مقدمة:
بعد بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في معركة طوفان الأقصى في 19/1/2025، فإن معركة إعمار قطاع غزة لن تكون أقل عسراً من معركة السلاح، خصوصاً أن الإمكانيات المادية وحجم الناتج المحلي بعد التدمير الشامل لأغلب مرافق الحياة والبنية التحتية يزيد من تعقيدات استراتيجية ما بعد معركة السلاح. فإذا أضفنا لذلك أن متغيرات القوة الناعمة، وفي طليعتها المساعدات المادية والمالية ورفع الحصار وتيسير دخول ذلك للقطاع، سيتم استخدامها كأدوات ابتزاز من كافة خصوم المقاومة بهدف انتزاع التنازلات السياسية الاستراتيجية التي لم يتمكن الطرف الآخر من انتزاعها في ميادين القتال، فإن خصوم المقاومة وفي طليعتهم “إسرائيل” وبعض الدول الأوروبية وبعض الدول العربية ستعمل على عرقلة المساعدات أو محاولة التطفل عليها أو حتى منعها، ولعل سياسات بعض هذه الأطراف تجاه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (UNRWA) شاهد على ذلك، كما أن موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump يعزز هذه الهواجس.
ما سبق يستدعي بناء استراتيجية متكاملة لحشد طاقات كافة الأطراف الدولية، الحكومية وغير الحكومية، الأكثر تقارباً في توجهاتها لمساندة خطة الدعم للإعمار.
أولاً: واقع ما بعد الحرب:
تشير التقديرات الأولية طبقاً لتقارير الأمم المتحدة وغيرها من المصادر الموثوقة إلى أن الحرب خلّفت في قطاع غزة المعطيات التالية:[2]
1. 69% من البنية التحتية لقطاع غزة تمّ تدميرها، وهو ما يحتاج إلى فترة ما بين 3-5 أعوام لإعادة بنائها، وبتكلفة تصل إلى 5 مليار دولار للبنية التحتية فقط، وهو ما يعادل سبعة أضعاف إجمالي الناتج المحلي لقطاع غزة طبقاً لبيانات سنة 2022، وإن إعادة الوضع في كافة الجوانب إلى سابق عهده قبل الحرب يحتاج لفترة زمنية قد تمتد إلى سنة 2040، طبقاً لتقديرات برنامج الأمم المتحدة للتنمية United Nations Development Program (UNDP).
2. أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى الإضرار بنحو 370 ألف وحدة سكنية منها 79 ألف وحدة تمّ تدميرها بشكل كامل.
3. 68% من المساحات المخصصة للإنتاج الزراعي من المحاصيل وغيرها تضررت بالقدر الذي يقلص من إنتاجيتها، وإن ما بين 80 إلى 96% من المرافق الزراعية (كقنوات الري، والمزارع الحيوانية، ومراكز التخزين، والآلات الزراعية،…إلخ) تضررت بشكل كبير.
4. هناك ضرورة عاجلة للتخلص من نحو 50 مليون طن من الركام، ويحتاج إزالة هذا الركام لـ 15 عاماً إذا قامت، على سبيل التقدير فقط، 100 شاحنة بنقل هذا الركام وعلى أساس التفرغ التام لهذه المهمة لساعات العمل اليومي، مع الأخذ في الاعتبار ضيق المساحات في القطاع لتفريغ ونقل هذا الركام إلى مناطق معينة فيه.
5. إن استخراج جثث الضحايا من تحت الركام الذي قد يحتوي على أجسام غير متفجرة وآلات حادة يزيد من تعقيدات المشهد، وتقدر دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام United Nations Mine Action Service (UNMAS) أن في قطاع غزة ما يعادل نحو 7,500 طن من الذخائر التي لم تنفجر.
6. هناك نحو 37 مليون طن من النفايات بحاجة لتنظيفها من البيئة في القطاع.
7. أدت الهجمات الإسرائيلية إلى استشهاد أكثر من 46,600 شخص وأصيب أكثر من 110 آلاف شخص، ومن المرجح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير. وما يزال نصف مستشفيات غزة البالغ عددها 36 مستشفى تعمل جزئياً، وتضررت جميع المستشفيات تقريباً أو دمرت جزئياً، ولا يعمل سوى 38% من مراكز الرعاية الصحية الأولية. وتشير التقديرات إلى أن 25% من المصابين، نحو 30 ألف شخص، يواجهون إصابات تُغير أنماط حياتهم وسيحتاجون إلى إعادة تأهيل مستمرة.
8. استناداً إلى ما سبق، فإن التقديرات الأولية للأمم المتحدة (البرنامج الإقليمي للدول العربية Regional Bureau for Arab States (RBAS) في برنامج الأمم المتحدة للتنمية) تشير إلى أن غزة بحاجة إلى نحو 40 مليار دولار من الدعم لإعادة الإعمار، منها ما يصل إلى 2-3 مليار دولار مساعدات عاجلة.[3] لكن تقديرات أخرى ترفع الحاجة إلى ما بين 50-80 مليار دولار. وتقدر الأمم المتحدة أنّ استمرار “إسرائيل” في فرض العراقيل أمام المساعدات قد يجعل الفترة لإنجاز الإعمار تمتد إلى 350 عاماً.
لعل المعطيات السابقة تحدد حجم التحدي الهائل أمام الإدارة في قطاع غزة لإنجاز الإعمار، مما يستوجب التفكير في مصادر التمويل بشكل رئيسي، خصوصاً من الأطراف الأقل ربطاً بين مساعداتها وبين الابتزاز السياسي. وفي هذه الورقة سنحاول رصد أهم هذه المصادر على النحو التالي:
1. منظمة التعاون الإسلامي:
تُعدّ منظمة التعاون الإسلامي ثاني أكبر منظمة دولية من حيث عدد الأعضاء بعد الأمم المتحدة، إذ تضم 57 دولة يصل عدد سكانها من المسلمين إلى مليار و662 مليون نسمة (دون حساب الأقليات الإسلامية المنتشرة في أغلب دول العالم غير الإسلامية).[4]
من جانب آخر، فإن منظمة التعاون الإسلامي أرست منذ سنة 2018 في مؤتمرها في تركيا أسساً تنظيمية للتعاون بين جمعيات الهلال الأحمر الإسلامية في الدول الأعضاء وجمعيات الصليب الأحمر الدولية بهدف تقديم المساعدات الإنسانية وتخفيف المعاناة الإنسانية لمجتمعات الدول الأعضاء، وظهر أول مؤشرات هذا التوجه في المساعدات التي تلقّتها دولة أفغانستان منذ سنة 2021.[5]
وعند مراجعة الإمكانيات الاقتصادية والمالية للدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامية يتبين لنا ما يلي:[6]
أ. يبلغ إجمالي الناتج المحلي (على أساس المعادل الشرائي Purchasing Power Parity) للدول الأعضاء في المنظمة ما يساوي 8.769 تريليون دولار حتى سنة 2023، والملاحظ أن الفترة من 2019 إلى مطلع سنة 2023 شهدت نمواً متواصلاً في معدلات النمو الاقتصادي بما يصل إلى 1.6 تريليون خلال الفترة من 2019-2023.
ب. يُمثّل إجمالي الناتج المحلي لمنظمة التعاون الإسلامي ما يساوي 3% من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
ج. يُمثّل إجمالي الناتج المحلي لدول التعاون الإسلامي ما يعادل 5% من إجمالي الناتج المحلي للدول النامية التي يصل مجموع دولها إلى 152 دولة.
فإذا حسبنا قيمة الناتج المحلي لدول المنظمة الإسلامية وهو نحو 8.8 تريليون دولار تقريباً، واعتبرنا أنّ القطاع بحاجة إلى 50 مليار دولار، فإن ذلك يعني أنّ على هذه الدول أن تتبرع بنحو 0.5-0.6% من إجمالي ناتجها المحلي السنوي، فإذا تمّ تقسيم الدعم على ثلاثة أعوام فإن العبء سيتراوح بين 0.1 إلى 0.2 من إجمالي الناتج المحلي، وإذا علمنا أن هناك إمكانية لتوفير مبالغ مالية (كما سنوضح) من مصادر أخرى، فإنّ العبء المطلوب من دول المنظمة الإسلامية سيقل عن النسب المذكورة سواء تمّ الحساب على أساس الفترة كلها (ثلاثة أعوام)، أو على أساس إجمالي الدعم لكل الفترة.
ومن الضروري أن تتَّسق مساعدات الدول الإسلامية مع اتجاهات المساعدات الدولية، فعلى المستوى العالمي، ارتفع إجمالي مساعدات التنمية الرسمية Official Development Assistance (ODA)، الصافية بالأسعار الجارية التي تلقتها جميع البلدان النامية بنسبة 46.1% من 139.4 مليار دولار أمريكي في سنة 2011 إلى 203.7 مليار دولار أمريكي في سنة 2021، أي بزيادة مضطردة بمعدل يفوق 4% سنوياً، خصوصاً أن إجمالي مبلغ مساعدات التنمية الرسمية التي تلقّتها مجموعة دول منظمة التعاون الإسلامي ارتفع بنسبة 73.8% من 45.4 مليار دولار أمريكي في سنة 2011 إلى 78.9 مليار دولار أمريكي بالأسعار الجارية في سنة 2021. وفيما يتعلق بتحقيق هدف 0.7% من مساعدات التنمية الرسمية إلى الدخل القومي الإجمالي، الذي اعتمدته منظمة التعاون الإسلامي في برنامجها المسمى “مساعدة التنمية الرسمية، فقد احتلت المملكة العربية السعودية المرتبة الأولى بين دول منظمة التعاون الإسلامي وعلى مستوى العالم في سنة 2021 بنسبة 1.01% من مساعدات التنمية الرسمية إلى الدخل القومي الإجمالي Gross National Income (GNI)، بزيادة كبيرة عن 0.24% في سنة 2019. وأصبحت تركيا ثاني أكبر دولة مانحة بين دول منظمة التعاون الإسلامي والثالثة عالمياً بنسبة 0.96% في سنة 2021.[7]
ذلك يعني أن هناك إمكانيات مالية واضحة لدى منظمة التعاون الإسلامي للإسهام في دعم شعب مسلم ولعضو في المنظمة هي دولة فلسطين، كما أن هذا هو المعيار الذي يكشف عن مدى الالتزام الإسلامي تجاه أولى القبلتين وثالث الحرمين وتجاه الشعب الفلسطيني بشكل عام.
وفي هذا الاطار، من الضروري الالتفات إلى هيئات الوقف الإسلامي في دول منظمة التعاون الإسلامي، ويشير تقرير علمي مفصل إلى أنّ أصول هذه الهيئات تصل إلى نحو 105 مليارات دولار، وأن لها مئات المشروعات في الدول الإسلامية وخارجها، مما يجعلها جهة قادرة على الدعم كثيراً من هذه الأموال والمشاريع لإعمار غزة، لا سيّما أن الكثير من المؤسسات الوقفية لها محافظ مالية للإعمار ومشروعات استثمارية، ويشير التقرير إلى أنّ النجاح الواضح للمشاريع الوقفية يؤهلها لتقديم الدعم، إذ إنّ معدل نمو الاستثمارات في هذه المشاريع يتجاوز 3%.[8]
من جانب آخر، يمكن للبنوك الإسلامية أن تُسهم في جهود إعادة الإعمار، ويمكن اعتبار بنك التضامن الإسلامي للتنمية نموذجاً لمثل هذه المؤسسات، أو الهيئة الخيرية الإسلامية التي لها تجارب في مجال التعاون مع وكالة الأونروا خصوصاً في مجال توفير المعدات الطبية لنحو 22 مركزاً للرعاية الصحية في قطاع غزة خلال سنة 2020، ناهيك عن نشاطات هيئة الإغاثة الإسلامية Islamic Relief التي تعمل في 45 دولة، وتتعاون مع العشرات من الهيئات الخيرية الإسلامية الأخرى المنتشرة في الدول الغربية، كما أنها تدير 827 مشروعاً في 39 دولة، وهو ما يشير إلى إمكانيات مهمة توحي بالقدرة على الإسهام في إعمار غزة، كما أن لهذه الهيئة خبرة في دعم غزة، فهي تدير 16 مشروعاً في غزة، كما قدّمت مساعدات لأكثر من 711 ألف فرد في القطاع.[9]
من جانب آخر، فإن استطلاعات الرأي التي قامت بها مؤسسات معروفة تشير إلى أنّ أندونيسيا مثلاً تتصدر دول العالم في الاستعداد الفردي لتقديم التبرعات، وهو ما يعزز فكرة التوجه للمجتمعات الإسلامية عبر الجمعيات والهيئات والأحزاب والنقابات لجمع التبرعات الشعبية في المجتمعات الإسلامية.[10]
2. الدول العربية:
يصل إجمالي الناتج المحلي العربي إلى نحو 3.44 تريليون دولار، فإذا اعتمدنا رقم 50 مليار دولار لحاجة غزة، فان ذلك يمثل 1.5% من إجمالي الناتج المحلي، فإذا تمّ توزيع ذلك على ثلاثة أعوام فهذا يعني أن المطلوب هو ما نسبته 0.5% من إجمالي الناتج المحلي سنوياً (لمدة ثلاثة أعوام).[11] فإذا قارنا بين المساعدات من دولة عربية واحدة للحرب الأفغانية خلال الغزو السوفييتي وبين المبلغ المطلوب لمساعدة غزة، فإنّ المملكة العربية السعودية قدّمت لافغانستان (بدعم رسمي وشعبي) معدل 8 مليار دولار،[12] ولو قارنّا معدل التبرعات المالية للدول العربية لدول أخرى عربية وغير عربية خلال الفترة من 1973-1989 نجد أنّ معدلات الدعم قياساً لإجمالي الدخل القومي لكل دولة عربية يفوق ما هو مطلوب لغزة.
من جانب آخر، فإن الهيئات الخاصة والجمعيات الخيرية العربية تسهم بشكل واضح في الدعم والمساعدات، وهو ما يتضح في دور بعض الصناديق الخيرية وبعض البنوك في الدول العربية.[13] وتدل بعض استطلاعات الرأي على عينات من المجتمع العربي أن 87% من العرب مستعدون لتقديم التبرعات خصوصاً في شهر رمضان للأغراض الخيرية،[14] وهو توجه لا بدّ من استثماره، خصوصاً أنّ حلول شهر رمضان بات قريباً هذا العام. وقد شرعت بعض الهيئات الإسلامية العربية في جمع التبرعات لغزة خلال معركة الطوفان وحتى الآن، وهو ما يؤكد دور وأهمية هذه الهيئات التي لا تربط مساعداتها بأيّ شروط سياسية.[15]
3. الدول الأجنبية:
أ. بلغت قيمة إجمالي المساعدات الدولية لسنة 2023 في كافة أرجاء العالم ما يساوي 7 مليار دولار، أي بزيادة تصل إلى اكثر من 12 مليار دولار عن سنة 2022 (وهو ما يُعزى للحرب الأوكرانية)، وقد تتراجع هذه النسب بسبب التوجهات البراجماتية التي يتبناها الرئيس الأمريكي ترامب تجاه المساعدات خصوصاً للدول النامية،[16] لكنّ عدداً من الدول غير العربية وغير الإسلامية أعلنت عن استعدادها لدعم الإعمار في غزة تلبية لدعوة الأمم المتحدة على لسان أمينها العام على ضرورة الإعمار السريع،[17] فقد أعلن الناطق بلسان الخارجية الصينية عن “أنّ الصين تدعم تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار وستواصل تقديم المساعدات الإنسانية إلى غزة، بالإضافة إلى المساعدة في إعادة إعمارها بعد الحرب”،[18] وعبَّرت الخارجية اليابانية عن تأييدها لوقف إطلاق النار مشيرة إلى أن اليابان “ستواصل من خلال التواصل الوثيق مع البلدان والمنظمات الدولية المعنية، الانخراط في الجهود الدولية المتعلقة بتحسين الأوضاع الإنسانية وإعادة الإعمار والحكم في غزة، وستضاعف جهودها الديبلوماسية نحو تحقيق حلّ الدولتين وإرساء السلام والاستقرار على المدى الطويل في المنطقة”،[19] كما عبَّرت روسيا على لسان الناطقة باسم خارجيتها عن الأمل في “أن يُسهم تنفيذ هذه الاتفاقية في تحقيق الاستقرار المستدام في غزة، وتمكين عودة النازحين، ودعم إعادة بناء البنية التحتية المتضررة خلال الصراع”،[20] كما أنّ الاتحاد الأوروبي أعلن بشكل مبكر عن تأييده لاتفاق وقف إطلاق النار وتقديم 120 مليون يورو (اليورو يساوي 1.04 دولار) للإعمار،[21] واندرج الموقف الهندي في السياق نفسه حيث قال بيان للخارجية الهندية “نرحب بالإعلان عن الاتفاق على إطلاق سراح الرهائن ووقف إطلاق النار في غزة. ونأمل أن يؤدي هذا إلى توفير إمدادات آمنة ومستدامة من المساعدات الإنسانية لشعب غزة”.[22] ومن المؤكد أنّ هناك العديد من الدول المساندة للحقوق الفلسطينية ستنضم لحملة الدعم المادي لغزة خصوصاً بعض الدول في أمريكا اللاتينية أو في الشمال الأوروبي أو في إفريقيا.
4. المنظمات الدولية الأخرى:
ب. الهيئات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة: يشير تقرير لمنظمة الصحة العالمية World Health Organization (WHO)، إلى أنّ المنظمة مستعدة لتوسيع نطاق الاستجابة بالتعاون مع شركاء الصحة في الأمم المتحدة بما في ذلك صندوق الأمم المتحدة للسكان United Nations Population Fund (UNFPA) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) United Nations Children’s Fund (UNICEF) والأونروا و67 شريكاً آخر، ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان إزالة العقبات الأمنية التي تعوق العمليات. وسوف تحتاج منظمة الصحة العالمية إلى ظروف على الأرض تسمح بالوصول المنتظم إلى السكان في جميع أنحاء غزة، وتمكين تدفق المساعدات عبر جميع الحدود والطرق الممكنة، ورفع القيود المفروضة على دخول المواد الأساسية. ومن الضروري أيضاً توفير الحماية الفعالة للمدنيين والعاملين في مجال الرعاية الصحية، وتسريع عمليات الإجلاء الطبي عبر جميع الطرق الممكنة لأكثر من 12 ألف مريض (ورفاقهم) الذين يحتاجون بشكل عاجل إلى رعاية متخصصة، وتعزيز وتسريع نظام الإحالة إلى شرقي القدس والضفة الغربية، ومعالجة إصلاح الطرق، وإزالة الأنقاض، ومعالجة الذخائر غير المنفجرة.[23]
ج. المنظمات الاقليمية: مثل الاتحاد الإفريقي African Union (AU)، ورابطة دول جنوب شرق آسياAssociation of Southeast Asian Nations (ASEAN)، والجماعة الكاريبية Caribbean Community (CARICOM)، والمجلس الأوروبي Council of Europe (CoE)، والاتحاد الأوراسي الاقتصادي Eurasian Economic Union (EAEU)، ومنظمة شنغهاي للتعاون Shanghai Cooperation Organization، والاتحاد من أجل المتوسط Union for the Mediterranean (UfM)، واتحاد دول أمريكا الجنوبية Union of South American Nations (USAN)،…إلخ. وعلى الرغم من تقاطع العضوية بين هذه التنظيمات مع بعضها، فمثلاً كل دول الجامعة العربية أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي…إلخ، كما أنّ أغلب دول منظمة أوبك Organization of the Petroleum Exporting Countries (OPEC) هي أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي وهكذا تتداخل العضوية، لكن استجابة هذه المنظمات تكون أبطأ من المواقف الفردية نظراً لأن قراراتها تحتاج لاجتماع الأعضاء ومناقشة الاقتراحات.
ومع التفاوت بين قدرات هذه المنظمات، بل إنّ بعضها قد لا يكون لديها برامج إغاثة أو مساعدات، لكنها في معظمها تُسهم بطرق أخرى في المساعدة.
د. المنظمات الدولية غير الحكومية وهيئات المجتمع الدولي (غير العربية والإسلامية):
نظراً للعدد الهائل للجمعيات الخيرية أو هيئات الإغاثة القائمة في معظمها على دوافع إنسانية، فإن بعضها يضاهي قدراته المالية وعدد مشاريعه بعض الدول الصغرى، فعلى سبيل المثال تُعدّ منظمة فلتهونجِهيلف Welthungerhilfe[24] واحدة من أكبر منظمات المساعدة الخاصة في ألمانيا، وهي مستقلة سياسياً وغير طائفية، وهي تسعى إلى عالم خالٍ من الجوع. ومنذ تأسيسها في 14/12/1962، تمّ دعم 12,128 مشروعاً خارجياً في نحو 72 دولة بمبلغ 5.07 مليار يورو. وهي تتبع مبدأ تمكين الناس من مساعدة أنفسهم على تحسين ظروف معيشتهم بشكل مستدام، وتقدم كل شيء من الإغاثة السريعة من الكوارث إلى مشاريع إعادة الإعمار والتعاون التنموي الطويل الأجل مع المنظمات الشريكة الوطنية والدولية.
ثانياً: المحاذير:
شكَّلت قضية المساعدات الدولية المشروطة سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أحد موضوعات العلاقات الدولية التي أثارت نقاشاً واسعاً بين باحثي العلاقات الدولية، فهناك من يرى أنّ المساعدات المشروطة لم تحقق النتائج المرجوة، بل أثّرت على الاستقرار الدولي،[25] بينما هناك من يتحفظ على هذه المسالة.[26]
إنّ الربط بين التوجهات السياسية وبين نمط العلاقة بين الجهة المتبرعة وبين الجهة المتلقية للتبرع أمر في غاية الأهمية، فالملاحظ أنّ التبرعات تعد أداة للتغلغل في المجتمع الآخر من خلال النخب، أو الهيئات المدنية، أو الأقليات والطوائف والحكام، أو المجتمع ككل.
ويدلنا السياق التاريخي أنّ الدول الأكثر تقديماً للمساعدات للفلسطينيين هي الأكثر خصومة سياسية معهم (الولايات المتحدة، وأوروبا، وبعض الدول الخليجية)، بينما الدول الأقل خصومة هي الأقل تقديماً للمساعدات، ويكفي المقارنة بين الدعم الصيني أو الروسي أو الخليجي وبين الدعم الأمريكي أو الأوروبي لفلسطين، دون نفي أنّ بعض الدول قد لا تربط بشكل واضح بين المساعدة والسلوك السياسي الفلسطيني، كما هو الحال مع بعض دول الشمال الأوروبي.
ذلك يستدعي من المقاومة أن تحاول التركيز في التواصل مع الجهات الداعمة على الدول الأقل عداء لأنها ستكون أقل اشتراطاً، ثم لا بدّ من الاعتماد على القطاعات غير الحكومية وخصوصاً الهيئات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة. وعلى المقاومة أن تستفيد من الصورة السلبية لـ”إسرائيل” التي تكرست لدى قطاعات واسعة من المجتمع الدولي بما فيها المجتمعات الغربية، والتي تجعل الاستجابة للمساعدة أكبر، وهو الأمر الذي كان واضحاً في الحركات والمظاهرات الشعبية المساندة لفلسطين.
ثالثاً: التوصيات:
تشير المعطيات السابقة إلى أنّ حجم الأضرار والوضع الاقتصادي في قطاع غزة يستوجب سرعة المبادرة إلى:
1. مطالبة المنظمات الدولية وخصوصاً هيئات الإغاثة وصناديق التنمية في الدول العربية والإسلامية للاجتماع لبحث اسراتيجياتها في مساعدة غزة على تجاوز آثار العدوان، وقد سبق وأن نبَّهنا لهذا الموضوع خلال الحرب.
2. اعتبار الهيئات والتنظيمات الشعبية في الدول العربية والإسلامية مصدراً لا بدّ من التواصل العاجل معها للإسهام في جمع كافة أشكال المساعدات لغزة.
3. مطالبة وسائل الإعلام العربية والإسلامية لتخصيص برامج للحض على تقديم المساعدات لغزة.
4. نظراً لاحتمال سعي أطراف معينة (عربية وغير عربية) إلى إيجاد إشكال إجرائي حول الجهات التي يوكل لها تسلم التبرعات والمساعدات، خصوصاً في ظلّ السوابق التاريخية والمعاصرة لمماحكات السلطة الفلسطينية مع قوى المقاومة في هذا الجانب، فإننا نقترح على المقاومة أن تطرح فكرة أن تتولى وكالة الأونروا بصفتها هيئة دولية تسلم المساعدات وإدارتها، أو أن تتعاون الوكالة مع هيئات دولية من ممثلي المجتمع المدني الفلسطيني أو من هيئات دولية مختارة بعناية.
ويُسهم هذا الإجراء في:
• عدم توظيف تنازع الاختصاص بين الإدارة المحلية في غزة والسلطة الفلسطينية لتعطيل الشروع في تقديم المساعدات، وهو هدف إسرائيلي مؤكد.
• تكريس فكرة تثبيت مكانة وكالة الأونروا التي تسعى الديبلوماسية الإسرائيلية لتقويضها خصوصاً في ظلّ التوجهات السلبية للرئيس الأمريكي ترامب تجاه هذه الوكالة.
• العمل على إبداء أقصى درجات الشفافية في إدارة المرافق والأموال التي يمسّها مشروع الإعمار.
[1] خبير في الدراسات المستقبلية والاستشرافية، أستاذ في قسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في الأردن سابقاً، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وهو عضو سابق في مجلس أمناء جامعة الزيتونة في الأردن، وجامعة إربد الأهلية، والمركز الوطني لحقوق الإنسان وديوان المظالم، والمجلس الأعلى للإعلام. ألَّف 37 كتاباً، يتركز معظمها في الدراسات المستقبلية من الناحيتين النظرية والتطبيقية، ونُشر له نحو 120 بحثاً في المجلات العلمية المحكّمة.
[2] How Long Will It Take and How Much Will It Cost to Rebuild Gaza?, site of TIME, 17/1/2025, https://time.com/7207750/how-long-will-it-take-how-much-will-it-cost-to-rebuild-gaza; Rebuilding Gaza: Enormous costs and complex challenges ahead, site of Anadolu Agency, 17/1/2025, https://www.aa.com.tr/en/middle-east/rebuilding-gaza-enormous-costs-and-complex-challenges-ahead/3453798; The economic cost of rebuilding Gaza after devastating war, site of France24, 16/1/2025, https://www.france24.com/en/tv-shows/business/20250116-the-economic-cost-of-rebuilding-gaza-after-devastating-war; The ceasefire in Gaza brings hope, but immense challenges lie ahead to restore the health system, site of reliefweb, 19/1/2025, https://reliefweb.int/report/occupied-palestinian-territory/ceasefire-gaza-brings-hope-immense-challenges-lie-ahead-restore-health-system; and $80b to rebuild Gaza Strip – but who will rule?, site of Globes, 19/1/2025, https://en.globes.co.il/en/article-80b-to-rebuild-gaza-strip-but-who-will-rule-1001499814
[3] Gaza post-war reconstruction could cost up to $40 billion, says UN, France24, 3/5/2024, https://www.france24.com/en/video/20240503-gaza-post-war-reconstruction-could-cost-up-to-40-billion-says-un
[4] Steve Coll et al., Ghost Wars: History of the CIA (New York: 2004), p. 296; and Demographics of the member states of the Organisation of Islamic Cooperation, site of Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/Demographics_of_the_member_states_of_the_Organisation_of_Islamic_Cooperation
[5] Organization of Islamic Cooperation, site of International Center for Not-for-Profit Law (ICNL), 7/12/2023, https://www.icnl.org/resources/civic-freedom-monitor/oic#facts
[6] Aam Slamet Rusysiana and Ihsanul Ikhwan, “Bank Credit and Economic Growth: Evidence from ICO Countries,” Accounting and Sustainability journal vol. 2, issue 2, December 2023, pp. 2–3; and Annual Report on Trade Among the OIC Member States Executive Summary, The Islamic Centre for Development of Trade to the 38th Session of the Follow Up Committee of the Standing Committee for Economic and Commercial Co-Operation of the OIC (COMCEC), Ankara, 24–25/5/2022, site of COMCEC, https://www.comcec.org/wp-content/uploads/2022/05/1-Agenda-n4-ICDT-English-Summary-report-on-trade.pdf
[7] OIC Statistical Outlook 2023: Official Development Assistance (ODA) in OIC Countries, site of Statistical, Economic and Social Research and Training Centre for Islamic Countries (SESRIC), 25/5/2023, https://www.sesric.org/publications-detail.php?id=570
[8] انظر: سامي الصلاحات وآخرون، التقرير الاستراتيجي للأوقاف 1996-2021 (المعهد الدولي للوقف الإسلامي، دار البشير للثقافة والعلوم، 2022)، ص 41، و39-325، و366. ونعتقد أن هذا التقرير يمكن أن يساعد في ترشيد خطة للتعاون مع هذه المساعدات نظراً للفيض الكبير من المعلومات العلمية التي يوفرها.
[9] OIC Statistical Outlook 2023: Official Development Assistance (ODA) in OIC Countries, SESRIC, 25/5/2023; The International Islamic Charity Organization (IICO), site of United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (UNRWA), https://www.unrwa.org/international-islamic-charity-organization-iico; Muslim Charity Donations – With My List of the Top 10 Best UK Islamic Charity Organisations, site of Charity Excellence Framework, https://www.charityexcellence.co.uk/muslim-charity-and-best-uk-islamic-charities; site of Islamic Relief, https://islamic-relief.org; Islamic Relief Worldwide, “Annual Report and Financial Statements 2023,” Islamic Relief, 2024, https://islamic-relief.org/wp-content/uploads/2024/07/IRW-AR2023.pdf; and NGOs And Charitable Organizations Global Market Report 2025, site of The Business Research Company, January 2025, https://www.thebusinessresearchcompany.com/report/ngos-and-charitable-organizations-global-market-report
[10] Anna Fleck, The Most Charitable Countries in the World, site of Statista, 5/9/2024, https://www.statista.com/chart/16417/share-of-people-who-donated-money-to-charity
[11] International Aid to the Palestinians: Between Politicization and Development, site of Arab Center Washington DC (ACW), 4/8/2022, https://arabcenterdc.org/resource/international-aid-to-the-palestinians-between-politicization-and-development; and Arab world: Gross domestic product (GDP) in 2023, by country, Statista, https://www.statista.com/statistics/806135/gdp-of-the-arab-world
[12] انظر الجداول الخاصة بكل دولة عربية في ملاحق الدراسة التالية:
Van den Boogaerde, “Contributions by Arab Donor Countries and Their National Agencies,” in Financial Assistance from Arab Countries and Arab Regional Institutions (International Monetary Fund, 1991), passim.
[13] Top 6 Arab Donor Organizations, site of Development Assistance Roadmap Portal in the Middle East (DARPE), https://darpe.me/top-6-arab-donor-organizations; and Top 10 Charity platforms in the Arab world in 2024, site of Medics Worldwide, 2/4/2024, https://medicsww.com/charity/top-charity-platforms-in-the-arab-world
[14] Share of Muslims planning to donate money to charity in the Middle East 2022, by country, Statista, https://www.statista.com/statistics/1327731/middle-east-share-of-muslims-planning-to-donate-money-to-charity-by-country
[15] Together With Gaza | Urgent Aid Campaign, site of International Educational Scientific and Cultural Organization, https://iesco.my/donations/together-with-gaza
[16] Official development assistance (ODA), site of The Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD), https://www.oecd.org/en/topics/official-development-assistance-oda.html
[17] انظر تصريحات الرسمية لعدد من رؤساء ووزراء الخارجية غير العرب حول الترحيب بوقف المعاناة وضرورات المساعدة لغزة، انظر:
Israel-Gaza ceasefire deal: Reactions and quotes from world leaders, Reuters News Agency, 16/1/2025, https://www.reuters.com/world/international-reaction-gaza-ceasefire-deal-2025-01-15; and Taylor Heyman, Arab leaders urge aid deliveries to Gaza after ceasefire deal, site of The National, 15/1/2025, https://www.thenationalnews.com/news/mena/2025/01/16/arab-leaders-urge-aid-deliveries-to-gaza-after-ceasefire-deal
[18] Update: China welcomes Gaza ceasefire deal: spokesperson, site of Xinhua, 16/1/2025, https://english.news.cn/20250116/79bc0a0acab647ec83ee106201979fcf/c.html
[19] Reaching an Agreement for the Release of Hostages and Ceasefire in the Gaza Strip (Statement by Foreign Minister IWAYA Takeshi), site of Ministry of Foreign Affairs of Japan, 16/1/2025, https://www.mofa.go.jp/press/release/pressite_000001_00926.html
[20] Russia Welcomes Gaza Ceasefire Deal, site of The Diplomatic Insight, 16/1/2025, https://thediplomaticinsight.com/russia-welcomes-gaza-ceasefire-deal
[21] EU announces new €120 million humanitarian aid package for Gaza, site of European Commission, 16/1/2025, https://civil-protection-humanitarian-aid.ec.europa.eu/news-stories/news/eu-announces-new-eu120-million-humanitarian-aid-package-gaza-2025-01-16_en
[22] “Will Enable Sustained Supply Of Aide”: India Welcomes Gaza Ceasefire Deal, site of NDTV, 16/1/2025, https://www.ndtv.com/world-news/will-enable-sustained-supply-of-aide-india-welcomes-gaza-ceasefire-deal-7485028
[23] The ceasefire in Gaza brings hope, but immense challenges lie ahead to restore the health system, reliefweb, 19/1/2025.
[24] Gaza: Welthungerhilfe Welcomes Planned Ceasefire, reliefweb, 17/1/2025, https://reliefweb.int/report/occupied-palestinian-territory/gaza-welthungerhilfe-welcomes-planned-ceasefire
[25] يرى بعض الباحثين أن المشروطية تنجح حيث توجد النظم السياسية الديموقراطية فقط، انظر:
Gabriella R. Montinola, “When Does Aid Conditionality Work?,” October 2007, site of Stanford University, https://web.stanford.edu/class/polisci440d/Montinola.pdf
[26] Jonathan R.W. Temple, “Chapter 67 – Aid and Conditionality,” in Dani Rodrik and Mark Rosenzweig (eds.), Handbooks in Economics, Volume 5 (Elsevier,2010), https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/B9780444529442000057; and and Douglas Zormelo, “Is Aid Conditionality Consistent with National Sovereignty?,” Working Paper 95, Results of ODI research presented in preliminary form for discussion and critical comment, site of Overseas Development Institute (ODI), November 1996, https://media.odi.org/documents/7018.pdf
وليد عبد الحي – مركز الزيتونة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.