نسمع كثيرًا ارشادات وتوجيهات حول قضية تشجيع كرة القدم، وأنه يجب على الجميع التحلي بالروح الرياضية، وتقبل خسارة الفريق الذي يشجعه وينتمي اليه وجدانيًا، وأن الفوز والخسارة ضدان يتناوبان على الفرق والمنتخبات. ولكن هذه القضية اكبر من مجرد توجيهات وارشادات، انها السياسات الخاطئة والمخطط لها ازاء هذه اللعبة، ولأسباب ليس اقلها إلهاء الشعوب بقضايا لا تقع في الاعلى من سلم اولوياتهم، كما جرى في قضية رمل الكولوسيوم في زمن نيرون، وتُصرف الاموال والجهود بفارق كبير وشاسع عن البحث العلمي المتخصص في الامراض، أو في التعليم، او في علاج مشاكل الفقر والازمات وغيره، ناهيك عن توجهات الشركات العملاقة، متعددة الجنسيات، التي تستهويها احجام الارباح التي تحققها، فتذهب بعيدًا في استقطاب المزيد من المراهنين ودافعي الاموال حيث جلهم من الاغبياء الذين يضيعون اموالهم ومستقبلهم، كرمى حذاء لاعب، او بطاقة مميزة أو أي هراء.
ما يجري على الملاعب أو حواليها، امر خطير، يعبر عن فقدان للوعي الفردي والجمعي، واسترسال في عصبيات دونكيشوتية، لا تمت الى حقيقة الوجود الانساني ودوره المفترض بصلة، وكل ذلك في عملية تسطيح معرفي وتجهيل، بغية استغلال الجهل في ابشع صوره، وتحويل الانسان الى عنصر فاعل في الغوغاء، التي تضيع بوصلتها، وتجعله اسير انتماءات لا تغني ولا تسمن من جوع، وليس لها وزن حقيقي.
بالتأكيد لستُ ضد اللعبة، بل احبها، ولطالما لعبتها، ولكن أنطلق من مبدأ التوازن، ووضع الامور في نصابها، والتعاطي معها على انها لعبة للمرح والتسلية والرياضة، بعيدًا عن الشعارات الشعبوية، والخطابات التعصبية، والسلوكات العنصرية والانتماءات اللا عقلائية التي تؤدي الى التقاتل، ومن ثم الى ما لا تُحمد عقباه، كما حصل في اندونيسيا.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو المطلوب منا ازاء هذه القضية؟
المطلوب من الدولة، التي تحترم نفسها، أن تبتعد عن استغلال الفعاليات الرياضية في السياسة، والتعاطي بشفافية وتوازن معها، فلا تجمل قبحها بالبطولات، ولا تسخر من شعبها، بإظهار سياساتها الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها على انها سياسات صائبة، لأن الفريق الوطني فاز بمباراة ما، وبالركلات الترجيحية.
والمطلوب من كل من يهتم بالشأن العام، أن ينتبه لمخاطر تضخيم وتعظيم هذه اللعبة، الى الحد الذي يُصبح فيه الانتماء لها، يضاهي الانتماء للقيم والمثل العليا، والاوطان، حتى يهون القتل لأجلها، في مشهد تراجيدي، يُجرّم القاتل والمقتول.
والمطلوب من كل فرد أن يتوازن، وينظر الى اولوياته، ويركز على دائرة تأثيره، ويبحث عن انتماء يلبي حاجاته الاجتماعية، ويكون على قدر كرامته الانسانية. نعم لا بأس بمتابعة المباريات، ومواكبة البطولات، ولكن هونًا ما، فالفريق الذي نشجعه، ونستميت في النزاعات والكيد لأجله، لا يعرفنا، ولا يهمه امرنا أو أي أمر يخصنا.
الاستغراق والذهاب بعيدًا في الانتماءات الواهمة، يخلق تعصبًا أعمى لا طائل منه، ولا يعرف نتائجه الا الله، و”قليل من التعقل ينجي الانسان من كثيرِ المهالك”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.