بين الفقه والفكر والرواية: ملامح من الشخصية الجامعة للإمام الخامنئي

15

لا بأس بين الحين والآخر من الإطلالة على الشخصية الجامعة لسماحة الإمام الخامنئي حفظه الله، انطلاقًا من القاعدة التي وضعها سماحة السيّد حسن نصر الله رضوان الله عليه، حول تقديم الإمام الخامنئي للعالم كمفكّر إنساني رؤيوي وصاحب مشروع إسلامي حضاري.

يحتار المطّلع من أين يبدأ وكيف يبدأ، فحياة قائد الثورة الإسلامية دام ظلّه مليئة بالنشاط والأعمال المتنوعة في المجالات المختلفة، سواء الرسمية منها أو غير الرسمية. فهو الفقيه المتمكّن في حضور المجتهدين، وبِلامة الحرب والجندية إذا برقت السيوف ونُوديَ بالجهاد. وهو المطالع بالمعنى التام للكلمة، حيث حازت اهتماماته كل مجال.

ستكون زاوية التقديم لهذا القائد الفذّ من ميدان الفكر وقاعدة الكتاب لعرض جانب مميّز من شخصيته الفريدة:
لم يقتصر سماحته في ذوقه الأدبي على قراءة لون واحد من الأدب، بل حاز الشعر بلطائفه وظرائفه اهتمامًا بالغًا لديه، حتى عُدَّ بين أهل الشعر ملمًّا بعالمهم، ناقدًا لفنّهم. وهذا ما نشاهده سنويًّا في لقائه مع الشعراء والأدباء.

يطالع أيضًا في أدب القصص، يقرأ ما تصل إليه يداه، ويبحث عن الروايات التاريخية والعالمية والمؤثّرة. ومنذ مدّة أحصيت له ما يقارب 30 رواية أجنبية عالمية تحدّث عنها وأعطى رأيه فيها، بل وصنع اتجاهًا لقارئيها؛ إذ حين ينتقدها أو يمدحها يقنع من يسمعه بقوة منطقه وملاحظاته الدقيقة على الرواية كفن أو كمضمون.

من بين تلك الروايات: رواية «الدون الهادئ» للكاتب ميخائيل شولوخوف، التي يحكي عنها بإسهاب ويوصي بقراءتها، ويقول إنها أفضل أعمال الكاتب، ما يعني أنه بالحدّ الأدنى اطّلع على رواياته الأخرى، التي بالفعل ذكر بعضها ونقدها في خطابات أخرى. كما يقيّم الرواية المؤلّفة من أربعة أجزاء، ليقول إنّ المهم منها هو أوّل جزء، حيث تصبح أقل جودة في الأجزاء التالية.

أما الرواية الثانية، والتي يفضّلها على كل الروايات الأخرى التي ذكرها، فهي رواية «درب الآلام» للكاتب أليكسي تولستوي، التي يعتبرها بمثابة بطاقة تعريفيّة بثورة أكتوبر التي قامت في روسيا مطلع القرن العشرين، إلا أنه ينتقد رواية أخرى للكاتب نفسه هي «الأرض البكر» التي كان تقييمها سلبيًا لديه.

وله أيضًا ترشيحات عديدة، مثل:

  • «الحرب والسلم» للكاتب ليو تولستوي
  • «البؤساء» للكاتب فيكتور هوغو
  • «معذّبو الأرض» للكاتب فرانز فانون
  • «الروح الوالهة» للكاتب رومان رولان
  • «قصة إنسان واقعي» للكاتب بوريس بوليفوي

ثالثًا، يقرأ في الفكر المعاصر، فعلى الرغم من الاتجاهات الفكرية الواسعة، في إيران تحديدًا، فضلًا عن تلك الموجودة في العالم الإسلامي وغيره، فإننا نجد أنّ سماحته مواكب وحاضر. وقد قرأ لرموز الفكر؛ ففي حقبة “ما قبل انتصار الثورة” قرأ لجلال آل أحمد مثلًا، وهو المعروف بفكره وأعماله في النثر الفارسي، كما اطّلع على مفكّري عصر المشروطة في إيران. وعليه، لم يغفل عن قراءة التاريخ، الذي هو مسبّب الحاضر بالنسبة له بشكلٍ أو بآخر. فقرأ سير الشخصيات والشعوب، ودائمًا ما يوصي ببعض الكتب التي تقدّم تجربة أو تنقل واقعًا، حتى إذا ما قرأها شخص استفاد منها وطوّرها، على قاعدة قول الإمام عليّ عليه السلام: “التجارب علمٌ مستأنف”.

لذا نجده هو بنفسه كتب مذكّراته التي ضمّت نشأته ونشاطه الثوري السياسي والجهادي حتى انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ليبصر الكتاب النور باسم «إنّ مع الصبر نصرًا».
ومن المعلوم عنه أيضًا توصيته المتكرّرة بمطالعة كتاب «لمحات من تاريخ العالم» للكاتب والزعيم الهندي جواهر لال نهرو، الذي كتبه الأخير في السجن، من صدره ومحفوظاته ليخبر ابنته أخبار الأمم والشعوب. ولعل سماحته كرّر هذه التوصية أكثر من مرّتين، خاصة في لقاءاته مع الشباب، ما يعني أنه يعتبر أنّ قراءة التاريخ مؤثّرة في التوجّهات، ومضيئة للمدلهمّات، ومساعدة على فهم واقعنا اليوم.

ثمّ يوصي بقراءة التاريخ الشفوي، أي تلك المسجّلة من ذاكرة من عاشوه، كتلك المنبثقة عن سنين الحرب المفروضة، التي أرّخت الحرب أو حفظت سيرة شهدائها. ربما كتاب «تراب كوشك الناعم»، الذي يحكي سيرة الشهيد القائد عبد الحسين برونسي، هو المفضّل لديه، لكن هناك الكثير الكثير من تلك الكتب امتدحها ووجّه إليها. وأصبح جزء كبير منها اليوم منشورًا باللغة العربية في سلسلة «سادة القافلة» التي ينشرها مركز المعارف للترجمة. وقد وُضع في مقدمة أغلب كتب السلسة تقريظ للقائد حفظه الله عنها.

أما الشق الأخير الذي يهتم بمطالعته سماحة الإمام الخامنئي حفظه الله فهو الكتب المتعلّقة بالعلوم السياسية، ومواكبته الدقيقة لهذا الحقل بشكل دوريّ. ولعلّ ذكر هذه القصة يعين على فهم هذه المتابعة: فقد نُشر مؤخرًا أنّ قصة حصلت بين الإمام الخامنئي وأحد الباحثين في التاريخ وهو الدكتور موسى نجفي، حيث اجتمع الأخير بالقائد في لقاء غير رسمي مع ثلّة من الباحثين، وتطرّق سماحة القائد في ذلك اللقاء إلى كتاب «سلام ما بعده سلام» للكاتب ديفيد فرومكن، وهو كتاب يحكي قصة ولادة منطقة غرب آسيا بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، حيث كشف كاتبه عن وثائق سرّية توضّح المكر البريطاني ومسعاه للنيل من ثروات المنطقة، ويقع في نحو 600 صفحة، فيفاجأ الحضور باسم الكتاب، حيث لم يتسنّ لهم مطالعته، فيوصيهم القائد به ويرشدهم إليه. يقول د. موسى أنّه تبيّن لديه بعد البحث أنّ الكتاب تُرجم حديثًا، وبتعبيره “كأنه خرج للتوّ من الفرن”، ما أثار استغرابه من سرعة مواكبة القائد لكل جديد في هذا الحقل التخصّصي.

إذًا، بالإضافة إلى كونه عالم دين كبيرًا ومرجعية لجزء كبير من شيعة اليوم، وقائد لدولة مترامية الأطراف. هو أيضًا عالم وأديب، وشخصيّة قديرة في العالمين النظري والعملي، قد واءم بين العلم والعمل، فهو المتحضّر المثقّف، وصاحب المعتقدات التي لا تتيح له -مع سعة اطّلاعه ومعرفته وانفتاحه الفكري الذي أتاح له معرفة ما يدور أو دار في القارات الأخرى- أن يقف على الحياد في عالمٍ يدور فيه صراع القيم مع الرذائل، فاتجاهه واضح وشفّاف كما يصفه د. غلام علي حدّاد عادل، الخبير والمقرّب منه.

وربما لا نجد مثله -صاحب مدرسة- في سعة الأفق، كونه صاحب رأي ونقد في آن، ملحوظ عنده ثبات المبادئ وبُعد النظر، ومفقود لديه التعصّب أو إقصاء الغير.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.