ما إن نتحدث عن التنويم الإيحائي أو المغناطيسي، حتى يتبادر إلى الأذهان المشاهد التي تناولته في الأفلام الكلاسيكية بالأبيض والأسود، وتحديدًا الفيلم المصري «في الهوا سوا» لإسماعيل يس، وزوزو ماضي، وعبد السلام النابلسي، الذي كان ينظر في عين الشخص ويردد عبارته الشهيرة «نام شد اللحاف»؛ لينام الشخص بعدها ويبدأ بالاعتراف بأسراره.
يتبادر إلى الأذهان أيضًا صورة أحد المعالجين، وهو يمسك بساعة جيب تتأرجح ذهابًا وإيابًا أمام أعين المريض؛ ليدخل بعدها في حالة تشبه النوم. فما حقيقة هذه الأمور؟ وهل يملك التنويم المغناطيسي فوائد طبية؟ وماذا عن حقيقة استخدامه في غرف العمليات؟ وهل قد يصبح يومًا بديلًا للتخدير؟ هذا ما نتناوله في هذا التقرير!
التنويم المغناطيسي وتاريخ طويل من الاستخدامات الطبية
قد يرتاب البعض عند سماع كلمة التنويم المغناطيسي ويساوره القلق من فكرة التنويم، ولكن من يخضع لجلسة التنويم لا ينام بالفعل، بل يقوم ببعض الأشياء التي تعمل على إلهاء عقله الواعي، مثل التنفس والتركيز؛ والولوج إلى العقل الباطني. ويتفق الباحثون على أنه يمكن وصفه بأنه «نشوة» منومة، بل يمكن القول بأنها حالة من الانتباه التام والتركيز، والامتصاص الداخلي، يرافقه فقدان الوعي بالأشياء الأخرى الموجودة حولك.
يستخدم التنويم المغناطيسي في العلاج منذ آلاف السنين، حسبما يقول عبدو شوشاني، الحاصل على ماجستير في البرمجة اللغوية العصبية والعلاج الإيحائي، في حوار مع صحيفة «إندبندنت العربية». ويضيف أن المفهوم الغربي منه بدأ منذ نحو 150 عامًا؛ إذ جرى استخدامه في علاج الألم، والقلق، وأنواع من الفوبيا والخوف، وأيضًا في علاج الأرق، والتدخين، والمشكلات الجنسية، والعلاقات.
ويمكن القول إن الجزء الأخير من القرن 18، شكَّل بداية التاريخ العلمي للتنويم المغناطيسي على يد فرانز ميسمر، الطبيب الألماني الذي استخدمه في علاج المرضى في فيينا وباريس. لكنه سرعان ما فقد التنويم الإيحائي مصداقيته؛ للاعتقاد بأنه يتعلق بالاستفادة من القوة الخفية المتعلقة بالتأثير الفيزيائي للكواكب.
في منتصف القرن 19، عادت مصداقيته بعدما درس الطبيب الإنجليزي، جيمس برايد، تلك الظاهرة، وصاغ مصطلح «التنويم المغناطيسي» (hypnosis)، مشتقًا من اسم إله النوم اليوناني، «هيبنوس».
وقبل ميسمر، وبرايد، تحدث الطبيب المسلم ابن سينا عن تلك الظاهرة التي أشار إليها باسم «الوهم العميل»، في كتابه «الشفاء» الذي نشره عام 1027 ميلاديًّا. وخلال الحرب العالمية الثانية، ازدهر استخدام التنويم الإيحائي في المستشفيات والمعسكرات لتخفيف الألم. وقد أقره المجمع الطبي البريطاني بوصفه وسيلة مهمة من وسائل العلاج النفسي منذ عام 1955. وتعمل الآن كل من الجمعية الأمريكية للأمراض النفسية، والمعاهد الوطنية للصحة على تعزيز التنويم المغناطيسي بوصفه جزءًا من الرعاية المعتادة للألم. ولكن ماذا عن استخدامه في غرف العمليات؟
لكن.. كيف يستخدم التنويم الإيحائي في التخدير؟
استلقت ديان فريسكيز على طاولة العمليات في أحد مستشفيات العاصمة البلجيكية، بروكسل؛ لتجري استئصال الغدتين الصغيرتين جارتا الدرقية. وخلال العملية، كانت ديان مستيقظة، بينما تحاول فابيان رويلانتس، طبيبة التخدير، استخدام التنويم المغناطيسي لتخدير ديان عبر احتضان رأسها بكلتا يديها ونقر جبهتها، والتحدث معها.
وبينما كانت فابيان تتحدث، كانت ديان تصبح أكثر سكونًا وتغمض عينيها؛ ليُدخل بعدها طبيب آخر إبرة طويلة في رقبتها؛ لتخدير المنطقة القريبة من الغدد الجار درقية، ثم يقطع ثقبًا يبلغ طوله بوصة واحدة في منطقة الحلق لإزالة الغدتين. وبعد انتهاء الجراحة، قالت ديان: «شعرت بالراحة والفرح لأن جلسة التنويم نجحت، ولأنني خضعت لعملية جراحية بدون تخدير كامل» وأضافت: «لن أتردد مطلقًا في القيام بذلك مرة أخرى».
انتقل العلاج بالتنويم الإيحائي من شاشات السينما، وجلسات المعالجين، إلى غرف العمليات، فقد استُخدم في التخدير منذ أربعينيات القرن 19، وكان الجراح الإنجليزي جيمس برايد رائدًا في ذلك. وخلال القرن 19، وُصفت عدة مئات من التدخلات الجراحية باستخدام جلسات التنويم بوصفه المخدر الوحيد، في حقبة لم تكن فيها أدوية التخدير متاحة بعد، ثم جرى التخلي عن التنويم الإيحائي ونسيانه بعد تقدم مجال التخدير.
لكن في العقدين الماضيين، أظهر عدد متزايد من الدراسات التي أجريت حول التنويم الإيحائي قدرته على تعديل نشاط بعض المناطق في الدماغ، وزيادة القدرة على تحمل الألم لدرجة تعادل ما يقوم به التخدير الجراحي. ومنذ عام 1992 جرى استخدامه في عديد من العمليات الجراحية، مثل إصلاح الفتق، وجراحات إزالة الأورام، وفي عمليات الفحص بالمنظار للمعدة والقولون، وبعض الجراحات التجميلية بديلًا للتخدير العام.
كيف يحدث ذلك؟ الإجابة بسيطة؛ يتلقى المريض تخديرًا موضعيًّا خفيفًا، ثم يجلس الطبيب بجانبه ويوجهه للتركيز على عالمه الداخلي، والتنفس، ويساعده على جذب انتباهه إلى مكان آمن، واستعادة تجارب من الماضي، أو تركيز عقله على ذكريات معينة.
وقد أظهرت الصور التي التقطها العلماء للمخ خلال فترة الاسترخاء في أثناء العلاج بالتنويم المغناطيسي، حدوث كبح لنشاط قشرة الدماغ الأمامية، المسؤولة عن التخطيط، واتخاذ القرارات. ويؤدي هذا إلى زيادة نشاط مناطق أخرى من الدماغ، التي نستخدمها لتوليد ذكريات وأفكار وسلوكيات جديدة. ولكن هل يصلح التنويم الإيحائي في تخدير جميع الحالات؟ وهل يملك من المميزات ما يُمكن أن يجعله بديلًا للتخدير العادي؟
التنويم المغناطيسي vs التخدير العادي
ينقسم التخدير إلى ثلاثة أنواع: التخدير الكلي، والتخدير النصفي أو النخاعي، والتخدير الموضعي. وبصفة عامة، يعد التخدير العام آمنًا، ولكن بطبيعة الحال قد تحدث بعض المضاعفات، التي ترتبط بنسبة كبيرة بنوع العملية التي يخضع لها المريض، وصحته البدنية العامة، فضلًا عن نوع التخدير.
ومن الآثار الجانبية للتخدير الكلي، التي قد يتعرض لها المريض بعد الإفاقة: القيء والغثيان، وجفاف الفم، وآلام بالحلق والعضلات، والشعور بالحكة، والبرد، والقشعريرة، والصداع، إلى جانب ضيق في النفس، والهلوسة، والنعاس. وقد يتعرض كبار السن، أو الأشخاص الذين يعانون من مشكلات طبية خطيرة، لاحتمالية أعلى للإصابة بارتباك ما بعد الجراحة، أو التهاب الرئة، أو حتى السكتة الدماغية والنوبة القلبية. وترتبط هذه المخاطر غالبًا بالجراحة ذاتها وليس التخدير. فهل يمكن أن يقدم التنويم المغناطيسي حلًّا لهذه المضاعفات؟
حاليًا، تُقدم بعض المستشفيات الأمريكية التنويم الإيحائي للمرضى لتقليل القلق قبل الجراحة، وإدارة آلام ما بعد الجراحة، وحتى استبدال التخدير العام لاستئصال الثدي الجزئي في سرطان الثدي.
تقول إليزابيث ريبيلو، مختصة التخدير، والتي تعمل أيضًا في مركز «إم دي أندرسون» للسرطان في جامعة تكساس، الذي بدأ في استخدام العلاج بالتنويم الإيحائي منذ حوالي أربعة أعوام في عمليات استئصال الثدي الجزئي، وبعض الخزعات، «أن نتائج المراقبة العشوائية المستمرة بالمستشفى، والتي تقارن المرضى الجراحيين الذين يخضعون إما للتخدير العام وإما التنويم المغناطيسي بالتخدير الموضعي، أظهرت ردود فعل إيجابية لـ60 مريضًا جرى تنويمهم منغاطيسيًّا».
على صعيد آخر، تُظهر الدراسات أن التنويم الإيحائي يمنع استجابة القلب، والأوعية الدموية المرتبطة بالألم: لذلك؛ يمكن مقارنته بالتخدير الدوائي؛ مما يوفر حماية حقيقية للمريض من الإجهاد. ومن فوائده الرئيسية، تقليل الآثار الجانبية بحيث لا يشعر المريض بالنعاس، أو أنه تحت تأثير التخدير العام. إذًا، ما الحالات التي يصلح فيها استخدام التنويم الإيحائي؟ وهل يصبح بديلًا للتخدير؟
حتى الآن، يمكن استخدامه مخدرًا إما وحده في حالة الجراحات البسيطة، والإجراءات الغازية مثل المناظير، أو لمرضى معينين، وإما يستخدم عاملًا مساعدًا إلى جانب للتخدير الدوائي، أو طريقةً مساعدة في مرحلتي ما قبل الجراحة وبعدها لدى المرضى الخاضعين للتخدير العام.
يقول جاي مونتجمري، اختصاصي علم النفس السريري بكلية إيكان للطب في نيويورك، والذي درس التنويم الإيحائي لرعاية مرضى السرطان: «مع أن هذه التقنية ليست سحرية، فإنها يمكن أن تجعل الألم أكثر قابلية للتحكم». ويضيف أنه يجب على المرضى أن يضعوا في اعتبارهم بالتأكيد بعض التحذيرات قبل اختيارهم العلاج بالتنويم الإيحائي، منها: التأكد من حصولهم على مختص رعاية صحية مرخص، فلا يمكن لأي شخص ادعاء أنه معالج تنويم مغناطيسي.
التخدير بالتنويم الإيحائي في العالم العربي
ومن الدول الأوروبية والولايات المتحدة، نذهب إلى لبنان حيث شهد العام الماضي، إجراء عملية منظار للرحم تُعد الأولى من نوعها تحت تأثير التنويم الإيحائي، لسيدة بلغت من العمر 39 عامًا. وقد أجرى العملية، التي تعد أول تدخل طبي لجراحة منظار الرحم تحت التنويم المغناطيسى بلبنان، الدكتور جوزيف غنيمة في مستشفى «بيل فو».
وقد استغرق دخول المريضة تحت تأثير التنويم نحو ربع ساعة فقط، وتكللت العملية بالنجاح، ولم تعانِ المرأة، بعدما استفاقت، من تأثير التخدير السلبي. وأثنى الدكتور غنيمة على فعالية هذه التقنية في العمليات الصغيرة، وقال: «التنويم الإيحائي مناسب جدًّا في تقنيات جراحية نسائية عدَّة، منها عمليات استئصال الثآليل، والتخصيب خارج الجسم، وإزالة ورم صغير في الصدر، لكن لا يجوز استخدام هذه التقنية في جراحة كبيرة في منطقة واسعة مثل البطن».
وأضاف غنيمة: «البنج كناية عن عدد من الأدوية، وله جوانب سلبية عدة، لذلك بحث العالم دائمًا عن أساليب بديلة، بينها طريقة الوخز بالإبر المعتمدة كثيرًا في الصين، وطريقة التنويم الإيحائي التي طُبِّقت في جراحات عدة. وبالتالي؛ الهدف من التنويم في جراحة ما، ليس الاستغناء عن البنج بقدر التخفيف من أضراره، عبر التخفيف من أخذه قدر الإمكان.
واستكمل غنيمه قوله: «لا يمكن اعتماد هذه التقنية في العمليات الكبيرة والطويلة، التي تصل إلى خمس ساعات، بل يفترض اختيارها بعناية في عمليات محددة، لا تزيد على الساعتين. ويفترض كذلك اختيار الأشخاص الذين يمكن اتباع التنويم المغناطيسي معهم بنجاح؛ لذا يجب على اختصاصي التنويم الجلوس قبل الجراحة مع المريض وطبيب التخدير، الذي يكون موجودًا في حال احتاج المريض خلال الجراحة، لسببٍ طارئ، إلى تخدير عادي، أو شعر بالألم واحتاج إلى مسكن»، مؤكدًا أنه في دول كثيرة منها فرنسا، أصبح طبيب التخدير، اختصاصيًّا في التنويم المغناطيسي.
ساسة بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.