“ابراهيم النابلسي”، اسم فلسطينيّ جديد حرّرنا من عقم التحليلات ولا جدوى النقاشات الهامشية المحليّة. حرّرنا من تفاهة الكتائبيين إذا عبر الفتى ساميهم قرّروا الاعتراض على التكليف الإلهي، ومن استعراضية مواقف جنبلاط الأخيرة والتي بدت في ظاهرها انعطافة حادّة اتّخذها ذو الانتينات المشوّشة، وفي باطنها محاولة منه لإيجاد خط رجعة بعدما تأكد من هزيمة آخر مسوّدات المشروع الصهيوني في لبنان والمسمّاة بالحياد.
دخل ابراهيم حياتنا تمامًا كما دخلها قبله باسل الأعرج وأحمد نصر جرار و.. يا إلهي، كثيرة الأسماء، أكثر ممّا نظنّ أن يمكن لحياتنا أن تسع. لكنّهم، الشهداء، تولد أماكنهم فينا. وكذا فعل ابراهيم.
تقول الحكاية إنّ فارسًا نابلسيًا يُدعى ابراهيم استشهد مشتبكًا، وإنّه ملاحقٌ منذ اشتباكه الأوّل، وإنّه يقاتلهم من المسافة صفر، وإنّه لم يتخلّ يومًا عن البارودة، وإنّه يراكم في عينيه غضبه عند تشييع كلّ شهيد، ليحيل الغضب ذخيرة تكفيه لحسمِ المعركة في اشتباكه الأخير. تقول إنّه لا يهابهم، ولا تخيفه كثرتهم ولا يلتفت لثقل عدّتهم العسكرية. وتقول إنّه حين أصيب واصل حربه، وإنّ الرسالة الصوتية التي تركها كانت طلقة من بارودته، وكانت صاروخًا يهزّ كيان الاحتلال، وإنّ كل كلمة فيها هي وصية مكثّفة بالحب وحكاية لشدّة جمال بساطتها تصلح لأن تكون حكاية كلّ فلسطينيّ، وحكاية كلّ فلسطين.
تقول الحكاية باختصار وتكثيف لا يجيده إلّا الشهداء: “انا استشهدت يا شباب
انا بحب إمي
حافظوا عالوطن من بعدي
وبوصيكم بحياة عرضكن ما حدا يترك البارودة
بشرف عرضكن
أنا هيني هلق محاصر
ورايح أستشهد”.
“استشهدت”، يحدّثنا من هناك، ربّما من على بوابة العبور المخصّصة للشهداء. يتحدّث كشهيد وليس كمصاب يُحتضر، شهيد أُتيح له أن ينطق وهو في مهد الشهادة فأتاح لنا أن نسمع يقين الشهداء وأن نفهم تمامًا ما الذي يدور في قلوبهم وهم يتجهون إلى السّماء.
“أنا بحب إمّي”.. رأيناها يا ابراهيم وعرفنا سرّ هذه الجملة التي تبدو بسيطة. عرفنا الأمّ التي أنجبت فارسًا مثلك، وأدركنا أنّه لم يكن من المحتمل أن لا تنال الشهادة وأنت ابن هذا الرحم المبدع في الأمومة وفي العشق الفلسطيني.
“حافظوا عالوطن بعدي”.. الوطن، وهل أجمل من أوطان دم كمثل دمك مهر حريتها؟! هل وطن يسكنك ومن مثلك يضيع، يا أيّها الفلسطينيّ حدّ تعليم الدنيا بأسرها كيف تُحفَظ الأوطان؟!
“وبوصيكم بحياة عرضكن ما حدا يترك البارودة، بشرف عرضكن”.. ما أوضح صوتك يا ابراهيم، ما أوضح نهجك الذي أجدت اختصاره بربط الحفاظ على الوطن بالبارودة وبالشرف.. لم تحتج إلى مقدمات وإلى تعقيدات لغوية لتبثّ وتعرّف ماهية الحفاظ على الوطن وشروط تحقّقها: بارودة وشرف، فبعض البواريد التي تدعي حفاظًا على الوطن ولم تجد في الشرف شرطًا أساسيًا في تحديد وجهتها اغتالت أخًا لك في الشرف الفلسطيني العظيم، نزار بنات، وبعض الشرف تناسى أن البارودة سلاحه ومتى سقط سلاحه يسقط كلّه فتخلّى عن عرضه منذ أن أسقط البارودة. قال الشهيد كلّ هذا وأكثر في جملة واحدة.
“أنا هيني هلق محاصر، ورايح استشهد”، قالها مستئذنًا قبيل العبور، تاركًا في كلّ قلب سمع جمرة لا تنطفئ. قالها وقد أنهي اشتباكه حائزًا على شرف الشهادة برصاصات ملأت صدره وعنقه، ثمّ مضى.. مضى كي لا تنتهي الحكاية، شهيدًا مشتبكًا بعد أن أتقن فنّ الاشتباك وأبدع. عاش البطل مطاردًا يطاردهم بوجهه الناطق غضبًا وثورة وببارودته الحيّة الوفيّة، وعاش مطلوبًا لا يهاب دورياتهم ولا حواجزهم ولا تحرّياتهم في البحث عنه. مضى فاتخذ له في حياتنا حيّزًا لساكن جديد، لمحرِّر جديد، لبطل جديد نحكي عنه بالدمع حينًا وبالعزّة في كلّ حين، بطل فلسطيني اسمه ابراهيم النابلسي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.