شهدت أسعار الأسمدة الزراعية ارتفاعات متوالية في العامين الماضيين مدفوعة بعدة عوامل أبرزها، ارتفاع تكاليف المدخلات، وتراجع الإمدادات من المنتجين الرئيسيين مثل روسيا وبيلاروسيا، فضلاً عن القيود المفروضة على صادرات الأسمدة من قبل الصين. وأثار ذلك مخاوف عالمية بشأن تهديد الأمن الغذائي العالمي، لا سيما في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، حيث تتزامن تلك التطورات مع تعطل إمدادات الحبوب الروسية والأوكرانية إلى الأسواق الدولية عقب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في فبراير الماضي.
هيكل السوق
تتسم حركة التجارة العالمية للأسمدة على بالتركز في عدد محدود من الموردين، ما كان له تداعيات سلبية على الأسعار في الأشهر الأخيرة، ما يتضح على النحو التالي:
1- تركز المنتجين: هناك تركز شديد في إنتاج وتصدير الأسمدة على المستوى العالمي، فقد بلغت نسبة صادرات كل من روسيا والصين وكندا مجتمعة 36.4% من إجمالي الصادرات العالمية، من حيث القيمة، في عام 2021. ووفقاً لتقديرات مركز التجارة الدولية، تأتي روسيا في مقدمة الدول المصدرة للأسمدة بنسبة بلغت 15.1% خلال عام 2021.
واستحوذت روسيا وحدها على حوالي 26.3% من الصادرات العالمية للأسمدة البوتاسية، ونحو 13% من الصادرات العالمية من الأسمدة النيتروجينية، بينما استحوذت روسيا وبيلاروسيا مجتمعتان على حوالي خمسي الصادرات العالمية من البوتاس خلال عام 2021، وهو أحد المواد المستخدمة لتعزيز الإنتاج من المحاصيل.
2- طلب مرتفع: تأتي الصين والهند في مقدمة مستهلكي الأسمدة في العالم بنسب بلغت 24.1% و14.7% من إجمالي الاستهلاك العالمي على التوالي، وفقاً للبنك الدولي. بينما تأتي البرازيل في المرتبة الأولى كأكبر دولة مستوردة للأسمدة خلال عام 2021، وهي تعتمد بشكل كبير على السوق الروسي في الحصول على احتياجاتها، ثم تأتي الولايات المتحدة كثاني أكبر مستورد في العالم. ووفقاً لبعض التقديرات، من المتوقع ارتفاع فاتورة الواردات الأمريكية من الأسمدة بنسبة 12% خلال عام 2022، بعد ارتفاعها بنسبة 17% في عام 2021.
3- ارتفاع الأسعار: شهدت الأسعار العالمية للأسمدة صعوداً قياسياً بنسبة بلغت 30% تقريباً منذ بداية عام 2022 وحتى مايو الجاري، بعد زيادة بنسبة 80% العام الماضي. وقد ارتفع مؤشر أسعار الأسمدة التابع للبنك الدولي بنسبة 10% خلال الربع الأول من عام 2022 ليصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق من حيث القيمة الاسمية.
أسباب الأزمة
تركت الحرب الروسية – الأوكرانية تداعيات سلبية على سلاسل الإمداد العالمية للأسمدة وسط ارتفاع أسعار الطاقة، فضلاً عن تعطل الصادرات الروسية بسبب الحرب الأوكرانية، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:
1- ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج: قفزت أسعار الطاقة بشكل كبير عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، وهي تمثل مكوناً رئيسياً في إنتاج كثير من أنواع الأسمدة. وعلى سبيل المثال، يمثل الغاز الطبيعي ما يتراوح بين 70% و80% من تكاليف إنتاج الأمونيا (وهي مادة أساسية لإنتاج الأسمدة النيتروجينية). كما ارتفعت أسعار مدخلات الإنتاج الأخرى ومنها: الكبريت والبوتاس، وهي عناصر مهمة في إنتاج بعض أنواع الأسمدة.
2- تعليق الصادرات الصينية: أوقفت الصين تصدير أسمدة اليوريا والفوسفات للخارج حتى يونيو 2022 من أجل ضمان وجود إمدادات كافية للسوق المحلية. وتعتبر الصين أكبر الدول تصديراً للأسمدة بعد روسيا بنسبة 13.3% من الصادرات العالمية في عام 2021.
3- تراجع الإمدادات الروسية: تعتبر روسيا مُصدراً رئيسياً للأسمدة والمواد المغذية للتربة، وقد تسببت حالة الحرب والعقوبات المفروضة على روسيا في تعطيل الشحنات للأسواق الدولية، خاصة مع تجنب العديد من البنوك والتجار للإمدادات الروسية. كما أن شركات الشحن أصبحت تتجنب المناطق المحيطة بالبحر الأسود. علاوة على ذلك، علقت وزارة الصناعة الروسية في مارس 2022 مؤقتاً صادرات الأسمدة.
4- العقوبات الغربية على بيلاروسيا: تعتبر بيلاروسيا أحد المنتجين الرئيسيين عالمياً للبوتاس، والذي يستخدم في صناعة بعض أنواع الأسمدة. وتعطلت معظم شحناتها من المادة للأسواق الدولية بسبب العقوبات الغربية.
وأعلن الاتحاد الأوروبي في مارس 2022 حظر واردات البوتاس من بيلاروسيا. وقبل ذلك بشهر، أوقفت ليتوانيا استخدام شبكة السكك الحديدية الخاصة بها لنقل البوتاس البيلاروسي إلى ميناء كلايبيدا، والذي يمر عبره 90% من صادرات بيلاروسيا، وهي متغيرات ساهمت في تعطل شحنات البوتاس البيلاروسية للعالم، بينما، في أغسطس 2021، فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات على بعض الشركات البيلاروسية المنتجة للأسمدة البوتاسية.
تداعيات الأزمة
تهدد العوامل سالفة الذكر بنقص إمدادات السلع الزراعية والغذائية على المستوى العالمي، بالإضافة إلى تفاقم التضخم العالمي، ما يتضح على النحو التالي:
1- تراجع إنتاج الأسمدة عالمياً: دفع ارتفاع تكاليف إنتاج الأسمدة بعض الشركات والمصانع إلى خفض الطاقة الإنتاجية لمصانعها مثل شركة “يارا” النرويجية، وتعتبر أحد أكبر شركات تصنيع الأسمدة عالمياً، والتي قلصت طاقتها الإنتاجية من الأمونيا واليوريا ببعض مصانعها الأوروبية بنسبة 55% في مارس الماضي.
2- تراجع معدلات استخدام الأسمدة: من المتوقع أن يتراجع حجم استخدام الأسمدة على مستوى العالم في ظل الأسعار القياسية التي شهدتها، وذلك بعد أن شهد الاستهلاك العالمي نمواً بنسبة 6.3% خلال عام 2020 / 2021، مما سيؤثر سلباً على حجم الإنتاج من المحاصيل. وقد يضطر المزارعون إلى التدقيق وضبط استخدام الأسمدة الصناعية، والابتعاد عن بعض المحاصيل كثيفة استخدام الأسمدة، مثل الذرة، أو قد يلجأ بعض المزارعين إلى استخدام الأسمدة الطبيعية.
3- انخفاض إنتاجية المحاصيل: يهدد تراجع استخدام الأسمدة بتراجع إنتاجية عدد من المحاصيل الرئيسية حول العالم مثل القمح والأرز وفول الصويا. وهنا، يتوقَّع المعهد الدولي لأبحاث الأرز أن الإنتاج العالمي للأرز عرضة للانخفاض بنسبة 10% خلال الموسم المقبل، بما يمثل خسارة 36 مليون طن، أو ما يعادل غذاء 500 مليون شخص، بسبب انخفاض استخدام الأسمدة في آسيا، في حين أن محصول فول الصويا في البرازيل، التي تعد من أكبر الدول المنتجة له عالمياً، عرضة للانخفاض بنسبة 14% مع تراجع استخدام الأسمدة البوتاسية بنسبة 20%.
4- صدمة مزدوجة لإمدادات الغذاء العالمية: يتزامن ارتفاع أسعار الأسمدة مع تعطل إمدادات روسيا وأوكرانيا من الحبوب، مما يهدد بتفاقم أسعار السلع الغذائية في العالم، وصعود التضخم العالمي. وقد ارتفع مؤشر منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة لأسعار الأغذية وبلغ أعلى مستوى له على الإطلاق مسجلاً 159.7 نقطة في مارس 2022، قبل أن يتراجع بشكل طفيف في أبريل 2022 مسجلاً 158.5 نقطة، ولكنه لا يزال عند مستويات مرتفعة تاريخياً.
وفي السياق نفسه، من المتوقع أن تؤدي الأزمة إلى تفاقم حالة انعدام الأمن الغذائي وزيادة عدد الجوعى في العالم، لاسيما في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل. وجدير بالذكر أنه خلال عام 2021، تعرض 193 مليون شخص في 53 دولة لانعدام الأمن الغذائي الحاد، وذلك وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة.
5- الضغط على الأوضاع المالية: من المتوقع أن تقوم الدول بزيادة المخصصات المالية لدعم المواد الغذائية، وأيضاً لدعم المزارعين لشراء الأسمدة، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الإنفاق الحكومي، ومن ثم الضغط على الموازنات العامة للدول في العامين المقبلين.
انفراج أم تفاقم الأزمة؟
تتحرك الحكومات العالمية على عدة جبهات من أجل التخفيف من حدة أزمة الأسمدة في العالم، فمنها من تحاول زيادة إنتاج المزيد من الأسمدة محلياً كالولايات المتحدة وكندا والبرازيل. والأخيرة، تسعى لإقرار تشريع قانون يسمح بتعدين البوتاس في منطقة الأمازون، الأمر الذي يلقى معارضة من المجتمعات المحلية.
كما أعلنت وزارة الزراعة الأمريكية عن خطة بقيمة 250 مليون دولار أمريكي لدعم الإنتاج المحلي. فيما رفعت الهند من الإعانات التي تمنحها للمزارعين لشراء الأسمدة. وعلى الرغم من تلك المبادرات الإيجابية، فإن هناك عوامل تشير إلى صعوبة حدوث انفراجة في سوق الأسمدة العالمية في الأمد القصير، وتتمثل في الآتي:
1- استمرار القيود على الصادرات: يبدو من غير المرجح أن يخفف المنتجون الرئيسيون على غرار الصين من القيود المفروضة على تصدير الأسمدة للخارج، بل أن كثيراً من الدول الأخرى قد تبدأ في اتخاذ إجراءات مماثلة، من أجل حماية أمنها الغذائي.
2- صعوبة تأمين مصادر بديلة: تعاني الدول التي تعتمد على واردات الأسمدة من روسيا وبيلاروسيا، من صعوبات في تأمين شحنات من موردين آخرين. وحتى إذا كانت قادرة على شراء الإمدادات من الدول الأخرى، فإن المسافات الطويلة وصعوبات النقل ستؤدي إلى زيادة التكاليف وبالتالي ارتفاع أسعار الأسمدة بشكل أكبر.
3- مسار صعب لتوطين الصناعة: على الرغم من جهود الدول الزراعية لزيادة الطاقة الإنتاجية للأسمدة أو توطين الصناعة، فإن المشاريع الإنتاجية الجديدة قد تستغرق سنوات لتنفيذها، خاصة في الدول ذات الدخل المنخفض، التي لا يتوافر لديها التكنولوجيا أو الأموال اللازمة لتوطين الصناعة.
4- توقعات باستمرار ارتفاع الأسعار: يتوقع البنك الدولي ارتفاع أسعار الأسمدة بنسبة 70% تقريباً خلال عام 2022 قبل أن تتراجع في عام 2023، كما يتوقع أن ترتفع أسعار اليوريا بأكثر من 75% في عام 2022، وأن يرتفع متوسط أسعار البوتاس 1.5 مرة في عام 2022 مقارنة بعام 2021.
وجملة القول إن أزمة الأسمدة الحالية تهدد، ضمن عوامل أخرى، للأمن الغذائي العالمي، خاصة في الأمد القصير، ويبدو حدوث انفراجة بالسوق مرتبط بشكل أساسي بتخفيف الموردين لقيود التصدير، مما قد يساهم في التخفيف من حدة التقلبات التي قد تتعرض لها أسعار الأسمدة في الفترة المقبلة.
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.