مثّل الجوع المزمن أزمةً عالميّة حتى قبل اندلاع الحرب في أوكرنيا بوجود 800 مليون شخص في أمس الحاجة للغذاء. ولكن غزو روسيا لأوكرانيا – اللتان تنتجان غذاء 400 مليون شخص وتُوفران ما يصل إلى 12 في المئة من إجمالي المبادلات الغذائية عالميًا – قد جعل هذه الأزمة أكثر صعوبة والجوع أكثر حدة.
غطت صحيفة “نيويورك تايمز” لأول مرة تأثير الحرب على أزمة الجوع العالمية في أوائل آذار/ مارس بعد أسبوع من اندلاع الصراع. وفي أيار/ مايو، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة من “شبح نقص الغذاء العالمي”، في حين اختارت مجلة “الإيكونوميست” عنوان “كارثة الغذاء القادمة” ليكون على غلافها.
لكن يبدو أن جزءًا كبيرًا من هذه التغطية يغلب عليه الفتور تقريبًا: إذ تتخذ كل الرسوم البيانية لأسعار السلع الأساسية المختلفة منحى تصاعديًا – كما في هذه النظرة العامة من رويترز أو في تقرير نيويورك تايمز الذي كتبه رئيس مؤسسة روكفلر راجيف شاه، وسارة مينكر مؤسسة غرو إنتليجنس – تشير نظرة عرضية عليها إلى أن هذه الأزمة مجرد شكل من أشكال التضخم، رغم ما أثارته من جدل في الولايات المتحدة جراء ارتفاع الأسعار المحلية لدرجة أن هذه الارتفاعات اتخذت بعدًا عالميًا وواسع النطاق.
وفقا لوكالة رويترز للأنباء، توضح نظرة فاحصة على الرسوم البيانية أن تكلفة الحبوب ارتفعت بنسبة 69.5 في المئة مقابل 137.5 في المئة للزيوت مع ارتفاع المؤشر الإجمالي لأسعار المواد الغذائية بنسبة 58.5 في المئة. وهذا ما يكشف أن الأزمة الراهنة أكثر أهمية، خاصة إذا كنت تعلم بموجات العنف التي رافقت ارتفاع أسعار المواد الغذائية مؤخرًا. (مثل ما شهده أكثر من 40 بلدًا من أعمال شغب وزعزعة الاستقرار السياسي والحرب في سنة 2008).
لكن شيئًا واحدًا لا تشير إليه هذه الرسوم البيانية بوضوح ألا هو المجاعة الجماعية. وفقًا لديفيد بيسلي، الحاكم الجمهوري السابق لولاية ساوث كارولينا الذي يقود الآن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن هذه المؤشرات تعني أن حوالي 323 مليون شخص “يسيرون نحو المجاعة” وحوالي 49 مليونًا “حرفيًا على عتبة المجاعة” نتيجة لأزمة الغذاء المستمرة التي تفاقمت بسبب الحرب في أوكرانيا وتغير المناخ والآثار المستمرة لجائحة فيروس كورونا.
على غرار العديد من البرامج التابعة للأمم المتحدة، يعد برنامج الأغذية العالمي من مجموعات المناصرة التي تهدف إلى جمع التبرعات بشكل شبه دائم – في هذه الحالة، يعد بمثابة آلية سريعة مصممة لجمع الأموال لتجنب المجاعة الأكثر حدة باعتبارها منظمة، تأسس هذا البرنامج بشكل أساسي لوضع التقديرات والإنذارات المثيرة. وفي تشرين الأول/ أكتوبر، حذّر البرنامج من أن أكثر من نصف سكان أفغانستان قد يواجهون الجوع المهدد للحياة في الشتاء الماضي وحده.
لكن وظيفة منظمة مثل برنامج الأغذية العالمي ليس التنبؤ بما سيحدث وإنما التحذير مما هو ممكن – ثم محاولة تفاديه. تكمن معضلة السمعة المتأصلة لأي مؤسسة أنه عليها بذل كل ما في وسعها للتخفيف من الأزمة وتقديم تحذيرات أولية. لحسن الحظ أنه لم يمت نصف سكان أفغانستان هذا الشتاء، لكن طفلا واحدا تقريبًا من بين كل 10 أطفال وُلد هناك توفي، ناهيك عن أن مشاكل الغذاء المحلية مازالت مستمرة هناك.
على الصعيد العالمي، يعتبر الجوع حقيقة واقعة وليس مسألة ثنائية. وحسب تقديرات بيسلي، فإن الوكالة تطعم بالفعل 125 مليون شخص يوميًا. ويأمل بيسلي زيادة هذا العدد إلى 150 مليون هذا العام – أي أن الفجوة بين هذين الرقمين هي 25 مليون جائع.
لكن 49 مليونًا ليس لا يشير إلى عدد الأشخاص الذين يواجهون “انعدام الأمن الغذائي الحاد” إذا كنا نريد استخدام الفئات التقنية المختلفة الخاصة ببرنامج الأغذية العالمي. فهذا الرقم أعلى من ذلك بكثير، وهو حسب بيسلي في حدود 323 مليونًا على الأقل مقارنة بـ 276 مليونًا قبل الحرب و135 مليونًا قبل الجائحة و80 مليونًا عندما انضم إلى برنامج الأغذية العالمي في سنة 2017 – أي أنه تضاعف أربع مرات في فترة قيادة واحدة. في المقابل، هناك 49 مليونًا شخص معرضين لخطر الموت المباشر.
صرح بيسلي خلال مقابلة أجريتها معه من روما في 3 حزيران/ يونيو “قبل الحرب كنت قد حذّرت العالم بالفعل من أن سنتي 2022 و2023 يمكن أن تكونا أسوأ سنتين في عالم العمل الإنساني منذ الحرب العالمية الثانية”. وأضاف قائلا “أحاول أن أخبر الجميع بحجم الضرر الذي سيتركه الجوع – إلى أي مدى سيكون سيئًا. لكن تيقنت مؤخرا أنه أسوأ مما كنت أظن”.
يرجع تفاقم أزمة الغذاء إلى الحرب، لكن الأزمة الأساسية أكبر وأكثر هيكلية – ففي تقدير برنامج الأغذية العالمي على الأقل فإن الجزء الأكبر من تنامي الفئة التي تعاني من “انعدام الأمن الغذائي الحاد” هو نتيجة تدهور الظروف قبل غزو أوكانيا. في هذا السياق، يوضح الاقتصادي من جامعة كورنيل كريس باريت المتخصص في الزراعة والتنمية الذي يشغل منصب رئيس التحرير المشارك لمجلة “فوود بوليسي” أن ذلك يرجع في الغالب إلى جائحة كوفيد-19 وتغير المناخ والحرب. ويشير إلى أن “التقزم لدى الأطفال – الذي يعتبر الأثر التراكمي لسوء التغذية والصحة – كان في الأساس يوجد في كل بلد يعيش الفقر أما الآن أصبحت هذه الحالة منتشرة بالأساس في تلك الأماكن الفقيرة وتشهد حربًا”.
من جانب آخر، أصبحت تأثيرات المناخ الآن من الاضطرابات التي تفرض نفسها بشكل متكرر. وقد لخّصت مجلة “الإيكونوميست” حالة الزراعة العالمية عشية الحرب على النحو التالي: “قالت الصين، أكبر منتج للقمح، إنه بعد هطول الأمطار التي أخرت الزراعة العام الماضي، قد يكون هذا المحصول هو الأسوأ على الإطلاق. بالإضافة إلى درجات الحرارة القصوى في الهند، ثاني أكبر منتج في العالم، يهدد نقص الأمطار باستنزاف المحاصيل في سلال الخبز الأخرى، بدءا من حزام القمح الأمريكي وصولا إلى منطقة بو في فرنسا. كما يعاني القرن الأفريقي من أسوأ موجة جفاف منذ أربعة عقود”.
كان للحرب الكثير من التداعيات المعقدة، على غرار الحظر المفروض على الصادرات الروسية والحصار المفروض على الصادرات من أوكرانيا، حيث يكافح المزارعون أيضًا للحصاد والزرع في مواجهة القصف؛ وارتفاع تكاليف الوقود يزيد كثيرًا من أسعار الأغذية عن طريق زيادة تكلفة النقل إلى جانب الزيادات الكبيرة في تكلفة الأسمدة التي ينتج معظمها من الغاز؛ ناهيك عن فرض حظر على الصادرات من قبل أكثر من 12 دولة تشعر بالقلق بشأن أمنها الغذائي ما أدى إلى تفاقم إجهاد السوق.
كما هو الحال مع أزمة الطاقة، يبدو أن الكرملين حريص على تسليح حالة الطوارئ. (بالأمس، في رسالته الإخبارية بعنوان “سلو بورينغ”، وصف مات يغليسياس ما يحصل بأنه “حرب روسيا على إمدادات الغذاء في العالم.”) وبينما شجّع قادة العالم في دافوس وأماكن أخرى على التخفيف من حدة الأزمة جزئيًا من خلال حلّ مشكلة الحصار الروسي، تحذر وزارة الخارجية الأمريكية “البلدان المنكوبة بالجفاف في إفريقيا، التي يواجه البعض منها مجاعة محتملة” من شراء “القمح المسروق” خشية أن “يستفيد الكرملين من هذا النهب”، وذلك وفقًا لزملائي ديكلان والش وفاليري هوبكنز. وفي خضم كل هذا، يقول باريت: إنها “عاصفة متكاملة”.
يعتقد بيسلي أن سنة 2023 قد تأخذ منعطفًا أكثر تشاؤما، إذ يمكن أن تتفاقم أزمة الأسعار بسبب أزمة إمدادات حقيقية، حيث أصبح ملايين الناس غير قادرين على الحصول على الطعام ليس فقط بسبب الأسعار بل أيضًا بسبب الظروف الهيكلية المستمرة (بما في ذلك الفشل في زراعة محصول العام المقبل في أوكرانيا والطفرة الهائلة في سعر الأسمدة، التي يمكن أن تمثّل ثلث التكلفة السنوية الإجمالية للمزارعين أو أكثر). إلى جانب ذلك، يمكن للعالم أن يواجه ما لم يكن من الممكن تصوره في السابق: وهو نقص حقيقي في الغذاء.
لحسن الحظ أن معظم الاقتصاديين الزراعيين يبدون أكثر تفاؤلا إلى حد ما في هذا الشأن، إذ يشيرون إلى أن معظم المواد الغذائية يتم استهلاكها محليًا، ولا يتم تداولها في الأسواق الدولية، مما يعني أن أرقامًا مثل “12 بالمئة من السعرات الحرارية المتداولة عالميًا” قد تكون على الأغلب مضللة.
يحرص الاقتصاديون على التمييز بين “انعدام الأمن الغذائي” و”الجوع” و”المجاعة”، التي تصف نطاقا واسعا من التجارب البشرية، ويقولون إن إيجاد البديل ممكن في العديد من البلدان، حتى في 36 دولة التي تستورد بشكل روتيني 50 بالمئة أو أكثر من قمحها من روسيا وأوكرانيا. لكن في الأماكن التي لا يكون فيها الاستبدال ممكنا، تبقى المساعدة الغذائية هي الملاذ الأخير، حيث خصص الكونغرس 5 مليارات دولار لهذه الغاية وحدها.
رغم كل شيء، يشير الاقتصاديون الزراعيون إلى أنه لا يوجد نقص غذائي عالمي حقيقي بالأساس، بل فقط مجرّد “أزمة أسعار” متواضعة، كما يقولون إن الصراع في أوكرانيا تسبب في كارثة إنسانية حقيقية وواسعة النطاق، لكن ذلك لا يعني عودة الكارثة المالتوسية.
يقول باريت “أعتقد أن مشاكل الجوع لم تعد ترتبط في الحقيقة بمشاكل النظم الغذائية بعد اليوم. ما نلاحظه هو أن الناس لا يحصلون على كميات كافية من الطعام، ولكن السبب وراء ذلك لا يعود لأن النظام الغذائي لا يعمل. إذا ذهبت إلى أكثر القرى النائية في العالم ستجد أن الطعام متوفر هناك تجاريًا. وأن شركة يونيليفر وكوكا كولا على سبيل المثال يمكنها الوصول إلى أي قرية في أي مكان، وبتكلفة معقولة جدًا، لكن الإشكال هو أن الناس لا يستطيعون تحمل تكاليف منتجاتها”.
تقول كاثرين بيرتيني، الرئيسة السابقة لبرنامج الأغذية العالمي والحائزة على جائزة الغذاء العالمية لسنة 2003، إن “هناك مشاكل يمكن حلها، ولكن قد تكون هناك عقبات كبيرة على طول الطريق، لذا يجب أن نقلق جميعنا حول ما سيحصل”.
يرى بيسلي إنه لو تمكن برنامج الأغذية العالمي من الحصول على الأموال التي يحتاجها “لتمكنا من تجنب المجاعة وزعزعة استقرار الدول والهجرة الجماعية، لكن إذا لم نحصل على الأموال التي نحتاجها في الوقت الحالي، سنعاني من المجاعة وسيتزعزع استقرار الدول وستتفاقم الهجرة الجماعية بالفعل”.
يستشهد بيسلي بقصص النجاح التي تحققت خلال السنوات القليلة الماضي “عندما كثّفت الدول المانحة جهودها”، لكنه يخشى أن تكون نقاط التحول قد اختفت بالفعل في بعض الدول. وهو يضيف: “انظر إلى أعمال الشغب والاحتجاجات القائمة بالفعل في سريلانكا وإندونيسيا وبيرو وباكستان، التي تلت زعزعة الاستقرار التي حدثت في تشاد ومالي، وهذا دليل على الأحداث التي سنشهدها بسرعة غير مسبوقة قريبًا”.
لا يزال النطاق النهائي للكارثة وعدد الوفيات المترتب عنها غير مؤكد بالطبع. يقول باريت: “لا أحد منا يعرف ما إذا كان 20 مليونًا سيكون تقديرًا دقيقًا أم لا، لكنه بالتأكيد ممكن، لكنني لا أمانع ارتكاب هذا الخطأ في سبيل التحذير من المشاكل التي قد تحدث على المدى القريب”.
تقول مينكر، المؤسسة الإثيوبية لغرو إنتاليجنس، التي أطلعت مؤخرا مجلس الأمن الخاص بالأمم المتحدة بشأن تفاقم الأزمة: “هذا ليس حدثا دوريًا، بل إنه زلزالي، كما أنها ليست مجرّد فترة عابرة”. تستشهد مينكر بقائمة أطول من الأسباب، بما في ذلك أزمات الطلب الناجمة عن الوباء ومشاكل سلسلة التوريد ذات الصلة وكذلك “عدد قياسي من أزمات الإمداد” التي “ترتبط كلها بالمناخ”، مثل انتعاش أعداد الخنازير في الصين بعد إنفلونزا الخنازير وزيادة الطلب على الأعلاف التي نتجت عنها، ومشكلة الدين العام في البلدان الفقيرة، والتأثير غير المباشر بارتفاع سعر إحدى السلع الذي يؤدي إلى ارتفاع سعر سلعة ثانية مما يؤدي بدوره إلى ارتفاع سعر سلعة ثالثة، وتتواصل السلسلة.
وتضيف مينكر أن “حدوث أحد هذه القضايا على حدة يعتبر حدثًا ضخما في السوق، ولكن عندما تحدث خمسة منها في الوقت ذاته، فهذا يجعلها زلزالية”. لقد كان تحول روسيا وأوكرانيا إلى “سلتي خبز العالم” بمثابة “المعجزة الزراعية الآخيرة من نوعها منذ 30 عامًا”، مما يبطل التنبؤات الكارثية التي قدمها أشخاص مثل بول إرليش ونادي روما.
ولكن وفقًا لبيانات مؤسستها، فإن تأثير الأزمة ضخم بشكل تاريخي بالفعل، وتقول مينكر إنه في كانون الأول/ ديسمبر، حدّدت غرو إنتاليجنس أن هناك 39 مليون شخص على “حافة المجاعة”، وهي “حالة الطوارئ القصوى” عندما يكون “الشخص على وشك الموت جوعا”؛ بينما 780 مليون شخص في “فقر مدقع”، و1.2 مليار يعانون من “انعدام الأمن الغذائي”.
اليوم – وبعد ما يقارب ستة أشهر – باتت الإحصائيات 49 مليونًا و1.1 مليار وأكثر من 1.6 مليار؛ حيث تقول مينكر إن عشرة ملايين آخرين على شفا المجاعة، وأصبح 400 مليون شخص أكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم بسبب ارتفاع الأسعار في الأشهر الخمسة الماضية وحدها. وهذا حرفيًّا أكبر من عدد الأشخاص الذين انتشلتهم الصين من انعدام الأمن الغذائي على مدى العقدين الماضيين.
إنها أرقام مذهلة؛ فغالبًا ما يتم وصف عقدين من تحسين الأمن الغذائي من قبل الصين بأنه أحد أكثر التطورات الإنسانية معجزة في تاريخ البشرية، والتي تلاشت عالميًا منذ عيد الميلاد.
أخبرني باريت، محاولًا تقديم منظور تحديد المستوى حتى وهو يستشرف الكارثة الحالية: “إنه من الطبيعة البشرية أن نلاحظ الرياح المعاكسة، وعادة ما ننسى الرياح الخلفية، نحن بحاجة إلى الاعتراف بأن عدد الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية الحاد قد ارتفع بشكل حاد حقًا خلال العامين الماضيين بسبب تلك المستويات الثلاثة. لكنهم ما زالوا دون المستويات حسب مسيرتي المهنية”، وأضاف: “أعني؛ فقط في فترة التشغيل العادية قبل 10 أو 15 عامًا، كانت هذه الأرقام طبيعية جدًّا”.
على الرغم من استمراره في العودة إلى القصة الأطول أجلًا والأكثر تفاؤلًا، إلا أن باريت لا يبالغ في الحديث عن مدى سهولة توسيع هذه الاتجاهات؛ إنه قلق بشأن التأثيرات المناخية – كما يفعل جميع الاقتصاديين الزراعيين – ويذكر ويلارد كوكرين ومبدأه “جهاز الجري التكنولوجي” أن أنظمة الغذاء يجب أن تتطور باستمرار لدرء التهديدات المتطورة باستمرار من الآفات والفطريات إلى الحرارة؛ حيث يقول: “عليك أن تبذل جهدًا للمضي قدمًا ليس فقط للعودة إلى الوراء”، وهو ما يعني في هذه الحالة، كما يقول باريت، إنفاقًا أقوى بكثير في مجال البحث والتطوير الزراعي من الحكومات، كما كان شائعًا منذ نصف قرن؛ وفصل إنتاج الغذاء عن استخدام الأرض من خلال استخدام ابتكارات مثل التخمير الدقيق والزراعة العمودية وما شابه ذلك؛ والتغييرات الهيكلية القانونية والحوافز لإعادة توجيه مثل هذا الابتكار إلى العالم النامي الذي هو في أمس الحاجة إليه؛ وربما في النهاية، أو على الأقل الحد من استخدام الزراعة لإنتاج الوقود الحيوي، والذي يقدر مينكر أنه يستهلك ما يكفي من الغذاء لإطعام 1.9 مليار شخص سنويًّا.
ويقول باريت: “هذا ما سيمكننا من حل مشاكل الغد. لن يفعل أي شيء لمشاكل اليوم، لا يمكن معالجة مشاكل اليوم إلا من خلال استخدام دفتر شيكات وتوفير الطعام للأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إليه الآن”، مبينًا أن “القيام بذلك مسألة إرادة سياسية ولسوء الحظ، نفشل في ذلك كثيرًا”.
لا يكتفي باريت بتكرار الخطأ الليبرالي هنا، بل يشير إلى مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، الذي يتتبع مقدار الدعم المطلوب الذي يتدفق بالفعل إلى البلدان المعرضة للخطر. فقد تلقت جميع البلدان في جميع أنحاء إفريقيا الوسطى، أقل من 20 بالمئة من الدعم المحسوب حسب الحاجة، باستثناء دولتين، تشاد 16 بالمئة؛ وبوروندي 3 بالمئة، وقال باريت: “لقد فاق عدد المتبرعين، للنداء الإنساني لأوكرانيا، التوقعات عبر أنحاء العالم، بينما تكافح أماكن مثل اليمن وجنوب السودان ومدغشقر للوصول إلى 15 أو 20 بالمئة مما حققته النداءات لأوكرانيا”، وأضاف: “سياسيًّا، نحن ببساطة غير مبالين بالمعاناة الإنسانية في أجزاء كثيرة من العالم”.
ويتابع باريت قائلًا: “لقد فعلنا ذلك منذ عقود؛ فما لم يكن الأشخاص البيض هم من نزحوا في أماكن مهمة جيوستراتيجيًّا مثل يوغوسلافيا السابقة أو أوكرانيا، وكلاهما كانتا مكانًا به أزمات إنسانية كبرى واستجابة سريعة وسخية من بقية العالم، لكن في جمهورية الكونغو الديمقراطية وفي السودان، لا يتدخل الناس للدعم؛ فلماذا نتوقع تغيير ذلك باستمرار؟”
ويشير باريت إلى مبادرة نظام تصنيف أزمة الأمن الغذائي قائلًا: “إذا لم يكن الأمر كذلك؟ من الآن وحتى الأشهر الـ 12 المقبلة، سنشهد الكثير من الوفيات المتزايدة في الأماكن التي يصنفها نظام تصنيف أزمة الأمن الغذائي على أنها في حالة أزمة أو مجاعة”، وأضاف: “هناك الكثير من الوفيات المتزايدة في جنوب مدغشقر وجنوب السودان واليمن والصومال وأفغانستان. أريد القول، كل هذا له أصول سياسية، سواء على حد سواء من حيث الاستجابة الإنسانية ولكن أيضا في الصراع ومشاكل البنية التحتية، ما لم تكن هناك استجابة إنسانية قوية بشكل مدهش من أثرياء العالم -الحكومات والمحسنين”، مضيفًا: “سيكون هناك الكثير من المعاناة الإنسانية”.
إذا كنت تواجه مشكلة في مواكبة الأصوات المتعددة في هذه القصة، فهذا الرأي يعود إلى الشخص الأكثر تفاؤلًا على الأرجح.
وقال أمارتيا سين سنة 1998: “هناك حقيقة ملفتة للنظر في التاريخ الرهيب للمجاعة، وهي أنه لم تحدث مجاعة كبيرة في بلد يتمتع بنظام حكم ديمقراطي وصحافة حرة نسبيًا”، وهي ملاحظة تحولت عبر العقود إلى حقيقة مبتذلة؛ فكل المجاعات من صنع الإنسان.
كقول مأثور؛ قد يبدو مُطَمْئِنًا تقريبًا مثل إعلان الانتصار على قوى الطبيعة المتقلبة أو على الأقل التكرار المنتظم للمجاعة الجماعية. وعلى مر العقود، مع انخفاض معدلات الجوع العالمية بشكل مطرد، أصبحت هذه القراءة معقولة بشكل متزايد، مع المجاعات الجماعية في الأربعينيات والسبعينيات من القرن الماضي أو حتى الستينيات التي بدت أكثر فأكثر أشبه بآثار من حقبة سابقة. (يتضمن هذا أيضًا تحذيرات “القنبلة السكانية” و “حدود النمو”.)
ومع ذلك فإن حتى قصة السنوات الـ 15 الماضية لم تكن سلسة بالنسبة للطعام والجوع؛ حيث يتتبع عالم الأنثروبولوجيا والمخرج روبرت راسل القصة من خلال أسواق السلع، في كتاب جديد استفزازي بعنوان “حروب الأسعار”، مشيرًا – من بين أمور أخرى – إلى أنه لم يكن هناك أي نقص حقيقي في السعرات الحرارية خلال أي لحظة من تلك السنوات، كما يقول باريت، بل إنه في الواقع؛ فقد نمى الإنتاج الغذائي العالمي سنة بعد سنة وعلى التوالي. ومع ذلك في فترات عديدة كان هناك أزمات هائلة في أسعار الغذاء – مثل 2008، و2011 والآن خلال السنوات الأخيرة – جميعهم – كما يقترح – هم نتاج الارتفاع الهائل في المضاربات المالية في أسواق السلع الأساسية. وبينما يعرض دارسي أسعار المواد الغذائية تفسيرات استباقية – منحنى الطلب غير المرن، والذي يمكنه تحويل الاضطرابات البسيطة في العرض إلى ارتفاعات ضخمة، أو حقيقة أن تراجع الفقر العالمي يعني طفرة في الطلب تكفي لإبقاء النظام هشًا – وعلى حد قول راسل، تساعد الاضطرابات المالية في تفسير كيف أن الاضطرابات الطبيعية في السوق “آثار المناخ المحلي أو الصراعات” يمكن تضخيمها إلى مشاكل أكبر وأكثر عالمية، مثل تسابق التجار مع بعضهم البعض للاستجابة للتغيرات الصغيرة في السوق “الحقيقية”.
حظي كتاب “حروب الأسعار” باستقبال مختلط يمكن التنبؤ به إلى حد ما؛ وتمت مراجعته بازدراء في صحيفة “وول ستريت” من قبل روجر لوينشتاين، بينما أشاد به تيم ساهاي في مجلة “ذي أمريكان بروسبكت”، ووصفه رايان جريم من صحيفة “الإنترسبت” بأنه “أحد أهم الكتب في زماننا”. لكنه جاء في لحظة غير مناسبة من الناحية الثقافية؛ حيث خرج العديد من الناس من عمق الجائحة متسائلين عما إذا كان ما وصف منذ فترة طويلة على أنه عصب العولمة ومرونتها، قد تم الكشف عنه من خلال صدمات سلاسل التوريد والاضطرابات الأخرى، ليكون نوعًا من الوعد المخلوف أو حتى عذرًا لهشاشة السوق.
هذه ليست الرؤية الوحيدة المعقولة للسنوات القليلة الماضية، بالطبع – كما جادل العددين ممن لديهم أدلة عاطفية – وحتى مع الاعتراف بالكثير من قسوته؛ فإن الوباء ربما كان أقل اضطرابًا مما كان يمكن أن يكون عليه؛ حيث كانت مشاكل سلاسل التوريد أكثر سكونًا مما خشي الكثيرين في البداية. ويمكن لأولئك الذين يثقون في قوة السوق المعتمدة على توزيع الموارد بكفاءة؛ أن ينظروا لنفس مجموعة المعطيات الطويلة التي تفقدها راسل ويقولون إن بعض ارتفاعات الأسعار وحتى الأزمات الحينية يمكن أن تكون التكلفة الدورية لنظام ديناميكي يستجيب للاضطرابات المحلية.
لا يشارك راسل هذه الثقة؛ كما أن رؤيته تعد أكثر وضوحًا إلى حد كبير: فقد قدمت هذه الرؤية المالية في عصر الوفرة “الطبيعية” المتذبذبة التي لا داعي لها والتي تدفع العديد من ضعفاء العالم نحو الحافة؛ حيث يتساءل “هل هي أزمة غذائية بمعنى أنه لا يوجد طعام كافٍ؟ أم أنها أزمة سوق بمعنى أن السوق غير قادر على تسعير الطعام بشكل صحيح؟”.
وعلى الرغم من أن أزمة الأسعار الحالية ليست نتيجة مجردة لوضع الأسواق – وصفها راسل لي على أنها “عودة ما هو حقيقي”، نظرًا لأنها تعكس تأثير الحرب، من بين عوامل أخرى – كما تخبرنا أمرًا عن المثل الذي يُنسب كثيرًا لـ”سن”: أن أزمة الغذاء تخللها قرار استبدادي تعسفي لإطلاق مغامرة عسكرية مدمرة بعد سنتين من الفوضى العالمية للوباء، مع العديد من أهم المناطق الزراعية في العالم معطلة بشكل منفصل بسبب تغير المناخ المدفوع من البشر ومئات الملايين الذين يعانون بالفعل من آلام تقلب الأسعار، وكل ذلك هو تذكير، قد يكون أفضل من غيره، بالاقتراح القائل بأن المجاعة الآن هي في المقام الأول نتاج بشري. حسنًا؛ لا يدعو الأمر للاطمئنان كما كان من قبل.
هناك بالطبع العديد من الدروس الأخرى التي يمكن استخلاصها من الارتفاع المقلق في الجوع العالمي – أولًا على مدى السنوات الخمس الماضية، ثم على مدى الأشهر الخمسة الماضية – بما في ذلك دور الصراع، وكيف يمكن أن تكون الآثار المزعزعة للاستقرار أبعد ما يكون عما يمكن تسميته نقصًا عالميًّا حقيقيًّا في الغذاء. ولكن هذا بالنسبة لي، أحد أكثر الأمور الصادمة: أن تقول بأن كارثة ليست “طبيعية” بل “بشرية” لا يعني أنه يمكن حلها بسهولة. أو تجنبها بسهولة. بعد كل شيء، ها نحن هنا، نتعامل مع أزمة مشابهة ثالثة خلال الـ 15 سنة، مع تضاعف عدد الجياع في العالم بمعدل أربعة أضعاف في السنوات الخمس الماضية فقط.
الدرس الثاني هو أنه مع الأزمات العالمية الحقيقية، لا يتعين أن تصل الاضطرابات أو الأضرار إلى مستويات غامرة لإحداث آثار مدمرة. في الأجزاء المحظوظة في شمال الكرة الأرضية؛ يمكننا أن ننظر لارتفاع أسعار السلع الأساسية هذه – 10 بالمئة، 20 بالمئة، 50 بالمئة – واعتبارها مؤسفة، فهي تضع عبئًا على من يمتلكون الأقل، لكن لا يمكننا اعتبارها مدمرة بشكل جوهري، ويمكننا إخبار أنفسنا بأن الأسعار تعكس أداء الأسواق لعملها، وهو ما يفعلونه. لكن ما هي طبيعة هذا العمل؟ للكثيرين؛ لا يعد دفع نصف المبلغ الحالي مقابل الحليب أمرًا جللًا، ولكن على نفس موجة التذبذب في أسعار بقالتك يمكننا أن نرى تضخم الجوع العالمي بعشرات الملايين، وربما مئات الملايين.
يجب أن يكون هذا كافيًا لإثارة القلق؛ حتى لو تم تجنب أسوأ التنبؤات بالمجاعة هذه السنة والتي تليها، وهذا ما يمكن اعتباره نجاحًا في هذه الحالة: دفع مئات الملايين نحو حالة من انعدام الأمن الغذائي في غضون أشهر، ودفع عشرات الملايين إلى الجوع الحاد، مع عدد قليل نسبيًّا من الوفيات بسبب المجاعة الحقيقية. وربما يكون الأمر المقلق أكثر، هو أن قدرتنا على إدارة هذا “النجاح” تظل طي المستقبل.
ترجمة وتحرير: نون بوست نقلًا عن نيويورك تايمز
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.