ابتدأ الإنسان الأول حياته على الأرض جامعًا للثمر الممنوح له من الطبيعة، وصائدًا لطعامه من البر والبحر، مع ما يحتاجه ذلك من بذل قوة عضلية، ولم يكن يحتاج حينها لأكثر من أي يتجول في الأرض مقتاتًا على ما تقدمه له ليعيش يومًا آخر، بالإضافة إلى توفير مسكن يحميه من الحر والبرد وافتراس الحيوانات الضارية.
كانت القدرة على الاستمرار في هذا النمط من الحياة مرهونة بما توفره الطبيعة من ظروف ملائمة بشكل مستمر، وإلا فعلى الإنسان الارتحال إلى مكان يُوفّر له ما يحتاجه للعيش، لكن في أحد مجتمعات الهلال الخصيب، وعبر اجتماع حزمة من الظروف -بعضها راجع إلى شيء من الحظ وبعضها راجع إلى تكيف الإنسان مع تغيرات الطبيعة حوله- تمكن الإنسان من اكتشاف الزراعة.
ومن هنا بدأ لأول مرة في حياته يُشكل مجتمعات تقتسم بينها الوظائف، وتقوم بإنتاج شيء زائد على الطبيعة ومغيّر لها، بعد أن كان يتفاعل مع الطبيعة بشكل مباشر فقط، ليظهر الإنتاج والتراكم بأكثر أشكالهما بدائية.
انطلق بذلك سير البشرية الحثيث لإخضاع الطبيعة وتليينها لصالحها، بالإضافة إلى بدء مسيرة البشر نحو إخضاع بعضهم البعض داخل مجتمعهم من خلال النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يخترعونها، وإخضاع البشر في المجتمعات الأخرى عبر الحرب، واستمرت مسيرة الإخضاع هذه حتى عصرنا هذا الذي يشهد تعميم الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعولمتها مما يسمح بإخضاع الناس بالسياسة والاقتصاد معًا.
تاريخ النقود.. من وسيط إلى سلعة
تقدّم علوم الأنثروبولوجيا والتاريخ وغيرها من العلوم الاجتماعية، نظريات وحججًا ونقاشات طويلة عن المجتمعات الأولى وكيفية نشأتها وتطورها، إلا أن المهم هنا هو أن هذه المجتمعات أصبحت قادرة على نوع من تقسيم العمل، يمنع الإنسان من القدرة على العيش بمفرده، بدرجات مختلفة طبعًا، استمرت بالتعمق حتى الوصول إلى مجتمعنا الحديث، الذي يستحيل معه الهروب من العيش في مجتمعات إلا على سبيل الاستثناء المؤقت.
مع هذا التقسيم الاجتماعي للعمل، أصبح كل عامل ينتج فائضًا عن حاجته من هذه السلعة أو الخدمة، وأصبح من الممكن للناس في المجتمعات الأولى أن يبادلوا ما لديهم من إنتاج بغيره من السلع والخدمات التي يقدمها آخرون، فيما عُرف في النظرية الاقتصادية باسم «المقايضة».
واختُلف على حقيقة وجود المقايضة كنظام اقتصادي كامل، إذ إن المُثبت تاريخيًا هو توافق مجموعات من الناس في أماكن مختلفة فيما بينها على استخدام «وسائط» تُسهّل عملية التبادل، يكون لها قيمة محددة، وتُقارن قيم السلع والخدمات المنتجة في الاقتصاد بقيمة هذه الوسائط كالذهب والفضة وغيرهما.
ومع الوقت ظهرت سلبيات تتعلق بهذه العملات، فالكميات الكبيرة من الذهب والفضة صعبة الحمل، مع حاجة الناس في كثير من الأحيان لحمل كميات كبيرة منها لشراء سلع ثمينة أو كميات كبيرة من سلع رخيصة، كما أنّ من يحمل فائضًا من الذهب عن حاجته اليومية للشراء، أصبح يتحمل تكلفة إضافية لحفظ الذهب وحمايته من السرقة.
فبدأ بعض الناس في حفظ جزء من ذهبهم عند صاغة الذهب، مقابل تعهد الصاغة بإرجاع الذهب لأصحابه بوثيقة رسمية تضمنها الدولة بالقانون، ولاحقًا سُمح بتبادل هذه الأوراق بين الناس ليصبح لحامل هذه الوثيقة الحق في مبادلة هذه الأوراق بالذهب من عند الصاغة، وليس صاحبها الأصلي.
وبالتالي أصبح من الممكن شراء المنتجات وبيعها دون نقل الذهب حملًا أو يدويًا من مكان لآخر، بل تُنقل ملكيته من شخص لآخر باستخدام الوثائق، التي تحولت إلى عملات ورقية، وظلت تُمثّل ما يقابلها من ذهب أو غيره من الأحجار الثمينة، وأصبح يُطبع من هذه العملات ما يمثل كمية قليلة من الأحجار والمعادن الثمينة، لتكون مناسبة للتداول اليومي.
لاحظ صاغة الذهب أنهم يكدسون ثروات كبيرة دونَ أن يسحبها الزبائن في وقت واحد، بل إن المودعين لا يسحبون إلا كميات صغيرة من آنٍ لآخر، لعدم حاجتهم لحمل الذهب دائمًا، فقرروا طباعة وثائق تمثل أكثر مما لديهم من الذهب وإقراضها مقابل فائدة، بينما يحتفظون بكمية من الذهب تكفي لسداد السحوبات المعتادة من قبل المودعين، فأصبح بالإمكان إنتاج النقود من العدم، دونَ أن تمثّل مقابلًا حقيقيًا لها من الذهب أو المعادن الثمينة، في عملية تعرف باسم «خلق النقود»، كما يمكن تحصيل ثروة من هذه النقود المخترعة عن طريق إقراضها، وهذا أساس ظهور البنوك التجارية.
ومنذ بدء استخدام هذه الوثائق الورقية التي تمثّل الذهب نظريًا، كان من أهم عوامل استمرار هذا النظام هو ثقة الناس بصاغة الذهب (ولاحقًا البنوك التجارية) في إرجاع الذهب عند حاجة حاملي العملات النقدية له.
ولضمان مثل هذه الثقة دخلت الدولة على الخط، لتصبح ضامنةً للوثائق، ولتسن قوانين تضمن لحاملي العملات النقدية حقوقهم عند صاغة الذهب، بالإضافة إلى توافق الناس على كون هذه النقود والعملات تحمل قيمة معينة، فانهيار هذه الثقة لأي سبب يعني تزاحم الناس على البنوك التجارية لسحب ودائعهم، مع أن البنوك لا تحتفظ فعليًّا بذهب أو بنقود مماثلة لما تطبعه من عملة.
فصارت الحاجة ملحة أكثر لتنظيم هذه العمليات بشكل مركزي أكثر، وبشكل يربط النقد بالدولة مباشرة لتصبح هي المسؤولة أولًا وآخرًا عن النقود، والعمليات المتعلقة بها عن طريق البنوك المركزية، ولتصبح الثقة بالدولة وبأهليتها الائتمانية هي المصدر الأساسي لقيمة العملات الورقية، وإن لم تغطَّ بشكل كامل بشيء مادي كالذهب، بل ولاحقًا لتصبح كثير من العملات غير مغطاة أصلًا بالذهب، بل يتم تحديد قيمتها بتداولها بشكل حر في السوق العالمية.
خلق المال من المال.. كيف تصبح المائة دولار ألفًا؟
يمكن شرح هذه العملية عن طريق مثال واقعي يوضح ما يعرف بعملية خلق النقود، فلنفترض أنك أودعت 100 دولار في أحد البنوك، ولنفترض أن البنك يحتفظ بجزء من هذه النقود ليحتاط من عمليات سحب محتملة من الزبائن، ولنفترض أن البنك يحتفظ بـ10% من القيمة المودعة، فإن البنك يمكنه استخدام الـ 90 دولارًا الباقية لإقراضها.
ولاستكمال المثال فلنفترض أن هذه الـ 90 دولارًا أُعيد إيداعها في بنك آخر، سيحتفظ البنك الثاني بـ10% أيضًا ليُقرض الـ80 دولارًا الباقية وتتكرر العملية من جديد، وكل عمليات الإقراض هذه نشأت من الـ 100 دولار الأولى التي أودعتها، فبإمكان البنوك بناء على الثقة في النظام البنكي أن يضاعفوا النقد المودع بداية عن طريق إقراضه وتحصيل فائدة منه، كما يمكن في حال إيداع النقود المقترضة إقراضها مرة أخرى وهكذا، لتصبح المائة دولار الأولى ألف دولار، وكلما زادت النسبة التي يبقيها البنك احتياطًا دون إقراضها نقص المبلغ المخلوق من النقود نهاية.
بطبيعة الحال فإن هذه العملية لا تحصل بشكل مطابق على أرض الواقع، لكنّ كثيرًا من العمليات النقدية تشبه في طبيعتها هذا المثال من خلق النقود من عدم، وترتكز هذه العمليات على الثقة العامة في النظام ككل، وتعتمد كذلك على قدرة البنوك على إدارتها بشكل صحيح، بحيث يكون من المضمون عدم تعثر أحد المقترضين عن الدفع.
ففي حال حصول تعثرات كبيرة عن الدفع سيتسبب ذلك في عدم قدرة البنك على الوفاء بتسديد المبالغ المودعة لديه، لينتج عن ذلك أزمة تدفع الناس لسحب ودائعهم من البنوك الأخرى، والبحث عن تحويلها للذهب أو لعملات أجنبية أكثر استقرارًا، بينما لا تستطيع البنوك، حتى في الأوقات المثالية، إرجاع كل الودائع لديها في حال طلبَها كل أصحابها في الوقت نفسه، مما يعمق الأزمة ويضاعفها.
إلا أن لعملية الإقراض فوائد كبيرة تتمثل في نقل فائض المال غير المستخدم من المودعين إلى من يريد الاستثمار وينقصه التمويل، كما تساعد عملية خلق النقود بمضاعفة التمويل الممكن منحه للمستثمرين الراغبين بالتمويل.
كيف تتحكم الدولة في النقود؟
حتى تاريخ متأخر من عمر البشرية، كان الأهم في العمليات الاقتصادية هو ما تُنتج لا ما لديك من العملات، فلنفترض مثلًا أن مجموعة من الناس يقطنون جزيرة ما وينتجون ألفَ كيلو جرام من القطن وألفَ كيلو جرام من القمح، ولنفترض، لغايات التبسيط، أن هذه الجزيرة لا تقيم أي نوع من التجارة مع أي مكان آخر، فإن أي كمية مما اتفق عليه من العملات التي ستوجد في تلك الجزيرة، ستمثل بالضبط قيمة ما تنتجه هذه الجزيرة من السلع.
ولكن لنفترض أن أهل هذه الجزيرة اكتشفوا منجمًا للذهب، ضاعف ما لديهم منه بنسبة 100%، فإن ذلك يعني أن سعر السلع سيرتفع حتى يتضاعف سعر السلعتين بنفس النسبة بالضبط، ولو انخفضت كمية العملة 50% أيضًا لحصل العكس، ما يعني أن السلع لها قيمة ثابتة في نفسها، وأن العملة تعمل وسيطًا للتبادل ووسيلةً لقياس هذه القيمة، ومخزنًا للقيمة المنتجة.
ينطبق هذا المثال على العملات الورقية تمامًا كما ينطبق على الذهب، فمثلًا في اقتصاد مغلق -ليس له تجارة مع الخارج- فإن زيادة النقد في الاقتصاد، عبر طباعته، يعني انخفاض قيمة النقود لتصبح مساوية تمامًا لقيمة ما يُنتج داخل الاقتصاد، وانخفاض قيمة المعروض من النقود يعني أيضًا ارتفاع قيمتها.
إلا أنّ تطور الاقتصادات على المستوى الداخلي، وتشابكها مع بعضها البعض، نتيجة للتجارة المتبادلة، جعل المسألة أكثر تعقيدًا مما كانت عليه، فالعملة المحلية أصبحت سلعة معروضة في السوق العالمية، عدا عن كونها سلعة معروضة في السوق الداخلية أيصًا، فيمكنك شراء منتجات أخرى في الاقتصاد بها، أو استخدامها لشراء أدوات دين -كالسندات- ويمكن للدولة التحكم بالنقد المعروض في الاقتصاد، من خلال احتفاظها بجزء من هذا النقد لضخه أو سحب مقدار أكبر من النقد متى ما أرادت، والتحكم بمقدار المعروض من النقود عن طريق الكثير من أدوات السياسة النقدية.
فلنفترض أنه في اقتصادٍ ما يتوفر كمية معينة من النقود بأيدي الناس، وأن البنك المركزي يريد سحب جزء من هذه النقود، فيعرض البنك المركزي جزءًا من السندات التي في ملكيته للبيع، مُخفضًا سعر السندات بسبب زيادة المعروض منها ولتشجيع الطلب عليها، فيجري شراء هذه السندات مقابل نقد، يحتفظ به البنك المركزي ويُخرجه من التداول، ومن الممكن للبنك المركزي إذا رغبَ في ضخ النقود في السوق أن يشتري السندات من حملتها، ليضخّ بذلك النقد الذي بحوزته في السوق، فيما يُعرف بـ«عمليات السوق المفتوح».
وبالعودة إلى عملية خلق النقود، فإن البنك المركزي هو من يُلزم البنوك بأن تحتفظ بنسبة من المبلغ المُودع لديها وتمتنع عن إقراضه، ويمكن للبنك المركزي خفضَ تلك النسبة ليزيد من قدرة البنوك على خلق النقود، وبالتالي زيادة المعروض من النقد في السوق، أو رفعها ليؤدي إلى العكس، وتسمى هذه النسبة بـ«نسبة الاحتياطي الإلزامي»، وللبنوك المركزية أدوات أخرى للتحكم بالمعروض من النقود في الاقتصاد.
ما الذي يعدّ نقدًا في علم الاقتصاد اليوم؟
تصنف الدول النقود ضمن تصنيفات واسعة وضيقة، وتختلف عن بعضها في عدد هذه التصنيفات وما يندرج تحتها، إلا أنه في العموم، تعدُّ النقود الورقية والمعدنية والشيكات والودائع تحت الطلب (وكل الودائع التي يمكن تسهيلها عن طريق الشيكات)، ضمنَ التصنيف الأضيق للنقود، وذلك لكون كل هذه الأنواع من النقود سائلة، ويمكن استخدامها باعتبارها آلية دفع بشكل مباشر.
بينما يصنّف غيرها ضمن تصنيف أوسع، يشمل النقود السائلة ويضيف إليها النقود الأقل سيولة، مثل ودائع التوفير التي لا يمكن سحبها بشكل سهل ومباشر، والودائع الزمنية التي لا يمكن سحبها حتى يحين موعد استحقاقها، بينما لا تعد أدوات الدين مثل السندات وأذونات الخزينة نقودًا.
كيف أصبح الدولار الأمريكي عملة العالم؟
في الأمثلة السابقة، افترضنا انعزال الاقتصاد المطروح للنقاش عن الخارج، بعدم حصول تجارة بين دولة معينة ودول أخرى، إلا أن مجرد وجود تجارة عالمية اضطرَ المجتمعات والدول المختلفة لاتباع قواعد معينة في التجارة بخصوص النقد، فمع تخلي البشر عن المقايضة بدأوا في استخدام الأحجار الثمينة كالذهب والفضة بوصفها عُملات، ومن ثّم تحولوا إلى صك العملات المعدنية المكوَّنة من المعادن الثمينة، ولكون هذا العمل معتمد بالأساس على معادن متفق عليها بين الناس عمومًا، فلم يكن ذلك يمثل ذلك مشكلة كبيرة للتجارة بين الناس.
تاريخيًا تربع الذهب بشكل أساسي، والفضة بشكل ثانوي، على عرش العملات المستخدمة بين البشر للتبادل، وبقي الحال كذلك حتى ظهور العملات الورقية المغطاة بالذهب، ومع توسع التجارة العالمية أصبح من الضروري الاتفاق على قيمة معينة لهذه العُملات، تتفق عليها الدول المختلفة لإقامة تجارة فيما بينها، بوجود وسيط متفق على قيمته، ليظهر نظام «قاعدة الذهب».
في هذا النظام ثبتت الدول قيمة عملاتها بالنسبة إلى الذهب، مع تعهد كل دولة بإمكانية تحويل العملات الورقية إلى الذهب عند الطلب، وهو ما يعني أن كمية النقود الموجودة في الدولة ثابتة نسبيًا، وتعكس كمية الذهب الذي تملكه، إلا أن هذا النظام انتهى ببداية الحرب العالمية الأولى عام 1914.
وفي عالم ما بين الحربين العالميتين، انكمشت التجارة العالمية، ولم يعُد في العالم نظام نقدي موحد، واتبعت الدول نظمًا نقدية مختلفة، خصوصًا وأن آثار التجارة الخارجية كانت في أقل درجاتها بسبب انكماش التجارة العالمية.
وبعد الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء (أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي والصين)، ظهرت الحاجة للتنسيق الدولي على صعيد الاقتصاد كما على الصعيد السياسي، فانتقل العالم إلى «نظام بريتون-وودز»، الذي ثُبّتت فيه العملات للدولار، وثُبّت سعر الدولار للذهب، لتكون العملات مربوطة بشكل غير مباشر بالذهب، مع مسؤولية الولايات المتحدة الأمريكية عن إبقاء سعر الذهب ثابتًا، وتعديل عرض الدولار بما يتناسب مع هذا الهدف.
أما لماذا الدولار بالذات؟ فلأنه بعد الحرب العالمية الثانية احتفظت الولايات المتحدة الأمريكية بثلاثة أرباع احتياطات الذهب في العالم، ولم تكن أمريكا متضررةً بشكل مباشر من الحرب العالمية الثانية، بل استفادت مع زيادة حجم صادراتها للدول الأكثر تضررًا (وتحديدًا أوروبا واليابان)، وبسبب الطلب الكبير على الصادرات الأمريكية من السلع والخدمات من هذه الدول، نتجَ طلب كبير على الدولار.
ومع تعافي هذه الدول، انخفضت حصة الولايات المتحدة الأمريكية من الناتج العالمي، فضلًا عن بدء هذه الدول في التصدير، متسببين بانخفاض الطلب على الدولار، وزيادة الطلب على الذهب، ما أدى لزيادة عرض الدولار في العالم، وضعف قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على تحويل الدولارات إلى ذهب كما ينصُّ نظام النقد العالمي.
وتفاقمت الأزمة مع حرب أمريكا في فيتنام والإنفاق العسكري الضخم للولايات المتحدة الأمريكية أثناءها، تقريبًا منذ 1965 وحتى 1975، وفشلت كلّ محاولات إنقاذ النظام الاقتصادي، حتى أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية إنهاء مبدأ تحويل الدولار للذهب، وأعلنت الدولار عملة مُعوّمة، تعتمدُ في قيمتها على الثقة فيها نفسها وفي الدولة، وليس عبر التغطية بالذهب أو بغيره.
ما هو «البترودولار»؟
كان النقد بدايةً عبارة عن وسيلة تبادل متفق عليها، يمكن استخدامها وسيطًا للتبادل ومقياسًا لقيمة السلع والخدمات المنتجة، بالإضافة لكونه مخزنًا للقيمة يسهل استخدامه وتخزينه وحمله بدلًا من حمل المنتجات، فكان مُسهلًا للعمليات الاقتصادية وضروريًا لإتمامها دون الاضطرار للمقايضة التي تصعب التبادلات التجارية، فلا يمكنك -مثلًا- أن تقايض ما عندك من قطن بالقمح ما لم تجد من هو مهتم بالقطن، وأصبحت العملات سلعةً بحد ذاتها تتحدد بالعرض والطلب.
وفي القرن العشرين أصبح الدولار أهم هذه العملات، تبعًا لقوة الولايات المتحدة الأمريكية، والثقة العالمية بالاقتصاد الأمريكي الأكبر في العالم، إذ يحتوي على أكبر سوقين لتداول الأسهم، فضلًا عن أكبر الشركات الاحتكارية العملاقة التي يخدم بعضها أكثر من مليار مستخدم، مثل «مايكروسوفت»، و«آبل»، و«جوجل»، و«أمازون».
أصبح الدولار أكثر سلعة مملوكةً كاحتياطي في العالم، بسبب قوة الاقتصاد الأمريكي وحجمه الكبير، وتحالفات أمريكا الواسعة في العالم، إذ يمثل الدولار 60% من احتياطات البنوك المركزية العالمية، ويحتلّ اليورو المركز الثاني بـ20% من هذه الاحتياطيات، ويدخل الدولار في 90% من إجمالي التداولات في سوق العملات الأجنبية، والأغلبية الساحقة من الدين الحكومي في العالم مُسعّرةٌ بالدولار.
وتساعد عوامل أخرى على منح الدولار الأمريكي أفضلية على بقية العملات وجعله الأكثر استخدامًا في العالم، فقد صادف انتهاء نظام «بريتون وودز» حدوثَ أزمة عالمية من الركود التضخمي، سببها ارتفاع أسعار النفط في فترة قصيرة إثر حرب أكتوبر 1973، وقرار منظمة «أوبك» منع تصدير النفط للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاء آخرين لإسرائيل.
ولكن الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، تمكّن من إقناع السعوديين بإلغاء قرار المقاطعة، وعقدَ اتفاقًا معهم بأن تُسعّر عقود النفط بالدولار الأمريكي، مع تثبيت دول الخليج لعملاتها مقابل الدولار الأمريكي، لأنه دون ذلك ستصبح هذه الدول عرضة لفقدان جزء كبير من أرباحها نتيجةً لانخفاض سعر الدولار، ومع تثبيت عملاتهم مقابل الدولار تتخلص هذه الدول من مخاطر انخفاض قيمة الدولار وانخفاض أرباحها.
وأصبحت مبيعات النفط المُسعّرة بالدولار تُعرف بالـ«بترودولار»، ويقضي الاتفاق الأمريكي السعودي بإعادة تدوير كثير من أرباح النفط بأمريكا، عن طريق استثمارها في شركات أمريكية أو إيداعها في بنوك أمريكية، أو الاستثمار في سندات الخزينة الحكومية، مقابل دعم الشركات الأمريكية للاقتصاد السعودي من خلال نقل التكنولوجيا والمساهمة في بناء البنية التحتية.
ونتيجة لربط البترول بالدولار أصبح الكثير من دول العالم تحتاج إلى الحصول على احتياطات ضخمة منه لتأمين احتياجاتها من النفط، ودفع ذلك باتجاه تسعير غيره من السلع والخدمات بالدولار لتصبح أشبه بتأثير كرة الثلج، فالسعودية، مثلًا، تبيع النفط مقابل الدولار، وبما أن أغلب تصدير السعودية من المواد النفطية فإن ذلك يعني أن أغلب احتياطات العملة الأجنبية لديها بالدولار، وبالتالي ستستورد بالدولار أيضًا، حتى وإن كانت المنتجات المستوردة من بلد آخر غير الولايات المتحدة، وعليه ستسعر هذه المستوردات غير النفطية بالدولار أيضًا، وحال السعودية مشابه لحال الكثير من الدول التي تمتلك احتياطات أغلبها بالدولار.
وضمن العوامل التي منحت الدولار الأمريكي أفضليةً على بقية العملات أيضًا، أنّ سندات الخزينة الأمريكية مضمونة بضمانة الحكومة الأمريكية وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، ما يعني أنها أكثر السندات أمانًا للاستثمار (لأن الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر عالميًّا)، وذلك يدفع الكثير من الدول للاستثمار فيها، أو للاستثمار في الودائع الأمريكية بالدولار، وتتعمد بعض الدول الاحتفاظ باحتياطيات ضخمة من الدولار وشراءه مقابل عملتها لتخفيض سعر عملتها.
فعلى سبيل المثال، تستفيد الصين واليابان، وكلاهما من الدول المُصدّرة، من تخفيض سعر العملة، الذي يعني انخفاض سعر صادراتها مقابل الدولار، وترتفع تنافسيتها نتيجة لذلك، وفي الوقت نفسه، تُعدُّ الدولتان مستوردتان بكثافة للنفط وسلع أخرى تتطلب وجود احتياطيات كبيرة من الدولار لشرائه، وإن كانت الصين تحاول الانتقال لعقود باليوان الصيني بدلًا من الدولار لشراء النفط.
كل ذلك يعزز وضع الدولار الأمريكي باعتباره عملةً أساسية في العالم، ويجعل من الصعب استبدالها في المدى المنظور بأي عملة أخرى، بل إن كثيرًا من الدول الداعية لاستبدال الدولار بعملة أخرى، مثل الصين، تعلم أنها لن تتمكن من إنجاز ذلك دون المخاطرة بخسارة احتياطاتها بالدولار، الأمر الذي يجعل أي محاولة للاستبدال محكومة بالتدرج طويل الأمد وسياسات اقتصادية معقدة، لا يمكن التنبؤ بمدى فعاليتها قبل البدء بتطبيقها.
ساسة بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.