فصل جديد من التوتر دخلته العلاقات بين واشنطن والرياض، عقب تبني السعودية قرار منتدى “أوبك+” الأخير خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميًا بدءًا من الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. تأييد السعودية السير خلف ما تبناه المنتدى، الذي يضمها إلى جانب روسيا ومنتجين آخرين من خارج “أوبك”، جاء في خضم “كابوس طاقوي” يعيشه العالم الغربي على وقع تطورات الحرب في أوكرانيا، وعقوبات أوروبية غير مسبوقة على قطاع النفط في روسيا. ومن الواضح أن لاعبًا دوليًا مشاكسًا للغرب، يقف أساسًا خلف قرار تخفيض امدادات النفط العالمية، هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن أن بلاده لن تبيع النفط بأسعار يحددها الآخرون، في إشارة إلى تحديه مساعي واشنطن وبروكسل لتحديد سقف أسعار لمبيعات النفط الروسي. ما خرج عن قمة “أوبك+” لا يدع مجالًا للشك في أنه “انتصار مذهل لبوتين”، باعتراف الصحافة الغربية.
السؤال البديهي
ومع الإعلان عن مقررات قمة “أوبك+”، يواجه الرئيس الأميركي جو بايدن خيارات صعبة، تحشره في لعبة توقيت حرجة، قبل أسابيع فقط من انتخابات التجديد النصفي الحاسمة للكونغرس، لكونها حولت أنظار الرأي العام داخل الولايات المتحدة نحو أزمة الطاقة، إلى حد باتت تهدد حظوظ مرشحي الحزب الديمقراطي في الفوز. انزعاج البيت الأبيض من هذا التطور لم يكن مستغربًا مما اعتبره “اصطفافًا” سعوديًا مع موسكو، على النقيض من مساعي الغرب الرامية لعزلها على الساحة الدولية.
ومن منظور محللين غربيين، فإن تلك المقررات جاءت في أسوأ لحظة سياسية في عهد الأخير. وهذا يفسر تعرّضه لضغوط من نواب حزبه في الكونغرس من أمثال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، بوب مينينديز، الذي طالب بتجميد التعاون مع السعودية، بما في ذلك مبيع الأسلحة، ورئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية للشرق الأوسط في مجلس الشيوخ، السناتور كريس ميرفي، الذي أبدى تأييده لفكرة “إعادة تقييم شامل للتحالف الأميركي مع السعودية”.
وعلى وقع المطالبات بإنهاء “الوضع الخاص” للمملكة في السياسة الخارجية الأميركية، قدّم مجموعة من النواب الديمقراطيين الأميركيين مشروع قانون ينص على سحب جميع القوات من السعودية، إضافة إلى سحب أنظمة الدفاع الصاروخي منها. مواقف النواب المشار إليها تترافق مع عودة الزخم لإمكانية تمرير مشروع قانون “نوبك”، الذي يتيح للقضاء الأميركي النظر في معاقبة الدول المنتجة للنفط بموجب دعاوى احتكار السلعة الاستراتيجية ورفع سعرها، وإن كان الكونغرس غير قادر على سن قوانين جديدة لكونه خارج دورة الانعقاد، في الوقت الراهن قبيل الانتخابات المقبلة في تشرين الثاني/ نوفمبر.
من هذا المنطلق، يطرح محللون أميركيون سؤالًا مفاده: هل يجب أن يلتزم بايدن بسياسته المتمثلة في استمالة السعودية أو السير في اتخاذ إجراءات للرد؟
طعنة لبايدن في الظهر: “حتى أنت يا M.B.S؟”
في العموم، تتقاطع التحليلات الأميركية على أن انحياز السعودية نحو تأييد ما تطالب به موسكو داخل منتدى “أوبك+”، يشكل طعنة في ظهر بايدن، الذي تخلى قبل ثلاثة أشهر فقط عن تعهده الانتخابي بجعل السعودية دولة “منبوذة” للقاء المسؤولين السعوديين، وعلى رأسهم الملك سلمان وولي العهد نجله محمد. وهذا ما أظهره منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، حين قال، إنّ “الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة تقييم علاقتها بالمملكة، بما في ذلك مبيعات الأسلحة”، من خلال التعاون مع الكونغرس، فيما أكدت الخارجية الأميركية أنها تدرس عددًا من التدابير الجوابية بحق السعودية.
المؤكد هو أن سياسات السعودية الراهنة تثبت فشل زيارة بايدن الأخيرة إلى الرياض، وأن العلاقة بين بايدن وابن سلمان “تفتقد للكيمياء” السياسية والشخصية. وحتى الأمس القريب، لم يكن الرئيس بايدن يبدي ندمًا إزاء مصافحة ابن سلمان، وتراجعه عن جعل المملكة “دولة منبوذة”، لحساب مصالح أمن قومي لبلاده تتصل بصورة أساسية برضى الإدارة الديمقراطية عن سلوك سعودي يمضي تدريجيًا نحو الاعتراف بـ “إسرائيل”، والبحث عن مخرج ما للحرب في اليمن، وفق ما تنقل صحيفة “نيويورك تايمز” عن مصادر في البيت الأبيض.
وتشير تلك المصادر، إلى أن توافقات الرياض مع موسكو داخل منتدى “أوبك+”، وتجاهل الضغوط الأميركية عليها لزيادة إنتاج النفط، تبدو كـ “خطوة أخرى على طريق التباعد الاستراتيجي بين الشريكين التاريخيين”. ولتأكيد حقيقة الشرخ أكثر، نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أميركيين قولهم إن آمال السعودية في الحصول على مزيد من الصواريخ الموجهة الأميركية الصنع، “قد تلاشت تقريبًا”.
البدائل المتاحة أمام بايدن
ومع ذلك، لا تبدو إدارة بايدن في وارد الاستعجال بقرار معاقبة السعودية أو اتخاذ إجراء ما ضدها. وتتراوح الخيارات المتاحة أمامها بين سحب المزيد من احتياطي النفط الاستراتيجي، المقدّر حاليًا بنحو 422 مليون برميل، والضغط على الشركات الأميركية لخفض أسعارها في السوق المحلية، أو ربما الاتجاه لتشديد القيود على صادراتها النفطية، وفتح باب الاستكشاف والتنقيب عن النفط في حقول جديدة، إضافة إلى امكانية الانفتاح على دول جديدة منتجة للخام، من بينها فنزويلا، وربما إيران.
وفي حين أن مواصلة السحب من الاحتياطي الاستراتيجي الأميركي لا يبدو بالأمر السهل، مع وصوله إلى أدنى مستوياته خلال أربعة عقود، أي منذ عهد الرئيس الأسبق دونالد ريغان، بعد سحب ما يوازي 180 مليون برميل منذ آذار/ مارس الماضي، فإن تقييد الصادرات النفطية سوف يلحق الضرر بشركاء تجاريين للولايات المتحدة، على رأسهم الاتحاد الأوروبي الذي يحاول تعويض نقص الامدادات الروسية للطاقة من موردين جدد.
وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، ثمة من يطرح سيناريو تفاؤليًا داخل أروقة البيت الأبيض، وهو سيناريو يقوم على السير باتجاه تخفيف العقوبات على إيران وفنزويلا، بالنظر إلى أن ذلك سوف يؤدي إلى توفير أكثر من مليون برميل من النفط يوميًا، مما سيساعد في خفض الأسعار، وقد يتولّد عنه مزاحمة الخام المصدر من الدولتين للنفط الروسي داخل الأسواق الصينية والهندية.
ولدى سؤاله عن احتمال حدوث تغيير في السياسة الأميركية حيال فنزويلا، وتخفيف العقوبات المفروضة عليها، لم ينفِ الرئيس بايدن الأمر، معتبرًا أن بلاده لديها “الكثير من البدائل” للتعامل مع أزمة ارتفاع أسعار الطاقة العالمية. ويتقاطع تصريح الرئيس الأميركي مع ما كشفت عنه صحيفة “وول ستريت جورنال” بخصوص دراسة فريق البيت الأبيض لمقترح يقوم على السماح لشركة “شيفرون” الأميركية باستئناف صادرات النفط الفنزويلي إلى سوق النفط العالمية، مقابل ضمانات من الأخيرة بخصوص استئناف المحادثات مع المعارضة السياسية بشأن الشروط اللازمة لإجراء انتخابات حرة في عام 2024.
وحتى الآن، لا تزال “الإدارة الديمقراطية” تعوّل على الخلافات بين الدول الأعضاء داخل “أوبك+” حول حصص الإنتاج، وتمنّي النفس بأن لا يكون المنتدى قادرًا على إلزام أعضائه بلوغ مستويات التخفيض المقررة، وأن لا يتعدى حجم تخفيض الإنتاج في نهاية المطاف مليون برميل يوميًا في الحد الأقصى، مع توجه دول مثل الكويت إلى زيادة طاقتها الإنتاجية، والتزام أخرى بحصص إنتاجية أقل من طاقتها القصوى في الفترة التي سبقت قمة “أوبك+” الأخيرة.
الدوافع السعودية
وفي كل الأحوال، تتفاوت تفسيرات الخطوة السعودية، المستفزة لمشاعر “الشريك القديم”، وهي تفسيرات بقيت على المستوى الرسمي في إطار دفع الحجج، وعرض الرسوم البيانية على مسؤولي الإدارة الأميركية لتسويق مخاوف الجانب السعودي بشأن احتمال هبوط أسعار النفط إلى ما دون 70 دولارًا، بصورة تنعكس سلبًا على الموازنة والنفقات الحكومية.
ضمن هذا الإطار، يشرح المحلل السعودي علي الشهابي أن الإجراء الذي اتخذته الرياض لخفض الإنتاج يأتي بدافع “الحفاظ على الأسعار ضمن مستويات مقبولة مربحة” لضمان تنفيذ خطط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورؤيته الاقتصادية، مؤكدًا أن الأمر “ليس عملًا عدائيًا تجاه بايدن”.
فمن جهتها، تعتبر الباحثة في قسم أبحاث الخليج داخل “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية”، سينثيا بيانكو، أن “السعوديين شعروا بخيبة أمل إزاء ما تلقوه من إدارة بايدن إثر زيارته إلى المملكة”، معتبرة أنه كان من المنطقي أن يعدلوا نهجهم من جديد، واعتماد استراتيجية مختلفة أكثر تشدّدًا إزاء واشنطن. وتجزم الباحثة في شؤون الخليج أن موافقة الرياض على تقييد حصص الإنتاج يشكل “ضربة مباشرة لبايدن”.
بدورها، تشير الباحثة المتخصصة في سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا، كارين يونغ، إلى أن السعودية تتخوف من واقع الاضطرابات الحاصلة في سوق النفط على وقع الأزمة الأوكرانية، بالتزامن مع مبادرات مقترحة من قبل الغرب تمس سعر النفط، مشيرة إلى أن السعوديين يريدون أن يُظهروا أن دورهم أيضًا في سوق النفط لا زال فاعلًا، ومهمًا. ومن منظور يونغ، فإن ما أقدمت عليه الرياض يعد “خطوة قوية بالتأكيد”، وأن السعوديين “برهنوا أن لديهم القدرة على التحكم بمجريات سوق النفط”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.