إيلي نصر الله حدّاد* – خاص الناشر |
كثُرَ الحديث هذه الأيام عن مآلات الحراك في الشارع الإيراني، وباتت أحداث الشغب المتنقلة في الجمهوريَّة الإسلاميَّة، مع ما رافقها من تهويلٍ غربيٍ بالحرب الأهليَّة في إيران تطرح سؤالًا: ترى من الأقرب إلى الحرب الأهليَّة: أميركا أم إيران؟
والجواب هنا لا ينطلق من “بروباغندا”، ولا من شحذٍ مصطنعٍ للهمم، بل هو اجتهاد من اختبر مجتمع أميركا الشماليَّة لسنين طوال، وقد برزت أمام ناظريه الحرب الأهليَّة وهي تطرق باب الولايات المتحدة.
إنَّ شرارة الحرب الأهليَّة الأميركيَّة لن تكون بعيدةً عن تلك التي أشعلت بيروت في العام 1975. فاليمين اللبناني الذي ترأسته ثلاث ميليشياتٍ عشيَّة تلك السنة، يقابله 3000 ميليشيا يمينيَّة أميركيَّة اليوم. أمَّا شعور اليمين اللبناني “المسيحي” عشية الـ 1975 بأنَّ بساط الحكم يُسحَب من تحت رجليه، بل شعوره بالتهديد الوجودي غداة دخول العناصر غير اللبنانيَّة (الفلسطينيَّة والسوريَّة) بالطول والعرض إلى المشهد اللبناني، فهو نفس شعور الأغلبيَّة من الجمهوريين البيض ممن يتوجَّسون من العناصر الهسبانية، والسوداء، والآسيويَّة، والمسلمة. هذه الكتل الجمهوريَّة المدجَّجة بالسلاح – مما يسمح به الدستور الأميركي – باتت مقتنعةً أنَّها في تناقصٍ يوميٍ مقابل تزايد الديمقراطيين الذين ترى فيهم دمار الولايات المتحدة.
أمَّا إيران، فليست هي المصابة بداء الهجرة العشوائيَّة والخلط المصطنع للشعوب في بواتق مستحدَثة. ما لا يفهمه العديد من الغربيين هو أنَّ المجتمعات الشرقيَّة نتاجٌ لآلاف السنين من التوازنات الدقيقة: مجتمعاتها متجانسة، وشبكات الروابط القوميَّة والدينيَّة والأخلاقيَّة فيها متماسكة إلى حدٍ بعيد، وهي، وإن دخلتها الحداثة بمعناها المشوّه، فسوف تبلي في مواجهتها بلاءً حسنًا أكثر من مجتمعات الغرب.
وبالعودة إلى العولمة التي أنتجت خلال التسعينيات ظاهرة “أحزمة الصدأ” في الولايات المتحدة، مقفلةً معامل السيارات في ميشيغان وديترويت، فإنَّ هروب الاستثمارات هذا لم يتوقف عند ابتلاع رأس المال للصناعة الأميركيَّة وتحويلها إلى الشرق. والعولمة الشرهة هذه، وإن نجحت في إسكات الرأي العام الغربي من خلال ستارٍ إعلاميٍ حديدي سميك، فقد امتدَّت مثل النار في الهشيم لتضرب أسس فلسفة الاقتصاد الغربي نفسه.
الأمثلة على ذلك عديدة ولكنني سأكتفي هنا بمثالين: لقد ظنَّ المزارع الأميركي أنَّ تحديث معدّاته ومضاعفة قدرته على إطعام المزيد من الناس سيعودان عليه بالفائدة، لكن الواقع اليوم هو العكس. هو يعمل نفس ساعات العمل، فضلًا عن مدخول عمل زوجته التي تكفلت موجات النسوية بإخراجها من المنزل – وما أدراك ما المنزل – ومع كونهما يعملان ليلًا نهارًا فهما لا يدرّان ما كان يدرّه مزارعٌ واحدٌ في السبعينيات حيث الانتاجيَّة المتدنية نسبيًا.
أمَّا عامل التوصيل بالشاحنات ذو الانتاجيَّة المتدنية في السبعينيات، فهو اليوم يقوم بتوصيل أضعاف الأغراض باستعمال الـ GPS وشبكة الطرقات المتطوّرة، وإذ بساعات عمله تزيد بدل أن تنقص.
لقد أصبح رأس المال والشركات والحكومات “تنام جميعًا في السرير ذاته”، وأصبحت التكنولوجيا في خدمة نظامٍ تقوده الكتلة الصناعيَّة العسكريَّة التي تحوّل الانتاجيَّة المرتفعة للمزارع وسائق الشاحنة والصنائعي إلى ترسانةٍ عسكريةٍ مصيرها إما الصدأ وإما قتل الشعوب الآمنة. انتاجيةٍ تحوّلها حكومات الغرب إلى منظمات مجتمعٍ مدنيٍ تغزو مجتمعات المشرق العربي والمغرب وآسيا وأفريقيا بغية نقل “قيَم” الحداثة المزعومة إليها، وبالتالي تخريب أسرها.
ترى كم عساها تدوم هذه المظلومية؟ وهل من شرٍ أعظم من سرقة انتاجيَّة الناس لاستخدامها في إحراق نظرائهم في الخلق؟
أمَّا إيران، الثورة والجمهوريَّة الإسلاميّتان، فمسرحٌ يكاد يكون نموذجًا مناقضًا تمامًا لمسار تجويف الاقتصاد الأميركي. إيران التي انتقلت من اقتصادٍ شبه زراعيٍ إلى الانتاج الصناعي والفكري، وقبل كل شيء وبعده هو اقتصاد في خدمة الناس لا رأس المال.
لا اقتصاد بلا سياسة، ولا سياسة بلا فلسفة. وفلسفة النظام الغربي فاسدة مفسدة.
والحديث يطول عن أوضاع المدن الأميركيَّة حيث تجمّعات الأضداد القبلية، تلك التي ظنَّت النخب الليبراليَّة أنها انتهت إلى غير رجعة وإذ بها أحياء قبليَّة تقسيمية على مدّ النظر: الحيّ الصيني في نيويورك، والحيّ الإيطالي، وحيّ الباكستانيين، وحي لأغنياء اليهود وآخر لفقرائهم. وقس على ذلك في معظم المدن الغربيَّة ذات تنوّع الأضداد، من ملحدين كارهين للمتديّنين، إلى محافظين يختنقون تحت وطأة دكتاتوريَّة العلمانيَّة المتوحّشة.
وعلى أنَّه من الصعب التنبّؤ بتوقيت شرارات الحروب الأهليَّة في الغرب في ظل أنظمته الظالمة، لكنها آتية لا محالة، لأنَّ شراهة الظلم والطغيان لن تعرف حدًّا تقف عنده؛ وحتى ذلك اليوم، حمى الله جمهوريتنا الإسلاميَّة في إيران، والصين العظيمة، وروسيا المسيحيَّة، وشرقنا الآمن كله من جور أنظمة الغرب واستكبارها.
*كاتب لبناني من المية ومية – جنوب لبنان
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.