باليوان لا كل هذه المبيعات، كما أن مثل هذه الخطوة قد تكون خسارة للسعودية.
وساهم النفط السعودي في تحقيق قوة للدولار في السابق، ولكن الدولار اليوم هو بالفعل عملة العالم بما لا يقاس ولا يظهر قدرة أحد على تغيير هذا الواقع في المستقبل القريب، كما أن الأهمية القصوى لتسعير عقود ما بعملة هذا البلد أو ذاك هو إعادة تدويرها في الاستثمارات المختلفة، فمن الصعب توجه السعودية لتوجيه علاقاتها الاستثمارية مع الصين.
أما بالنسبة للعلاقة مع روسيا فقد رفضت سابقًا في عام 2020 طلبًا سعوديًّا لخفض الإنتاج بهدف رفع الأسعار، وقررت بدلًا من ذلك وقف التخفيض، وما تزال الأسباب الروسية غير واضحة تمامًا، والخلافات السعودية الروسية على الملف السوري أحد الاحتمالات، والاحتمال الآخر هو الرغبة الروسية بالحفاظ على حصصها السوقية، لكن السعودية قررت بعد الرفض الروسي أن تغرق السوق بالنفط لتخفض سعر النفط لواحدة من أدنى مستوياته منذ سنوات، بالتزامن مع جائحة كورونا، وكانت روسيا المستهدفة من القرار السعودي.
نهاية يظهر أن قرارات السعودية قرارات تكتيكية أكثر منها إستراتيجية فيما يخص العلاقة مع الولايات المتحدة بشكل عام؛ رغم أنها قد تكون تخلت عن أي أمل في إدارة بايدن، وتريد المساهمة للدفع لتغييرها والإتيان بإدارة أخرى أكثر مراعاة للمصالح السعودية، ومصالح قيادتها الحالية خصوصًا، ورغبة السعودية بشيء من الاستقلالية، مع بقاء الضمان الأمني الأمريكي.
على المدى البعيد فإن أخطر ما يمكن أن تواجهه السعودية استطاعة أمريكا إنشاء تحالف لمشتري النفط، يضع بسبب التنسيق بين دوله قوة كبيرة في يدهم، بما يسمح لهم بممارسة ضغوطات كبيرة على الدول المصدرة للنفط من روسيا إلى السعودية، وتمكنها بذلك من التحكم بالسوق وأسعارها مع وجود ظروف أخرى مساعدة من الطاقة البديلة إلى الاكتشافات النفطية الحديثة واحتياج دول الخليج إليها في الأمن وغيره.
لا مهرب من واشنطن
معظم تحديات السعودية الآنية نتاج طبيعي لسياسات سابقة يغلب عليها أمران أساسيان لفهم واقع السعودية والخليج ومستقبلهما، الأول أن كثيرًا من السياسات التي تريد السعودية اتخاذها اليوم متأخرة وكان يجب البدء بها سابقًا، وأهمها التنويع الاقتصادي وتخفيف الاعتمادية على النفط، نهاية بإنشاء اقتصاد قوي قادر على الصمود في عصر ما بعد النفط، ومنها مسألة الأمن السعودي والخليجي.
أما الأمر الثاني فهو أن هذا التأخر خلق واقعًا وظرفًا مختلفًا في السعودية، هو جزء من شرعية أنظمتها اليوم، فالدول النفطية عمومًا تعتمد على ريوع النفط وتوزيعها بشكل يضمن تركيز السياسة دون خوف من تحدي ذلك من قبل أيٍّ كان في الداخل، وهذا يعني قدرة هذه الدول على عقد ما تريد من اتفاقات مع الخارج أيضًا، والتحول عن مثل هذا النموذج يعني ضرورة تغييرات كبيرة على السياسة والمجتمع ونواحي أخرى كثيرة.
لنقتصر هنا على مسألة أمن السعودية تحديدًا، وما يتعلق بذلك من شؤون عسكرية. وفي ذلك نقطتان أساسيتان توضحان لنا مصيرية الدور الأمريكي في أمن السعودية واستمرار وجودها ربما، والصعوبة الكبرى للسعودية للتوجه نحو روسيا والصين، أو حتى تنويع اعتماديتها.
أولًا: حجم العلاقات وكثافتها
تظهر بيانات مبيعات السلاح للسعودية الاعتماد الكبير جدًّا على الغرب عمومًا والولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا في المجال، فالولايات المتحدة مسؤولة عن 60% من مبيعات السلاح للسعودية، وبريطانيا في المرتبة الثانية بنسبة أكثر من 18%، تلحقها كل من فرنسا، وإسبانيا وألمانيا في المراتب الثالثة والرابعة والخامسة.
تأتي الصين في المرتبة السادسة تليها روسيا في المرتبة السابعة، وتبلغ مبيعات البلدين للسعودية ما لا يصل إلى 1% حتى، وهي نسبة منخفضة جدًّا، ولا يمكن تصور ارتفاعها بشكل جوهري خلال فترة قصيرة لتصل إلى مجموع نسب فرنسا وإسبانيا وألمانيا التي تبلغ حصتهم مجتمعة أكثر من 12 ضعف حصة روسيا والصين مجتمعتين، رغم أن حصص هذه الدول الخمسة جميعها لا تصل إلى حصة بريطانيا وحدها، وهي ثلث حصة الولايات المتحدة.
ليست مبيعات السلاح أمرًا يمكن تنويعه ببساطة مثل مبيعات القمح، فالسلاح يحتاج لدورات وبرامج للتدريب، وبنية تحتية تلائم أنواعًا معينة من الأسلحة ولا تلائم غيرها، وعقودًا طويلة الأمد للتزويد بالذخائر وللصيانة، ولغيرها من الاحتياجات الكثيرة التي لا تملك السعودية رفاهية تنويعها بسهولة اليوم.
وينطبق الأمر نفسه على عدد القواعد العسكرية الخمسة الموجودة داخل السعودية، وخارجها والتي تؤدي الدور المنوط بها بشكل متكامل، ففي البحرين يوجد قاعدتان، وقاعدة في جيبوتي، و12 قاعدة في العراق، وثماني قواعد في الكويت، وقاعدة في قطر، وقاعدتان في تركيا، ليكون العدد الكلي 31 قاعدة عسكرية. فلا يمكن ببساطة التخلي عنها وعن دورها رغم انخفاضه في السنوات الماضية، ولا يمكن أن تستبدل بها غيرها.
ترغب الصين وروسيا بنفوذ عالمي بلا شك، ولكنهما يعلمان أن المهمات الآنية لكل منهما تنحصر حاليًّا في محيطهما، تحديدًا في أوكرانيا وشرق أوروبا بالنسبة لروسيا التي قلصت وجودها بالفعل في سوريا، والصين التي تهتم اليوم بقضية تايوان و«ضمها» أو «استرجاعها»، ولا تمتلك إلا قاعدة واحدة في جيبوتي، وتعاون اتُّفق هذا العام على البدء بتطويره مع السعودية، وعلينا ألا ننسى القواعد الغربية الأخرى في المنطقة أيضًا، والتي تجعل كفة الغرب بقيادة الولايات المتحدة راجحة بما لا يقاس لأمن الخليج واستقرار دوله ووجودها أمام الأخطار المختلفة.
ثانيًا: صعوبة تأمين الاحتياجات السعودية من الصين وروسيا
يتعلق الأمر بالدرجة الأولى بـ«العقيدة العسكرية السعودية»، والتي لا نحتاج لتفصيلها بشكل كبير، فهي مبنية على صورة العقيدة العسكرية الأمريكية مع إضافات متناسبة مع الظرف السياسي والاجتماعي للخليج، والذي يجنب الشعب السعودي قدر الإمكان مضار الانخراط في الحروب.
فالسعودية والخليج عمومًا اعتمد على دعم العراق أولًا في وجه إيران، وهو ما فعلته أمريكا أيضًا في بداية الحرب، ثم اعتمدت على أمريكا لخوض المعركة ضد صدام حسين بعد غزو الكويت، ودعمت الجهود الأمريكية ضده كما سبق النقل عن السفيرة السعودية في أمريكا، ثم استمرت بمطالبة الولايات المتحدة بخوض مواجهتها عنها مع إيران.
أخيرًا؛ فإن التجربة السعودية في التدخل المباشر في حرب اليمن، والتي ما تزال الجهود السعودية غير مجدية فيه، ولكن هذه الحرب تظهر أيضًا ما تحتاجه السعودية من الخارج، وهو تأمين التفوق الجوي تحديدًا والتكنولوجي الكبير على خصومها لتقليل الخسائر البشرية قدر الإمكان، وهي عقيدة مشابهة للعقيدة الأمريكية على اختلاف الأسباب المؤدية لها.
ومكمل هذه الإستراتيجية الاعتماد على الحلفاء الداخليين في اليمن، وخصوصًا في إيكال المهمات البرية الأكثر خطرًا ودعمهم بما يحتاجون، ويدعم ذلك بالتعاقد مع مرتزقة مثل الجنود السودانيين وشركات أمنية مختلفة.
وبالمقارنة مع العقيدة الحربية لروسيا، يمكننا تسليط الضوء على الحرب في أوكرانيا، ودخول مئات آلاف الجنود الروس مباشرة على الأرض، بعقيدة عسكرية مناقضة للعقيدة السعودية، لا تمتلك فيها روسيا تفوقًا جويًّا كاسحًا، وتضطر لاستخدام جنودها، واستخدام تفوق عسكري يفرض الوجود على الأرض.
وعلى هذا فإن على السعودية الاختيار بين الإبقاء على الاحتياج للغرب في مبيعات السلاح، أو تغيير عقيدتها العسكرية بما يتناسب مع الإمكانات الروسية والصينية المبنية لحروب تختلف نوعيًّا عما ترغب وتفضل السعودية، أو تنويع مشتريات السلاح بما يمكن للصين وروسيا تقديمه ضمن العقيدة الحالية، وهو بالطبع لن يقلب الأمور بشكل جوهري، ولا حتى قريبًا من ذلك.
أما على المستويات الأخرى فالأمر يصبح أعقد بكثير بالنسبة للسعودية، فالصين وروسيا لا تملكان من الانتشار في المنطقة ما يقارن بالولايات المتحدة، ولا يملكان بنية تحتية فيها، ولا ماضيًا للتجارب العسكرية والأمنية يمكنهما من فهمها بشكل أكبر، ولا علاقات سابقة ضرورية لمسائل التدريب والتطوير والصيانة وغيرها، كل ذلك يشير إلى استحالة انتهاء الحاجة السعودية للولايات المتحدة من حيث الأمن.
كما أن المصالح الوجودية وبعيدة المدى للصين وروسيا لا تتطابق مع المصالح السعودية، بينما رسمت المنطقة وتاريخها السياسي في العقود الماضية وعلاقات أطرافها بحيث تكون مصالح السعودية متوافقة لحد بعيد مع مصالح الولايات المتحدة والعكس صحيح أيضًا.
في الختام، فحتى لو أرادت السعودية التغير جذريًّا، وتنويع علاقتها وتوطيدها مع روسيا والصين، فمن الصعب تفكيك النفوذ الأمريكي في المنطقة، ومن غير المنطقي أن تترك واشنطن نفوذها لخصومها، وقد لا يمنعها حينذاك القوانين الدولية مثل ما فعلت في غزو العراق.
ساسة بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.