وسط بحر من الأزمات، باشرت الحكومة العراقية الجديدة أعمالها. الحدث في حد ذاته، وبصرف النظر عما قد يتبعه، حمل مؤشرات إيجابية للعراقيين كونه أنهى حالة من المراوحة السياسية المستعصية منذ إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة قبل نحو عام، رغم بعض التوترات الأمنية المصاحبة للحدث، والتي لا تخلو من الرسائل “الهادفة” بأبعاد داخلية وخارجية للعهد العراقي الجديد، كانفجار العاصمة بغداد الذي حصد أرواح العشرات بعد ساعات من مباشرة محمد شيّاع السوداني مهامه رئيسًا للحكومة خلفًا لمصطفى الكاظمي. وفي الوقت نفسه، نال مرشح قوى “الإطار التنسيقي”، نصيبه من جرعات الدعم الدبلوماسي، إقليميًا ودوليًا، لا سيما من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وطهران، وواشنطن التي كانت سفيرتها أول المهنئين للسوداني، لتتجه الأنظار نحو ما يحمله الرجل على صعيد الملفات الداخلية الملحة، والتي يأتي على رأسها الخلاف القديم الجديد بين بغداد وأربيل بشأن تقاسم الثروات النفطية.
هل ينجح الرئيس الجديد في تجاوز اخفاقات سلفه؟
هذا، وفي حين توقف مراقبون عند بعض بنود البرنامج الذي أعلنه رئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني، سواء تلك المندرجة تحت عنوان مكافحة الفساد، كالعمل على “بناء أدوات فعّالة” لهذا الغرض خلال 90 يومًا، وتحسين الواقع المعيشي والخدماتي للمواطنين، أو تلك المتعلقة بوضع حد لما أسماه السوداني “ظاهرة السلاح المنفلت”، والإسراع في إعمار المناطق المحررة من تنظيم “داعش”، فضلًا عن الانتهاء من ملف النازحين، لا سيما في جرف الصخر (التي أُطلق عليها جرف النصر بعد دحر التنظيم المتطرف منها)، وسنجار، وهي بنود وضعها البعض تحت إطار إثبات جدية تحرك الحكومة الجديدة على صعيد الشروع في معالجة بعض الملفات الشائكة، والقضايا الملحّة، فيما رآها آخرون عزفًا كلاميًا، ووعودًا فارغة معتادة في عهود الحكومات السابقة.
إلا أن ما استرعى الانتباه أكثر، هو تأكيد تلك البنود على أهمية التنسيق بين حكومتي المركز وإقليم كردستان حول الملفات والقرارات التي تخص الإقليم، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان ما سبق أن توافقا عليه في العامين 2014 و2017 حول ملف النفط.
وفي ضوء تعهد الرئيس العراقي الجديد عبد اللطيف رشيد بالعمل على “حل المشاكل” بين الحكومة المركزية وسلطات إقليم كردستان، يشير المحلل السياسي المتخصص في الشأن الإقليمي حمزة حداد إلى أن رشيد معني بتهدئة العلاقات المتوترة بين بغداد وإقليم كردستان. ويعتبر أن الرئيس السابق “برهم صلاح ترك بصمته من خلال شخصيته، لكنه بالكاد تمكّن من تحسين العلاقات” بين الطرفين، مشدّدًا على أنه “إذا كان لطيف رشيد قادرًا على تحسين هذا الأمر، فسيتفوق على كل ما حققه سلفه”
وفي السياق عينه، تذهب الباحثة في “مجموعة الأزمات الدولية”، لهيب هيجل، إلى أن “أي رئيس لم يكن مرشحًا من قبل أحد الحزبين الكرديين الكبيرين، واجه صعوبة في فرض نفسه في بغداد”، متوقعةً أن يواجه رشيد صعوبات على هذا الصعيد، علمًا أنه يعد أقرب إلى الفريق المدعوم من إيران.
إزاء ذلك، يُطرح التساؤل البديهي: كيف ستقارب الحكومة الجديدة الملفات الخلافية مع أربيل، خصوصًا ملف توزيع العائدات النفطية؟
التحالف السياسي الجديد والتوافقات الممكنة بين بغداد وأربيل
في معرض الإجابة عن هذا التساؤل، يجزم خبراء متابعون للشأن العراقي أن بنود البرنامج الحكومي، الذي على أساسه تمكن السوداني من الحصول على الثقة البرلمانية اللازمة لفريقه الوزاري، إنما هو بيان معد سلفًا، ويحمل مطالب القوى السياسية المنضوية “المتناقضة” في إطار الحلف السياسي الجديد تحت عنوان “تحالف إدارة الدولة”، والمتشكّل أصلًا من قوى “الإطار التنسيقي”، وبعض القوى المحسوبة على المكون السني، كـ “تحالف السيادة” بزعامة خميس الخنجر، وأخرى محسوبة على المكون الكردي كـ “الحزب الديمقراطي الكردستاني” بزعامة مسعود برزاني.
فمن جملة ما يطالب به تحالف السيادة، وبعض حلفائه، هو سحب فصائل “الحشد الشعبي” من المحافظات المحررة، وإبدالها بقوات من الشرطة المحلية، إضافة إلى ترتيبات تتعلق بمعالجة ملف النزوح من منطقة جرف الصخر في محافظة بابل. أما أبرز مطالبات “الكردستاني”، فتتصل بتسوية ملف النفط والغاز، وعدم تطبيق قرار المحكمة الاتحادية القاضي بتسليم نفط الإقليم إلى بغداد.
وعلى خلفية ما يشاع بخصوص تلك المطالبات، يبدو واضحًا أن خلافات كبيرة لا تزال قائمة بين قوى “تحالف إدارة الدولة” كون بعض ما يُطرح، بخاصة من جانب حكومة كردستان، لا يلقى استحسان بعض قيادات “الإطار”، وربما قطاعات واسعة من قواعده في ضوء الحساسية الشديدة للملف الأمني، والإنساني، والتحديات المعيشية والاقتصادية الضاغطة في فترة “ما بعد داعش”.
أمام هذا المشهد من الاستعصاء السياسي والأمني المتشابك، تبدو حكومة السوداني معنية بتوضيح ما تريده، وما سوف تعمل على تحقيقه خلال الفترة المقبلة، والتي لن تتجاوز عامًا واحدًا، الأمر الذي يطرح تحديًا بشأن قابلية تنفيذ برنامجها المعلن.
وفي هذا الإطار، يشير موقع “ستراتفور” إلى أن توافق القوى الكردية، مع قوى “الإطار التنسيقي” بشأن انتخاب رئيس جمهورية جديد للعراق، وتعاونها لإنجاح تسمية السوداني لتولي الحكومة الجديدة، يفتح نافذة لإمكانية توقع تقارب محتمل في وجهات النظر بين بغداد وأربيل، والتوصل إلى حل براغماتي للقضايا الخلافية بينهما، متوقفًا عند مساعي القوى الأساسية ضمن “تحالف إدارة الدولة” للعمل على صياغة تشريع جديد للنفط بحيث يكون يحظى بتأييد الحكومة المركزية، وحكومة إقليم كردستان، الذي يعد أبرز نقاط التباين بين الجانبين.
ويشرح الموقع أن انخراط القيادات الكردية، لا سيما رئيس إقليم كردستان مسعود برزاني، في انجاز استحقاقي رئاسة الجمهورية والحكومة، يحمل دلالات على أنه بإمكان بغداد، وأربيل العمل معًا بشكل مثمر سياسيًا، وأمنيًا، في الحالات التي يتهدد فيها الاستقرار في البلاد، كما شهدنا إبان فترة صعود تنظيم “داعش”، وعقب الصدامات الأهلية خلال الصيف الماضي.
وفي حال تمكن التحالف السياسي الوليد من إدارة حكومة منسجمة وفاعلة، فإن ذلك يمكن أن يترتب عنه تبعات إيجابية على مستوى العلاقات بين بغداد وأربيل، على الصعيدين الاقتصادي والأمني، سواء لناحية التوصل إلى صيغة لإحياء التفاهمات بشأن ملف النفط، أو لناحية استكمال الحرب ضد فلول “داعش”، وذلك لكون “تحالف إدارة الدولة” يضم أحد أبرز القوى السياسية الفاعلة في كردستان العراق، أي “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، وفق “ستراتفور”.
وبصورة أدق، يذكّر الموقع بأن التوافقات بين الحكومة المركزية، وحكومة الإقليم أسفرت في الماضي عن تفاهمات في الملفات الاقتصادية، بخاصة فيما يتعلق بملف تقاسم عائدات النفط، على غرار اتفاق العام 2014 ، الذي وضع إطارًا ناظمًا لآلية تقاسم تلك العائدات للمرة الأولى، من خلال موافقة سلطات كردستان على تسليم ما لا يقل عن 250 ألف برميل نفط يوميًا، وتصدير قرابة 300 ألف من نفط كركوك لحساب بغداد، مقابل موافقة الأخيرة على تخصيص نسبة من ميزانية قوات الجيش العراقي الى قوات “البشمركة”، مضيفًا أن تنامي خطر “داعش” حينذاك كان الدافع الأساسي لإبرام الاتفاق.
ومع الإشارة إلى أن الجانبين توصلا إلى اتفاق مشابه عام 2017 بقي حبرًا على ورق، يتابع الموقع أن بزوغ أي تهديد أمني كبير مستقبلًا، سوف يعزّز أواصر التعاون الأمني بين الطرفين، من خلال مشاركة قوات “البيشمركة” التابعة للإقليم، جنبًا إلى جنب مع قوات بغداد في معالجة هذا التهديد.
السيناريو الأسوأ
من جهة أخرى، وعلى وقع ارتفاع أسعار النفط عالميًا، يرى محللون غربيون أنه من المرجّح أن يستمر الخلاف بين بغداد وأربيل حول ملف العائدات النفطية، على المدى القريب، إذا ما واصلت سلطات إقليم كردستان التمسك بـ “موقفها المتشدّد” حيال الملف، في ظل تكثيف بغداد ضغوطها على حكومة الإقليم من البوابتين القانونية، والدستورية، كقرار المحكمة الاتحادية العليا في شباط/ فبراير الماضي بعدم دستورية قانون النفط والغاز، الصادر عام 2007، وإلزام أربيل بتسليم الإنتاج النفطي للحكومة المركزية.
ولطالما سمّمت النقاط الخلافية بشأن قانون النفط، إضافة إلى قضايا أخرى متعلقة بمخصصات الإقليم في الميزانية الاتحادية، وترسيم حدود الإقليم، العلاقات بين بغداد، و”الإقليم المتمرّد” الساعي خلف الانفصال التام عن العراق. فبغداد، التي سبق أن ركنت إلى نقاط قوتها السياسية والاقتصادية في لجم مطالب حكومة الإقليم، لا سيما من خلال تحكمها بحصة الإقليم من الميزانية الاتحادية، إضافة إلى تحريكها عضلاتها العسكرية في وجه استفتاء العام 2017 على استقلال كردستان العراق، تحاول استخدام نفوذها الأقوى على المستوى القضائي أيضًا، لمحاولة ممارسة سيطرة أكبر على نفط المنطقة الكردية. فقرار المحكمة الاتحادية، الذي أثار حفيظة القيادات الكردية في أربيل، منح بغداد المزيد من الآليات الدستورية والقانونية من أجل السير في محاولاتها لمنع الصادرات النفطية من كردستان، أو تجميدها، وذلك عبر الضغط على الشركات الدولية العاملة هناك إلى قطع تعاملاتها التجارية مع سلطات الإقليم.
وبحسب الدراسات الغربية، قد تسفر المواجهة القانونية بين أربيل وبغداد، عن انتصار الأخيرة على الأرجح، واضطرار الأولى إلى الالتزام بحكم المحكمة الاتحادية العليا، علمًا بأن العديد من الشركات الغربية، من بينها شركة ويذر فورد” الأميركية، و”توتال” الفرنسية، استجابت بالفعل لتحذيرات الحكومة المركزية وأحجمت عن إبرام عقود استثمارية جديدة مع الإقليم، خوفًا من حرمانها العمل داخل السوق العراقية، وهو ما قد يهدد بحرمان حكومة أربيل من 85 في المئة من إيراداتها. وفي حين تعهدت الشركة الأميركية بعدم السعي خلف عقود جديدة داخل إقليم كردستان، من دون موافقة بغداد، عمدت الشركة الفرنسية إلى بيع حصتها في حقل سرسنك في الإقليم، والمقدرة بنحو 18 في المئة بسبب ضغوط المحكمة الدستورية العليا.
ومع ذلك، يبقى المجال مفتوحًا أمام بقاء عنصر التأزم في صلب التفاعلات بين بغداد، وأربيل في حال مضت الأخيرة في مواصلة التعاون مع تركيا، لتصدير نفطها عبر ميناء جيهان، خلافًا لقرار المحكمة، لا سيما وأن أنقرة لا تراعي خاطر الحكومة العراقية في اتفاقاتها المبرمة مع سلطات إقليم كردستان. كذلك، فإن عددًا من الشركات الأجنبية، غير الغربية، كشركة “دانا غاز” الإماراتية، و”غاز بروم” الروسية لا تبدي رغبة في إبطاء وتيرة التعاون النفطي مع أربيل، رغم الادعاء على الشركتين أمام القضاء العراقي. فكيف ستتم مقاربة التباينات بين بغداد وأربيل في عهد الحكومة الجديدة؟ وهل ستحمل المرحلة المقبلة انفراجات على هذا الصعيد؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.