مخيم جنين… حرب على الذاكرة والهوية والبندقية

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

لطالما كان الهدم، في جوهره، أداة السلطة الاستعمارية لإعادة تشكيل الواقع وفق مصالحها، ووسيلة لمحو الوجود المادي، لكنه في الوقت ذاته اعتراف ضمني بصلابة هذا الوجود ورسوخه. فالهدم، وإن بدا فعلاً مادياً يستهدف البيوت والجدران، إلاّ إنه في حقيقته يستهدف الذاكرة والهوية والوعي، إذ إن إزالة الحجارة ليست سوى خطوة أولى في مشروع أوسع يسعى لإعادة تشكيل الإنسان والمكان معاً.

وفي هذا السياق، يأتي استهداف مخيم جنين كجزء من محاولة محو دلالاته الرمزية والتاريخية، تلك التي تتجاوز كونه مجرد تجمع سكاني إلى كونه حالة نضالية متجذرة في المخيلة الفلسطينية، وشاهداً على عجز الاحتلال عن فرض سرديته على الأرض. فالهدم هنا ليس مجرد محو للمباني، بل أيضاً محاولة لمحو الذاكرة الجماعية التي يحملها المكان، والتي تترسخ في وجدان الأفراد أكثر كلما ازداد الاستهداف لها.

لكن ما يغفل عنه الهدم المنهجي أن الفعل المقاوم لا ينبع من الجدران ولا من الأزقة، إنما من المعاني التي تنبض في قلوب الناس؛ فالمخيمات، وإن أُزيلت حجارتها، تبقى راسخة في وعي اللاجئ الفلسطيني كعنوان للنفي القسري والحق المؤجل. ومن هنا، فإن ما يجري في مخيم جنين اليوم، من عمليات تفجير وتجريف ممنهج، ليس إلاّ صورة أُخرى من صراع الإرادات، حيث يسعى الاحتلال لإعادة تعريف المخيم خارج هويته المقاومة، بينما يتشبث الفلسطينيون بالمكان باعتباره امتداداً للذاكرة وحقهم غير القابل للتفاوض في العودة والتحرر.

في النهاية، ليست القضية في هدم بيت أو شارع، إنما في محاولة تفكيك روح المقاومة المرتبطة بالمخيم، وهو ما يجعل هذه المعركة أكثر من مجرد مواجهة عسكرية، فهي أيضاً صراع على المعاني، والتاريخ، والمستقبل ذاته.

في مشهد غير معهود في الضفة الغربية، أقدم الاحتلال الإسرائيلي يوم الأحد 2 شباط/فبراير 2025 على تفجير 20 منزلاً دفعة واحدة في مخيم جنين، في مشهد بدا أشبه بما يحدث في قطاع غزة خلال العدوان المتكرر. ولم يكن هذا الفعل معزولاً، إذ سبقه على مدار الأيام القليلة الماضية هدم أكثر من 30 منزلاً، إلى جانب عشرات المنازل التي أُحرقت أو دُمرت جزئياً بفعل القصف والتجريف منذ مطلع العدوان الإسرائيلي على مخيم الجنين بتاريخ 21 كانون الثاني/يناير 2025، والذي أطلقت عليه إسرائيل مسمى “الأسوار الحديدية”.

وهذا الهدم الممنهج لم يقتصر على المنازل، بل أيضاً امتد ليشمل تدمير البنية التحتية للمخيم بصورة مستمرة لأكثر من عامين، إذ تتعرض شبكة الطرق وخطوط الكهرباء وشبكات المياه والصرف الصحي للاستهداف الدائم، وهو ما يجعل الحياة داخل المخيم شبه مستحيلة.

ويجادل المقال في أن هذه العمليات العسكرية ليست مجرد تكتيك أمني آني، بل أيضاً تأتي في إطار استراتيجيا إسرائيلية أوسع تستهدف المخيمات الفلسطينية بصفتها حاضنات سياسية واجتماعية للمقاومة. وعليه، فإن عمليات الهدم والتجريف ليست فقط عقوبات جماعية، بل أيضاً هي أداة للترانسفير الداخلي، أي إفراغ المخيمات من سكانها ودفعهم إلى النزوح القسري نحو المدن والقرى المجاورة، في خطوة تهدف إلى إعادة تشكيل الخارطة الديموغرافية الفلسطينية بما يخدم مصالح الاستعمار الإسرائيلي على المديَين التكتيكي والاستراتيجي.

“الأسوار الحديدية”: امتداد لحرب لن تُحسم
قبل التطرق إلى أحداث مخيم جنين، لفت انتباهي اسم العملية العسكرية ذاتها، إذ يبدو أن اختيار “الأسوار الحديدية” لم يكن مجرد مصادفة، إنما جاء محمَّلاً بدلالات رمزية تعكس جوهر العقيدة الإسرائيلية؛ فالاسم يستمد جذوره من مسمى “السيوف الحديدية”، الذي أُطلق على الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة سنة 2023، كما يستحضر نظرية “الجدار الحديدي” لزئيف جابوتنسكي، والتي تقوم على فرض الهيمنة والتعامل مع الفلسطينيين بمنطق التفوق الإسرائيلي. وعبر هذه التسمية، تحاول إسرائيل تكريس فكرة أن حربها التي اندلعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر لا تزال قائمة، وأن العمليات العسكرية ليست سوى حلقات مترابطة ضمن استراتيجيا طويلة الأمد، تهدف إلى تحقيق انتصار لم يتمكن نتنياهو من إحرازه في غزة.

الهدم كأداة للترانسفير الداخلي
تمثل عمليات الهدم والتجريف في المخيمات الفلسطينية، وعلى رأسها مخيم جنين، أحد أشكال الترانسفير الداخلي، وهو مفهوم يعكس سياسة تهجيرية منظمة لا تقوم على الترحيل المباشر خارج الوطن، إنما على إعادة توطين قسرية داخل الأراضي الفلسطينية نفسها، بحيث يتحول سكان المخيمات إلى لاجئين داخل وطنهم، لكن خارج بيئتهم الأصلية التي كانت رمزاً لوجودهم السياسي والتاريخي.

إن تدمير المنازل بصورة ممنهجة، ومنع سكانها من إعادة البناء، وفرض قيود صارمة على عودتهم، هي آليات مدروسة تهدف إلى دفع اللاجئين نحو النزوح المتدرج، بحيث يجدون أنفسهم مع مرور الوقت مضطرين إلى الاستقرار في المدن والقرى المحيطة، وهو ما يؤدي إلى تحلل المخيمات ككيانات مستقلة وطمس خصوصيتها التاريخية.

وبهذا الشكل، يتحقق هدف الاحتلال الطويل الأمد المتمثل في تفريغ المخيمات وإنهاء صفتها كمناطق تجمُّع للّاجئين، وهو ما يعني ضمناً شطب إحدى الركائز الأساسية للقضية الفلسطينية، وهي حق العودة، وهذا امتداد لسياسات إنهاء عمل منظمة إغاثة اللاجئين “الأونروا” في فلسطين.

فاللاجئ الذي فقد بيته في المخيم، وأُجبر على العيش في بيئة جديدة، سيجد نفسه مع مرور الزمن اندمج قسراً في الواقع الجديد، وهو ما يُضعف الرابط بينه وبين قريته الأصلية التي هُجّر منها أجداده سنة 1948.

القضاء على معاقل المقاومة: الهدف التكتيكي
إلى جانب الأهداف الديموغرافية والسياسية، فإن الاحتلال يسعى عبر هدم المخيمات لتحقيق هدف أمني مباشر يتمثل في القضاء على الحاضنة الشعبية للمقاومة، وهو ما يُنظَر إليه كجزء من العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي ترى في المخيمات بؤراً للتمرد والمقاومة المسلحة.

تاريخياً، أدى مخيم جنين دوراً مركزياً في مواجهة الاحتلال، إذ تحوّل إلى قاعدة ارتكاز للمقاومين الذين يجدون في تعقيداته الجغرافية والسكانية بيئة مثالية للاختباء والتنظيم. ومن هنا، فإن هدم البيوت وتفريغ المخيم من سكانه يهدف إلى كسر هذا التكوين الاجتماعي المقاوم، بحيث يصبح تفكيك الشبكات العسكرية والفصائل المقاتلة أسهل وأقل تكلفة على المستوى الأمني والعسكري.

وتتجلى هذه الاستراتيجيا في عمليات الهدم الجماعية التي تستهدف بنية المخيم ككل، وليس فقط البيوت المرتبطة بالمقاومين أو المطلوبين، إذ يتم التعامل مع المخيم باعتباره كتلة متكاملة يجب تفكيكها، وهو ما يعكس رؤية الاحتلال للأحياء المقاومة باعتبارها جغرافيات عدائية يجب إعادة تشكيلها بالقوة.

المخيمات كرمز وضرورة بقائها
تمثل المخيمات الفلسطينية أحد أهم الرموز السياسية للقضية الفلسطينية، إذ إنها الشاهد الحي على استمرار اللجوء وعدم تحقق العودة، ومن هنا، فإن تفكيكها وإعادة توزيع سكانها لا يرتبط فقط باعتبارات أمنية، بل أيضاً يندرج ضمن جهود إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، بحيث يتم مسح هويته السياسية واستبدالها بهوية جديدة تتناسب مع المخططات الإسرائيلية.

لكن في المقابل، فإن بقاء المخيمات وصمود سكانها في وجه التهجير الداخلي يمثل معركة وجودية بحد ذاتها، إذ إن إفشال مشاريع الهدم وإعادة الإعمار ضمن المخيمات، وإصرار السكان على العودة إلى منازلهم المدمرة بدلاً من النزوح إلى خارج المخيم، يُعد شكلاً من أشكال المقاومة المدنية التي تُفشل الأهداف البعيدة المدى للاحتلال.

استهداف الوعي الوطني الفلسطيني
لا يمثل استهداف مخيم جنين مجرد حملة عسكرية ضد المقاومة المسلحة، بل أيضاً هو محاولة لضرب الوعي الفلسطيني الجماعي. فالمخيم، في الذاكرة الوطنية الفلسطينية، ليس مجرد تجمُع بشري، بل أيضاً رمز تاريخي للصمود والمقاومة، إذ شهد معركة ملحمية سنة 2002 خلال اجتياح الاحتلال للضفة الغربية، وتمكّن على الرغم من قلة العدة والعتاد من فرض معادلات جديدة في المواجهة مع العدو. ولم يكن ذلك حدثاً معزولاً، فقد عاد المخيم إلى واجهة الصراع سنة 2021 عندما أطلق أول كتيبة مقاومة مسلحة في الضفة الغربية، وهو ما أعاد تشكيل الخريطة الأمنية والسياسية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

في العقلية الإسرائيلية الأمنية والعسكرية، يُنظر إلى مخيم جنين كـ “عش الدبابير”، وهو توصيف يعكس حجم التهديد الذي يمثله المخيم كحاضنة للمقاومة، وهو ما أثبت أن المخيم ما زال يشكل عقدة أمنية معقدة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.

وتسعى إسرائيل عبر عملياتها العسكرية المكثفة في الضفة الغربية لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى، تهدف إلى إعادة صوغ المشهد السياسي والجغرافي للمنطقة وفقاً لمصالحها. وفي مقدمة هذه الأهداف، تأتي محاولة إعادة تعريف دور السلطة الفلسطينية من حيث وظيفتها وجغرافيتها، بحيث تصبح كياناً إدارياً محدود التأثير، ويقتصر دوره على إدارة الشؤون المدنية من دون أي قدرة على التأثير في القضايا السياسية أو الأمنية.

إسرائيل وإعادة هندسة الضفة
إلى جانب ذلك، تعمل إسرائيل على تغيير معالم الضفة الغربية وفرض وقائع جديدة على الأرض، وذلك عبر تحويلها إلى سلسلة من المعازل المنفصلة، وهو ما يعمق تجزئة المناطق الفلسطينية ويمنع أي إمكانٍ لقيام كيان سياسي موحد. ويتجلى هذا المخطط في نشر أكثر من 900 حاجز وبوابة عسكرية داخل الضفة، وهو ما يعزز السيطرة الإسرائيلية ويقوّض التواصل الجغرافي بين المدن والقرى الفلسطينية.

كما تندرج عمليات التهجير الداخلي ضمن هذا المخطط، إذ تمثل مقدمة لتهجير قسري أوسع نطاقاً، يتماشى مع الطروحات التي سبق أن دعا إليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فعن طريق تصعيد القمع والقيود الأمنية والاقتصادية، تسعى إسرائيل لدفع الفلسطينيين نحو مغادرة أراضيهم، في إطار سياسة تطهير ديموغرافي تهدف إلى تقليل الوجود الفلسطيني وتعزيز الهيمنة الإسرائيلية المطلقة على الضفة الغربية.

ختاماً
ما يجري في مخيم جنين اليوم ليس مجرد حملة عسكرية محدودة، بل أيضاً هو جزء من رؤية استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى إعادة تشكيل الخارطة الديموغرافية الفلسطينية عبر تفريغ المخيمات من سكانها، وإنهاء صفتها كحاضنة للّاجئين والمقاومين على حد سواء.

إن التصدي لهذه السياسة يتطلب رؤية فلسطينية واضحة ترتكز على تعزيز صمود سكان المخيمات، ودعم بقائهم في أماكنهم، وإعادة بناء البيوت المدمرة كجزء من مواجهة مشاريع التهجير الداخلي. فالمخيمات ليست مجرد تجمعات سكانية، بل أيضاً هي معاقل للنضال الفلسطيني، وذاكرة جماعية يجب المحافظة عليها لمواجهة محاولات شطب التاريخ والحقوق الوطنية.

بهذا المعنى، فإن ما يجري في مخيم جنين ليس مجرد عملية عسكرية إسرائيلية على الأرض، بل أيضاً هو معركة على الهوية والوجود، وعلى حق اللاجئ في أن يبقى لاجئاً حتى تحقيق العودة، بدلاً من أن يصبح مجرد فردٍ في مجتمع فقد بوصلته التاريخية والسياسية.

ياسر مناع – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد