تكشف بعض الأحداث كم تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في عصر البيانات الضخمة أكثر مما يكشفه الردّ الذي تلقاه وانغ جيان عندما عرض في ذروة الوباء إنشاء مختبرات لكوفيد-19 في الولايات المتحدة. وانغ معروفٌ في عالم التكنولوجيا الحيوية الأمريكية، حيث نشأ كباحث في علم الوراثة في جامعات الأبحاث العامة الكبرى في تكساس وأيوا وواشنطن، وهو الآن رئيس مجلس الإدارة بمعهد بكين للجينوم في شنجن، وهي أكبر شركة للتكنولوجيا الحيوية في العالم تتعاون منذ عقود مع بعض علماء الوراثة الرائدين في الولايات المتحدة.
ساهم معهد بكين للجينوم في الجهد العالمي لتحديد تسلسل أول جينوم بشري، وعقد شراكة مع مستشفى الأطفال في فيلادلفيا لتحديد الجينات المرتبطة بأمراض الأطفال، كما قام بتسمية معهد في الصين على اسم جورج تشرتش من جامعة هارفارد، وهو رائد في مجال تعديل الجينات ومازال يعمل مع الشركة.
لكن العرض الذي قدمه وانغ يتعارض مع تعليمات المركز الوطني لمكافحة التجسس والأمن، الذي أصدر تحذيرا صارخا مفاده أنه “يمكن للقوى الأجنبية جمع وتخزين واستغلال المعلومات البيومترية من اختبارات كوفيد-19”. في وقت لاحق لبرنامج “60 دقيقة”، صرح بيل إيفانينا، كبير مسؤولي مكافحة التجسس الأمريكي في إدارة ترامب، بأن هذه المختبرات بمثابة “أحصنة طروادة الحديثة”، في محاولة من قبل الحكومة الصينية لإنشاء “موطئ قدم” لجلب المعدات وجمع الحمض النووي والشروع في “استخراج بياناتك”. لذلك، لم يقبل أي شخص في الولايات المتحدة عرض معهد بكين للجينوم.
تسلط شكوك إيفانينا الضوء على التوتر المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، الذي من المتوقع أن يحظى باهتمام كبير في واشنطن هذا الخريف. واليوم، أصبح بروز البيانات الضخمة، التي تمثّل الناتج الرقمي الهائل للحياة اليومية بما في ذلك البيانات التي تجمعها غوغل وفيسبوك من مستخدميها وتحويلها إلى دولارات للإعلان، مسألة تتعلق بالأمن القومي وفقا لبعض صانعي السياسات.
لا ينبع الخوف من حقيقة أن الصين تجمع البيانات حول الولايات المتحدة ومواطنيها من إمكانية سرقة أسرار الشركات الأمريكية أو للتأثير على المواطنين فحسب، بل أيضا لبناء أساس الهيمنة التكنولوجية في المستقبل غير البعيد، خاصّة أن البيانات جنبًا إلى جنب مع انتشار الذكاء الاصطناعي قد اكتسبت أهمية استراتيجية.
في الأشهر الأخيرة، حذّر بعض خبراء الأمن القومي الأكثر تشددا في واشنطن العاصمة من أن الحزب الشيوعي الصيني يتحرك بقوة للسيطرة على جميع البيانات التي تتنقّل عبر البلاد، إلى جانب البيانات التي تنشأ أيضًا من الشركات الأمريكية وغيرها من الشركات الغربية التي تعمل في الصين. قد يمثل ذلك تصعيدًا لحملة بكين الراسخة للتجسس على الشركات من خلال القرصنة وتصدير التقنيات صينية الصنع، التي يُزعم أنها وسيلة خفيّة لتمكين الجواسيس الصينيين من الوصول إلى البيانات الأجنبية متى شاءوا.
يدعو صقور إدارة بايدن الرئيس إلى إطلاق مراجعة واسعة لشركات الإنترنت والاتصالات والتكنولوجيا الصينية العاملة في الولايات المتحدة، وتقييد أنشطة الأطراف التي تشكّل تهديدا للأمن القومي والاقتصادي، والحد من قدرتها على الوصول إلى البيانات الأمريكية. ويقول الصقور إن التهاون في مواجهة هذا التهديد يمكن أن يضر بالمصالح الاقتصادية والعسكرية والتجارية للولايات المتحدة ويترك المواطنين عرضة للتجسس والتلاعب.
يبدو أن هذا الضغط يؤتي ثماره، إذ أنه من المتوقع عقد جولة جديدة من جلسات الاستماع في الكونغرس حول هذه المسألة في الخريف. وذكرت وكالة رويترز في أيار/ مايو أن إدارة بايدن كانت تضع التعديلات الأخيرة على أمر تنفيذي من شأنه أن يمنح وزارة العدل صلاحيات جديدة لمنع الخصوم الأجانب، مثل الصين، من الوصول إلى البيانات الشخصية للأمريكيين.
وقد صرّح مسؤولو وزارة التجارة لمجلة نيوزويك بأنهم أطلقوا خلال الأشهر الأخيرة ما لا يقل عن أربعة تحقيقات نشطة عن شركات التكنولوجيا التي لها علاقات مع الصين أو خصوم أجانب آخرين، وهم يخططون لإجراء تحقيق بعيد المدى. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن قد رفضت التعليق، إلا أن الحجج وراء ذلك معروفة في دوائر السياسة في واشنطن، وقد أصبحت هذه القضية مصدر قلق متزايد من الحزبين.
قال إيفانينا للجنة مجلس الشيوخ المختارة للاستخبارات في آب /أغسطس 2021: “يُقدر أن جميع البيانات الشخصية لـ 80 بالمئة من البالغين الأمريكيين قد سُرقت من قبل الحزب الشيوعي الصيني، وبالنسبة للـ 20 بالمئة المتبقيّة فقد سُرقت أغلب بياناتهم الشخصية فقط. لم يسبق لنا أن شهدنا من قبل أي شيء يشبه قدرة الصين على الحصول بشكل كلي على ملكيتنا الفكرية وأسرارنا التجارية من خلال أساليب هجينة غير قانونية وقانونية معقدة. وبالتالي، إن تفوقنا الاقتصادي العالمي واستقرارنا وحيويتنا على المدى الطويل ليست فقط في خطر، بل موجودة في مرمى نيران شي جين بينغ والنظام الشيوعي”.
يقول ماثيو بوتينجر، نائب مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، وديفيد فيث، نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ، إن التهديد يتجاوز الأسرار التجارية. وكتبا في مقال رأي في نيويورك تايمز الخريف الماضي أن “البيانات هي نفط القرن الحادي والعشرين، والمورد الذي لا غنى عنه الذي سيغذي خوارزميات الذكاء الاصطناعي والقوة الاقتصادية والقوة الوطنية”.
في المقابل، لا يحظى هذا الرأي بالإجماع بأي حال من الأحوال في دوائر الأمن القومي. ويقول بعض خبراء السياسة إن المخاوف الواسعة من الهيمنة التكنولوجية قد تكون مبالغا فيها، ويمكن للتدابير القاسية ضد الصين أن تنفر الحلفاء وتؤدي إلى سلسلة من الإجراءات القاسية المماثلة التي تتخذها المقاطعات في الخارج تجاه شركات التكنولوجيا الأمريكية.
على أي حال، تجد الولايات المتحدة نفسها في وضع ضعيف للغاية لقيادة حملة أخلاقية من أجل حرمة البيانات. وقد تم اختراع مفهوم جمع النقرات والنصوص وعناوين الإنترنت وغيرها من البيانات من المواطنين المطمئنين واستغلالهم لأغراض تجارية وأخرى تتعلق بالأمن القومي في قاعات وكالة الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية والشركات التكنولوجية الناشئة في وادي السيليكون.
يقود فيسبوك (الآن ميتا) وغوغل وأمازون ومايكروسوفت وآبل صناعة واسعة تعتمد على التجارة وتجميع بيانات المستخدم، ومن شأن اتخاذ تدابير لحماية بيانات المواطنين الأمريكيين من ويلات وادي السيليكون قطع شوط طويل في حمايتهم من الصين أيضًا. ومن المحتمل أن أي تدابير موجهة فقط ضد الصين لن تكون فعالة لأن مجموعات ضخمة من بيانات المستهلك ستظل متاحة للشراء في أسواق البيانات الثانوية.
في الوقت نفسه، قد يؤدي رد الفعل المبالغ فيه من جانب الولايات المتحدة إلى تسريع التوجه نحو نوع من البلقنة الرقمية، حيث تقيم الدول حواجزها الخاصة أمام تدفق البيانات. ويقول نايجل كوري، المدير المساعد لسياسة التجارة في مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار: “أيا كان ما تفعله الولايات المتحدة، فإنه سيرسل إشارة إلى البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم حول كيفية تحديد وتطبيق الأمن القومي في عالم رقمي. إنني قلق بشأن رد الفعل المبالغ فيه الذي يقوض بشكل أساسي انفتاح الإنترنت، والذي أفاد الاقتصاد الأمريكي وقطاع التكنولوجيا بشكل واضح”.
تمثّل طريقة رد الولايات المتحدة على الحبكة الاستبدادية الصينية فيما يتعلّق بالبيانات الضخمة في الأشهر المقبلة أحد أصعب قضايا السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى المدى الطويل، قد يتضح أنها من القرارات الأكثر أهمية.
انتقال الإنترنت
عندما ظهرت الإنترنت لأول مرة في التسعينيات، كان من المفترض أن تكون نعمة للديمقراطية لكن قلة من الناس كانوا يعتقدون أن الدول الاستبدادية مثل روسيا والصين ستكون قادرة على وقف تدفق المعلومات الرقمية. قال بيل كلينتون، الرئيس آنذاك، في آذار / مارس سنة 2000 في جامعة جونز هوبكنز: “نحن نعلم حجم التغيير الذي أحدثته الإنترنت في أمريكا، فتخيل إلى أي مدى يمكن أن تغير الصين”. لقد كانت محاولة اتخاذ إجراءات صارمة ضد الإنترنت “أشبه بمحاولة مستحيلة”.
كان ذلك سوء تقدير، ففي أواخر التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، بدأت الصين في بناء “جدار الحماية العظيم”، وهو نظام للمراقبة التكنولوجية والتحكم في المعلومات. وكانت الصين رائدة في مشروع “الدرع الذهبي”، وهو برنامج مكّن الحكومة من فحص البيانات التي يتم استلامها أو إرسالها داخل حدودها وحجب عناوين بروتوكول الإنترنت وأسماء المجال. وفي سنة 2004، أصدر الحزب الشيوعي إرشادات جديدة بشأن الرقابة على الإنترنت تدعو الجامعات الصينية إلى تجنيد معلقين على الإنترنت يمكنهم توجيه المناقشات في اتجاهات “مقبولة سياسيا” والإبلاغ عن التعليقات التي لا تتبع القانون الصيني إلى السلطات، وذلك وفقا لكتاب الثورة الثالثة: شي جين بينغ والدولة الصينية الجديدة، بقلم إليزابيث سي إيكونومي.
دخلت الصين أيضًا في حقبة جديدة من التجسس الاقتصادي، حيث اخترق المتسللون الصينيون خوادم الشركات الأمريكية وسرقوا الملكية الفكرية التي تقدر قيمتها – حسب بعض التقديرات – بما يتراوح بين 200 مليار و600 مليار دولار سنويًا، ما بين 2008 و2013. أما أكثر العمليات شهرة، فكانت قيامهم باختراق خوادم لشركة “لوكهيد مارتن” وسرقة مخططات لطائرة لوكهيد “إف-35” التي تبلغ تكلفتها 400 مليار دولار، وهي الطائرة الأكثر تطوراً والأكثر تكلفة التي تم إنتاجها على الإطلاق؛ لتحمل الطائرة المقاتلة الصينية الشبح “جي-31″، التي تم تقديمها بعد بضع سنوات، تشابهًا صارخًا مع “إف-35”.
ارتقى شي جين بينغ – الذي تولى الرئاسة في 2013 – بالسيطرة الرقمية على المجتمع الصيني إلى مستوى جديد. فقد ضخ ملايين الدولارات في ترقيات تكنولوجية لمتابعة المحتوى وفرض الرقابة، وأصدر قوانين جديدة تسهل تقييد المحتوى، كما أطلق حملة شرسة لمعاقبة أي شخص ينتهك القيود الجديدة. وقال في ذلك الوقت: “لقد أصبح الإنترنت ساحة المعركة الرئيسية لصراع الرأي العام”.
في عهد شي، أظهرت الصين أيضًا كيف يمكن تسخير هذه التقنيات الجديدة لإنشاء نوع جديد من دولة المراقبة الأورويلية، مما يمكّن السلطات من جمع كمية هائلة من البيانات حول مواطنيها وخاصة أولئك المقيمين في دول الأخرى، وتجربة طرق مختلفة استخدمت لممارسة الرقابة الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تشتمل مبادرة “المدن الذكية” في الصين على نظام مراقبة شامل يسمى “سكاي نت” (شبكة السماء)، يستخدم تقنيات التعرف على الأنماط للكشف عن الأفراد وتتبعهم من خلال التعرف على الوجه وتحليل المشي وغير ذلك من الخصائص الشخصية الفريدة. وفي بعض المدن، يتم استخدام “سكاي نت” لتقييم الامتثال لسياسات الدولة، مثل الحظر المفروض على المشي لمسافات طويلة.
وعلى هذا النحو، حددت خطة التنمية الاقتصادية التي أعدها شي في الصين لسنة 2025 أسس السيطرة على البيانات كمفتاح لطموحات الأمة. وقال حيال ذلك لأكاديمية العلوم الصينية في الأشهر الأولى من ولايته: “كل من يتحكم في تقنيات البيانات الضخمة سوف يتحكم في موارد التنمية وتكون له اليد العليا”.
بعد ذلك الخطاب بوقت قصير، بدأ المتسللون الصينيون في توسيع جهودهم من سرقة التقنيات الصناعية والدفاعية القيّمة نحو جمع البيانات الشخصية الحساسة من الخارج. وفي سنة 2015، اخترق المتسللون الذين ارتبطوا لاحقًا بجيش التحرير الشعبي خوادم سلسلة فنادق ماريوت وسرقوا معلومات جوازات سفر وبيانات بطاقات ائتمان، وغيرها من التفاصيل الشخصية لنحو 500 مليون نزيل. كما اخترقوا مؤسسة “أنثيم” للرعاية الصحية في الولايات المتحدة وسرقوا المعلومات الشخصية لـ 78 مليون أمريكي.
كما اقتحم المتسللون مكتب إدارة شؤون الموظفين بالولايات المتحدة وسرقوا ملفات ما يقارب مليوني موظف فيدرالي سابق أو متقاعد وأكثر من مليوني موظف حالي. وقد تضمنت هذه الملفات معلومات عن جميع التحقيقات التي أجريت في الخفاء مع أمريكيين متابعين في ملفات أمنية بالغة السرية. ووصف مايكل بيكلي، الباحث في جامعة “تافتس” في الصين، هذه المجموعة بأنها “أخطر أسرار أعمال الحكومة الأمريكية، بما في ذلك عملاء وكالة المخابرات المركزية”، وقد تضمنت تفاصيل عن تعاطي المخدرات وعن الديون والسفر إلى الخارج وقائمة بجميع الأقارب والأصدقاء الأجانب في الدول الأخرى.
وفي سنة 2017، اخترق قراصنة صينيون “إكويفاكس”، وهي وكالة أمريكية تقدم تقارير عن الائتمان، وسرقوا معلومات شخصية حساسة مثل الأسماء وتواريخ الميلاد وأرقام الضمان الاجتماعي لما يقارب 148 مليون مواطن أمريكي، أي جميع البالغين الأمريكيين تقريبًا. وكانت واحدة من أكبر السرقات لمعلومات التعريف الشخصية المسجلة التي ترعاها الدولة.
ولا تزال الجهود متواصلة لتسريب وتخزين البيانات الشخصية للمستهلكين الأمريكيين. في السنة الماضية، استعرضت صحيفة “واشنطن بوست” وثائق العطاءات والعقود الخاصة بـ 300 مشروع حكومي صيني صادرة عن وكالات تتراوح بين الشرطة والجيش والدعاية ووسائل الإعلام الحكومية في بداية سنة 2020. وقد تضمنت الملفات أوامر لبرمجيات مصممة لجمع بيانات عن أهداف أجنبية من مصادر مثل “تويتر” و”فيسبوك” وشركات التواصل الاجتماعي الغربية الأخرى.
في الوقت نفسه، ضغطت الصين بقوة لمساعدة “هواوي” وشركات الاتصالات الأخرى على الفوز في معركة بناء البنية التحتية لأنظمة “الجيل الخامس” حول العالم، وهي التكنولوجيا التي حذر مسؤولو إنفاذ القانون والمخابرات الأمريكية من أنها ستسمح للصين باختراق الأنظمة وسرقة البيانات. وعلى مر السنين، قدمت بكين ما يصل إلى 75 مليار دولار في شكل منح وتسهيلات ائتمانية وإعفاءات ضريبية وأشكال أخرى من المساعدة المالية لشركة “هواوي للتكنولوجيات”، وذلك وفقًا لإحصاء وول ستريت جورنال، مما سمح للشركة بتخفيض الأسعار بنسبة 30 بالمئة عن المنافسين والتحول من بائع غير معروف لبرامج الهاتف إلى أكبر شركة لمعدات الاتصالات في العالم. كما عملت على تعبئة لوحات المعايير الدولية بزبائن متعاطفين مع التقنيات صينية الصنع الموجهة للبنية التحتية المستقبلية للإنترنت.
التعطش للبيانات
أدى التقدم في الذكاء الاصطناعي إلى زيادة المخاطر في المعركة على البيانات. لسبب واحد ألا وهو أنه يُعتقد أن الذكاء الاصطناعي هو تقنية أساسية للقدرة التنافسية الوطنية مع تداعيات واسعة على الأمن القومي. ويمكن للذكاء الاصطناعي أن يجعل الأسلحة الموجودة أكثر فاعلية، مثل إعطاء الصواريخ الموجهة أو الطائرات بدون طيار المزيد من الذكاء في ملاحقة أهداف بعيدة المنال وفتح طرق جديدة لتنفيذ الهجمات الإلكترونية. إنه يجعل من الممكن لقوة عسكرية أن تهاجم بفعالية بطرق جديدة، مثل التلاعب بالرأي العام من أجل تقويض مؤسساتها الديمقراطية. ويحذر بعض الخبراء من أن الذكاء الإصطناعي – عند تطبيقه على بيانات المواطنين الأمريكيين – قد يجد أيضًا أشخاصًا في ضائقة مالية وفي وظائف حساسة قد تجعلهم صيدًا ثمينًا لتجنيدهم في التجسس.
لم تُخفِ الصين هدفها المتمثل في أن تصبح مركز الابتكار الرئيسي للذكاء الاصطناعي في العالم، وأعلنت عنه في وثيقة أساسية نشرها مجلس الدولة في سنة 2017. وقد ضخت المليارات في تكنولوجيا المعلومات بهدف بناء صناعة بقيمة 150 مليار دولار بحلول سنة 2030. لكن الذكاء الاصطناعي يكون جيدًّا بقدر جودة البيانات التي يجب أن تعمل معها. فعلى سبيل المثال، يتعلم الذكاء الآلي، وهو شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي، من التجربة ويجب تدريبه على مجموعات من البيانات لانتقاء الأنماط التي تسمح بتوليد تنبؤات دقيقة.
يتضح إدراك الصين للأهمية الاستراتيجية للبيانات في الطريقة التي شددت بها على الشركات الغربية. في سنة 2019، أعلنت لجنة متابعة السلع أن البيانات “مورد وطني” بنفس القدر من الأهمية مثل الأرض والعمالة ورأس المال والتكنولوجيا بالنسبة للنمو الاقتصادي.
وعلى هذا الأساس، شرعت السلطات الصينية الخريف الماضي في تنفيذ سلسلة من القوانين واللوائح التي تقنن قدرة الحكومة على التحكم في تدفق جميع المعلومات الصادرة داخل حدودها وتقييد تدفق البيانات عبر الحدود ومنح الحكومة حق الوصول إلى جميع البيانات ومراجعتها، وتم جمع هذه البيانات داخل حدود الدولة، حول الشركات المحلية والأجنبية. وهكذا، تستطيع بكين منع الشركات الأجنبية من نقل “بيانات الدولة الأساسية” إلى الخارج، حتى إلى مقرات الشركات الخاصة بها. وتجدر الإشارة إلى أن بيانات الحالة الأساسية هي أي شيء يتضمن الأمن القومي أو الاقتصاد الوطني أو يكون ضروريًا لمناطق وصناعات محددة.
رداً على ذلك، وافقت كل من “تسلا” و”آبل” مؤخرًا على بناء مراكز بيانات جديدة في الصين لإيواء المعلومات التي يتم تجميعها هناك. ووفقًا لتحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن شركة “آبل” قد تنازلت إلى حد كبير عن السيطرة على البيانات في اثنين على الأقل من مراكزها الجديدة للحكومة الصينية، وتخلت عن تقنيات التشفير الخاصة بها، وسمحت لموظفي الدولة بإدارة أجهزة الحاسوب الخاصة بها فعليًا.
في المقابل، اختارت شركات التكنولوجيا الأخرى إغلاق متاجرها والعودة إلى بلدانها. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2021، أعلنت “مايكروسوفت” عن خطط لإغلاق نسختها الصينية من “لينكدإن” بسبب بيئة تشغيل تشكل تحديًا كبيرًا وتقتضي متطلبات امتثال أكبر في الصين.
في واشنطن، كان السؤال عن كيفية استجابة إدارة بايدن للقيود الجديدة موضوع ضغط قوي من قبل الصقور الصينيين ومجموعات الصناعة وخبراء سياسة البيانات والفصائل المنافسة الأخرى. كما أصبحت قضية مثيرة للقلق بشكل متزايد في مبنى الكابيتول، مع توقع جلسات استماع جديدة في الخريف.
حتى الآن، حافظ الرئيس بايدن – ولو على الورق – على الموقف المتشدد لسابقه. ففي حزيران/يونيو 2021، وقّع أمرًا تنفيذيًا يعيد التأكيد على أجزاء من القانون التنظيمي الجديد الذي تم وضعه في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب، يمنح سلطة واسعة لوزير التجارة لتقييم المخاطر التي تشكلها شركات الإنترنت والاتصالات والتكنولوجيا العاملة في الولايات المتحدة من الدول التي تعتبر “خصومًا خارجية” واتخاذ إجراءات وقائية. يسمح هذا الأمر لوزارة التجارة بحظر أو تقييد المعاملات الجديدة بين الشركات الأمريكية والأجنبية، والحد من أنشطة شركات الإنترنت والاتصالات الأجنبية العاملة في الولايات المتحدة.
كما يسمح الأمر التنفيذي لوزارة التجارة بالتصرف بصورة رجعية. هذا ما حاول الرئيس ترامب فعله بمنصة التواصل الاجتماعي تيكتوك، التي قال إنها تجمع وتخزن بيانات المستخدمين الأمريكيين. أمر ترامب شركة “بايت دانس” الصينية بالتخلي عن ملكيتها وهدد بإغلاق أعمالها في أمريكا إذا لم تمتثل. تم الطعن في الأمر بنجاح في المحكمة – في كانون الأول/ ديسمبر 2020، عندما حكم قاض عيّنه ترامب بأن الرئيس تجاوز سلطته وفشل “في النظر بشكل كافٍ في بديل واضح ومعقول”، وأن الحظر “هو قرار تعسفي واعتباطي”.
تجنب بايدن الجدل الدائر حول تيكتوك من خلال إلغاء الحظر الذي فرضه ترامب بواسطة أمر رئاسي تنفيذي، لكن من الناحية النظرية يبدو أنه مستعد لملاحقة الشركات الأخرى. في آذار/ مارس، أسست الإدارة مجموعة جديدة من وزارة التجارة للتركيز على مخاطر البيانات التي تشكلها الشركات من الدول التي تُعتبر خصومًا أجانب. وفي أحدث طلب للميزانية، طلب بايدن 36 مليون دولار لتمويل المسعى الجديد ومن المتوقع أن يوافق الكونغرس عليه.
ذكرت رويترز نقلاً عن ثلاثة مصادر مجهولة في كانون الثاني/ يناير أن إدارة بايدن كانت تستعرض الأعمال السحابية لعملاق التجارة الإلكترونية علي بابا، رابع أكبر مزود سحابي في العالم، مركزة على كيفية قيام الشركة بتخزين بيانات العملاء الأمريكيين، بما في ذلك المعلومات الشخصية والملكية الفكرية وما إذا كان يمكن للحكومة الصينية الوصول إليها. وكان بإمكان الإدارة إجبار الشركة على منع نقل البيانات خارج الولايات المتحدة أو حظر الأمريكيين من استخدام الخدمة، لكن لم يتبع مثل هذا الإجراء.
وامتنع مسؤولو التجارة عن التعليق على ما يفعله موقع علي بابا قائلين إنهم لا يستطيعون مناقشة الحالات الفردية، لكنهم أخبروا مجلة نيوزويك بأنهم فتحوا مؤخرًا أربعة تحقيقات على الأقل حول شركات الإنترنت والاتصالات الخاصة بـ “خصوم أجانب”. ومن بين جميع الدول المدرجة في تلك القائمة – التي تشمل أيضًا كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا وكوبا وروسيا – تتمتع الصين إلى حد بعيد بأكبر حضور تقني هائل في الولايات المتحدة. وفي غضون ذلك، تخطط الوزارة لإطلاق عمليات مراجعة أكثر شمولاً بمجرد موافقة الكونغرس على ميزانيتها الجديدة.
وفقًا لرواية رويترز المنشورة في تموز/ يوليو، التي استندت إلى مصادر تفصح عنها، فإن البيت الأبيض يدرس أيضًا منح المدعي العام الأمريكي ميريك جارلاند سلطة مراجعة ومنع المعاملات التجارية التي تنطوي على بيع البيانات أو الوصول إليها إذا كانت تشكل خطرًا غير مبرر على الأمن القومي. كما سيوعز البيت الأبيض وزارة الصحة والخدمات الإنسانية ضمان أن المساعدة الفيدرالية، مثل المنح المالية والجوائز، لا تدعم نقل البيانات الصحية أو البيولوجية أو المتعلقة بصحة الأشخاص الأمريكيين … وكل الهيئات المملوكة من قبل أو يسيطر عليها أو تخضع لولاية أو توجيهات من خصوم أجانب”، وذلك وفقًا لمقتطف من مسودة أمر تنفيذي يجري توزيعه كما قالت رويترز.
الإنفاذ المفرط للقوانين
ما هي البيانات التي تشكل خطرًا على الأمن القومي للولايات المتحدة؟ وكيف سيتم تقييم هذا الخطر؟ لا تزال هذه الأسئلة مفتوحة. قد تكون المخاطر التي يشير إليها بوتينجر وغيره من الصقور الصينية حقيقية، لكن الإنفاذ المفرط للقاعدة الجديدة قد يكون له أيضًا عواقب غير متعمدة تضر بالمصالح الأمريكية.
في الواقع، مع ارتفاع الخطاب المناهض للصين في الولايات المتحدة إلى حد شبه هستيري، يشير الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية ومنظمات أخرى إلى بوادر مبكرة على تجاوزات تطال الحكومة. في كانون الثاني / يناير الماضي، رفضت محكمة فيدرالية في بوسطن التهم الموجهة إلى الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا جانج تشين، وهو مهندس صيني أمريكي في مجال تكنولوجيا النانو متهم بالفشل في الإفصاح عن العلاقات البحثية مع الصين. يمكن أن تتسبب الملاحقة القضائية الصارمة للعلماء الصينيين الأمريكيين العاملين في المؤسسات الأمريكية في حدوث هجرة عكسية للأدمغة في مجالات تشمل أبحاث السرطان وأشباه الموصلات.
تقول أبيغيل كوبلين، الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع والعلوم والتكنولوجيا والمجتمع في كلية فاسار، التي تبحث في تطوير التكنولوجيا الحيوية في الصين: “ينظر صانعو السياسة بشكل متزايد إلى العلم – وإلى التكنولوجيا الحيوية على وجه الخصوص – من منظور الأمن القومي؛ يبدو أن لا أحد يفكر في ما تم فقدانه نتيجة لذلك”. في حالة التكنولوجيا الحيوية، فإن ما تسميه كوبلين “الإفراط في اتباع الاجراءات الأمنية” يشكل مخاطر حقيقية للمرضى الأمريكيين والقدرة التنافسية الأمريكية والتقدم العالمي للعلم من خلال عرقلة التعاون وتبادل المعرفة التي يمكن أن تؤدي إلى اكتشاف وتطوير علاجات وأدوية جديدة للأمراض.
وبينما ركزت الروايات الإعلامية، التي تناولت عمليات جمع البيانات التي تقوم بها الصين إلى حد كبير، على تهديد خصوصية الأمريكيين، ينظر الكثيرون في الخارج إلى الولايات المتحدة باعتبارها التهديد الأساسي. ولم ينس العديد من الأوروبيين المبلّغ الأمريكي إدوارد سنودن والملايين من وثائق وكالة الأمن القومي الأمريكية التي توضح بالتفصيل تقنيات جمع المعلومات الاستخباراتية الأمريكية التي كشف عنها سنة 2013. وأشارت الوثائق إلى أن الولايات المتحدة تقوم بـ “بشفط” بيانات قادة العالم والمواطنين العاديين على حدٍ سواء، وتخزن سراً ملايين رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية وبيانات موقع الهاتف المحمول من جميع أنحاء العالم حتى يمكن استخراجها لاحقاً لأغراض استخبارية – من بينها الرسائل النصية الشخصية لملايين المواطنين الصينيين.
يقول سام ساكس، وهو أحد كبار الباحثين في مركز بول تساي الصيني في كلية الحقوق بجامعة ييل والمشرف على الجغرافيا السياسية لخصوصية البيانات وتدفقات البيانات عبر الحدود ويقوم بتقديم الاستشارات للشركات الأمريكية العاملة في الخارج: “في بعض الأحيان نفكر فقط في هذا الأمر في إطار الولايات المتحدة بالمقارنة مع الصين وننسى أنه في أماكن مثل أوروبا والهند، هناك بالفعل قلق متزايد بشأن عمليات المراقبة التي تقوم بها الولايات المتحدة وكيفية استغلال الشركات الأمريكية لبيانات المواطنين”.
ينظر العديد من خبراء خصوصية البيانات في الخارج إلى التحذيرات الصادرة عن الولايات المتحدة بشأن تهديد هيمنة البيانات الصينية بشكوك عميقة. وقال عمالقة التكنولوجيا الأمريكيون، مثل إريك شميدت المدير التنفيذي السابق لغوغل، وشيريل ساندرز المديرة التنفيذية السابقة لفيسبوك، إن تهديد الصين المسيطرة يجعل من غير الحكمة تفكيك شركاتها أو تنظيم عملياتها المتهورة في جمع البيانات. كما صرح مارك زوكربيرغ علنًا بأنه ينظر إلى تيكتوك كمنافس رئيسي وتهديد لمكانة فيسبوك في السوق.
وفي الأشهر التي سبقت الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس ترامب في آب/ أغسطس 2020 القاضي بفرض إجراءات صارمة على تيكتوك، التقى زوكربيرغ بأعضاء في الكونغرس وإدارة ترامب في اجتماع مغلق وطُرحت مخاوف بشأن مالكي الشركة الصينيين والتهديدات التي يشكلونها على الأمن الأمريكي. وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أنه خلال هذه الفترة، أنفقت الشركة على عمليات كسب التأييد أكثر من أي شركة أخرى.
يمكن أن يؤدي الإنفاذ المفرط لقوانين البيانات ضد الشركات الصينية إلى عواقب غير متعمدة – ليس فقط إجبار الدول الأخرى على اختيار طرف، وإنما أيضًا التسبب بسابقة ينجم عنها متاعب. يمكن للدول في جميع أنحاء العالم التي تشعر بقلق مماثل بشأن بياناتها أن تستخدم إجراءات صارمة ضد الشركات الأمريكية.
إن قاعدة مثل تلك التي تنفذها وزارة التجارة كمال يقول ساكس: “تخلق خارطة طريق أو مخططا من شأنه أن يجعل من الأسهل بكثير تحويل هذه الأدوات ضد الشركات الأمريكية في أجزاء أخرى من العالم بطرق يمكن في الواقع، وللمفارقة، أن تصب في مصلحة الشركات الصينية في أسواق بلدان العالم الثالث”.
تحقيق التوازن
إن جهود الصين العدوانية لعزل بياناتها الخاصة والتحكم فيها – وقدرتها على الوصول بسهولة إلى بياناتنا – تسلط الضوء على حقيقة مثيرة للقلق غالبًا ما تكون مفقودة من النقاش حول أهداف الصين. وفي حين بدأت الدول في جميع أنحاء العالم في التعامل بصعوبة مع قوانين خصوصية البيانات، فإن الحقد بين الأحزاب وممارسة الضغوط العدوانية من قبل شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى قد شل الجهود في الكونغرس الأمريكي في سن حتى قوانين لحماية بيانات المستهلك الأساسية. يمكن أن تشكل حماية المستهلك أساسًا لإطار عمل جديد يمكن تكييفه لاحقًا لحماية البيانات الأمريكية من الاستغلال الصيني.
وما يمكّن الصين أيضًا من جمع البيانات الأمريكية وتخزينها هو نفس التدفق الفوضوي وغير المنظم للبيانات الأمريكية التي استغلتها شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة مثل فيسبوك وغوغل وأمازون لتنمو إلى غوريلا تزن ألف رطل.
وعلى الرغم من أن لجنة الاستثمار الأجنبي التابعة لوزارة التجارة تقوم بمراجعة عمليات الاستحواذ والاستثمارات التي تقوم بها الشركات الأجنبية لتقييم مخاطر الأمن القومي، على عكس الصين والاتحاد الأوروبي، لا يوجد لدى الولايات المتحدة حاليًا سياسة من أعلى إلى أسفل تصنف بيانات المستهلك الخاص على أنها حساسة وتحميها، على الرغم من أن مثل هذه التدابير تحظى بدعم شعبي واسع. بدلاً من ذلك، هناك خليط من السياسات والمعايير واللوائح الخاصة بقطاع معين منتشرة عبر العشرات والعشرات من الوكالات المختلفة، التي تحاول تقييد تداول بعض البيانات. فعلى سبيل المثال، توفر لوائح الرعاية الصحية الحماية للبيانات السرية كما يقول ساكس.
إن نهج الولايات المتحدة المختلط لتنظيم البيانات يترك الأمريكيين عرضة للاستغلال إلى حد كبير – من قبل الصين وشركات التواصل الاجتماعي الأمريكية، وأي شخص لديه اتصال بالإنترنت على حد سواء. وفي تقرير صدر في وقت سابق من هذه السنة، أجرى جاستن شيرمان، زميل سياسة الأمن السيبراني في منظمة “نيو أمريكا”، مسحًا لعشرة من أكبر وسطاء البيانات ووجد أنهم يعلنون صراحةً وعلانية عن بيع بيانات حساسة لملايين الأفراد الأمريكيين، بدءا من المعلومات الديموغرافية وصولا إلى الأنشطة الشخصية والتفضيلات الحياتية، مثل الآراء السياسية وعادات السفر وبيانات الرعاية الصحية وأسماء أفراد الأسرة والأقارب وحتى مواقع “جي بي إس” في الوقت الفعلي لأفراد الجيش الأمريكي الحاليين والسابقين وغيرهم من موظفي الحكومة الأمريكية.
مع ذلك، يبدو أن المشرعين ينظرون إلى الحاجة إلى حماية بيانات الأمريكيين من الصين على أنها منفصلة عن الحاجة إلى حمايتها من وادي السيليكون. في المقابل، لا تقوم الدول الأخرى بهذا التمييز. فعلى سبيل المثال، يقول شيرمان إن البرلمان الهندي يناقش كيفية تنظيم تدفق البيانات ربما مع متطلبات جذرية جديدة.
في أوروبا، كان المحامون والدبلوماسيون الأمريكيون على امتداد شهور يعيدون التفاوض بشأن الاتفاقية التي تعمل كأساس قانوني لجميع تدفقات البيانات عبر المحيط الأطلسي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لضمان احترام الشركات الأمريكية لقوانين الاتحاد الأوروبي بشأن حماية خصوصية المستهلك.
بموجب اتفاقية “درع الخصوصية” التي تم التفاوض عليها في أعقاب اكتشاف إدوارد سنودن، تعهدت الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات جديدة لضمان عدم انتهاك وكالات استخباراتها لحقوق المواطنين الأوروبيين من خلال جمع معلومات خاصة بشكل غير قانوني.
لكن محكمة العدل الأوروبية ألغت هذا الاتفاق لاحقًا في سنة 2020، ووصل المفاوضون إلى طريق مسدود لعدة أشهر بسبب القضية الشائكة المتعلقة بكيفية طلب المواطنين الأوروبيين للإنصاف إذا انتهكت وكالات المخابرات الأمريكية شروط الاتفاقية. وعلى الرغم من أن الجانبين توصلا إلى اتفاق مبدئي في آذار/ مارس، إلا أن المفاوضات تعثرت بشأن الصياغة النهائية للوثيقة منذ ذلك الحين.
يعتبر السعي للحصول على بيانات شركات منصات التواصل الاجتماعي الأمريكية محور الجدل. وفي تموز/ يوليو، قدمت لجنة حماية البيانات الأيرلندية مشروع قرار إلى المنظمين الأوروبيين من شأنه منع شركة “ميتا”، الشركة الأم لفيسبوك، من إرسال بيانات المستخدم من أوروبا إلى الولايات المتحدة. ردًا على هذا الإيداع، كتب المنظمون في النرويج أنهم يدعمون فرض غرامات باهظة على شركة “ميتا” إذا استمرت في نقل البيانات إلى الخارج، وذلك حسب ما أفادت به صحيفة “بوليتيكو” في آب/ أغسطس، مستشهدة بالوثائق التي تم الحصول عليها من خلال طلبات قانون حرية المعلومات.
ونتيجة لذلك، حذرت شركة “ميتا” من أن الشركة قد تقوم بحظر استخدام الأوروبيين لمنصة “فيسبوك” و”إنستغرام” إذا فشلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق بشأن قانون “درع الخصوصية” الجديد التابع للاتحاد الأوروبي.
إذا تعطلت المفاوضات ومنع الاتحاد الأوروبي “فيسبوك” من نقل بيانات المواطنين الأوروبيين خارج الاتحاد الأوروبي، فقد تؤدي هذه السابقة إلى قلب تدفق البيانات عبر المحيط الأطلسي وربما تكلف الشركات “مليارات الدولارات”، وذلك وفقًا لبول تريولو، نائب الرئيس الأول لسياسة الصين التكنولوجية في مجموعة أولبرايت ستونبريدج، وهي شركة استراتيجية أعمال عالمية مقرها واشنطن، ومسؤول كبير سابق في الحكومة الأمريكية عمل على سياسة التكنولوجيا في الصين.
إن طريقة تعامل الولايات المتحدة مع هذا الوضع سيكون له تأثير واسع النطاق على الدول الأخرى. وفي السنوات الخمس الماضية، أقرت حوالي 62 دولة قواعد جديدة لتوطين البيانات، التي إما أن تفرض قيودًا على ما يمكن نقله خارج حدودها أو تطلب من الشركات تخزين نسخة محلية من كل ما يتم جمعه. حتى أن الولايات المتحدة تطلب من الشركات السحابية التعاقد مع وزارة الدفاع لتخزين البيانات السرية على خوادم في الولايات المتحدة.
في غضون ذلك، يقول شيرمان إن الخطاب القومي المؤيد للبيانات قد تجاوز الخطوط الحمراء. وإذا استمر التأرجح أكثر حول حماية البيانات، فسيؤدي ذلك إلى خنق الاستثمار الأجنبي والنمو الاقتصادي، ويمكن للتوترات المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة أن تغذي هذا الاتجاه.
إن مطالبة الشركات بتخزين البيانات محليًا يبني عائقًا أمام الوصول إليها، حتى بالنسبة للشركات المحلية. يقول شيرمان: “بمجرد أن أقوم بجمع البيانات عن الهنود، على سبيل المثال، يجب أن أنفق كل هذه الأموال على البنية التحتية الإضافية للبيانات وأن أهتم إلى أين تتجه البيانات. يجب أن أنفق المال على المحامين والمتخصصين في الامتثال للتأكد من أنني لا أخالف القانون. وعندما أقوم بنقل البيانات أو البريد الإلكتروني إلى شخص ما عن أحد العملاء، إذا كنت أرغب في العمل مع عميل دولي، يتعين عليّ الآن الموافقة على العملية برمتها”.
يدافع بعض الخبراء عن اتفاقيات جديدة متعددة الأطراف وإنشاء هيئة دولية مثل منظمة التجارة العالمية التي تنظم تدفق البيانات، وتعمل كمنتدى للتوصل إلى حل للاختلافات وتضمن استمرار الأعمال التجارية بكفاءة عبر الحدود. يمكن لمثل هذا الأمر أيضًا أن يساعد الشركات الغربية على التنافس مع الصين في حال قامت حكومتها بحجب بياناتها عن بقية العالم.
حيال هذا الأمر، يقول ماثيو سلوتر، خبير اقتصادي وعميد من كلية دارتموث تاك لإدارة الأعمال: “ليس لدينا أي شيء من هذا القبيل في الوقت الحالي”. من المرجح أن تدعم العديد من الدول مثل هذا الإطار، على الأقل من حيث المبدأ. وخلال الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في سنة 2019 في دافوس بسويسرا، قدم رئيس الوزراء الياباني آنذاك شينزو آبي مفهومًا أطلق عليه “التدفق الحر للبيانات الموثوقة”. كما تملك منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي منظمة اقتصادية حكومية دولية تضم 38 دولة عضو، مبادرة جارية تهدف إلى إنشاء مجموعة من المبادئ المشتركة للدول الأعضاء التي من شأنها أن تخلق ضوابط على الرقابة الحكومية وتوضح صراحة وصول إنفاذ القانون إلى بيانات. كما أنشأت إدارة الولايات المتحدة بقيادة بايدن بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، فريق عمل معني بإدارة البيانات.
حكاية شبكتين من الإنترنت
سيستغرق وضع السياسات الدولية لحماية البيانات سنوات، فإلى أي مدى ينبغي أن تقلق الولايات المتحدة بشأن شهية الصين للبيانات في هذه الأثناء؟ يجادل بعض مراقبي الصين بأنه في الوقت الحالي، من المحتمل أن يكون لسياسات البيانات في بكين علاقة بالمخاوف المحلية أكثر من إرساء الهيمنة على البيانات العالمية. ويقول ساكس: “تدرك الحكومة الصينية والحزب الشيوعي أن البيانات لها قيمة هائلة ولكنها تعرض أيضًا نقاط ضعف أمنية. وفي هذه المرحلة، تركز الدولة جهدًا هائلًا لمجرد السيطرة عليها”.
يحذر خبراء صينيون آخرون من أن العواقب طويلة المدى خطيرة. ويقول بوتينجر، وهو حاليًا زميل زائر بارز في مؤسسة هوفر ومستشار للشركات التي تمارس نشاطًا تجاريًا في الصين: “إن قيمة المعلومات التي يجمعونها ليست واضحة في البداية”. وأضاف “إن الأمر أشبه بالنظر إلى جبل والقول إنه مجرد جبل. حسنًا، في الواقع، إنه أيضًا منجم ذهب. هذه القيمة كامنة، لكنها في وقت لاحق يمكن أن تكون قوية للغاية بطرق تعرض أمننا وقدرتنا التنافسية للخطر”.
مهما كانت الحالة، يشير البعض إلى أن العالم يتحرك بالفعل بلا هوادة نحو عالم رقمي ثنائي القطب، وهي خطوة لن تتسارع إلا مع تزايد السباق على هيمنة الذكاء الاصطناعي بين الصين وأمريكا.
قد يكون هذا المستقبل بالفعل في الأفق. حيال هذا الشأن، يقول فرانك هـ. وو، رئيس كلية كوينز ومؤلف كتاب “الأصفر: سباق في أمريكا ما وراء الأسود والأبيض”: “لدينا الآن شبكتان داخليتان. هناك إنترنت صيني وراء جدار الحماية العظيم ثم هناك إنترنت بقيادة أمريكية. وعندما تنظر إلى تكنولوجيا الهاتف الخلوي والذكاء الاصطناعي، يتم تقسيمها الآن. ثم يُطلب من البلدان في أوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بشكل متزايد أن تختار الانضمام إلى الجانب الصيني أو الجانب الأمريكي”. وما ستفعله إدارة بايدن في الأشهر المقبلة يمكن أن يساعد في تجنب مثل هذه الفجوة الرقمية، أو التسريع فيها.
نيوزك وييك
ترجمة نون بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.