استيقظ يوسف على صوت بكاء طفلته ابنة الخمس سنوات. ركض فوجدها واقفةً أمام التلفاز تشاهد مقطعًا من فيلم حصل تشويش على المحطة أثناء عرضه فبقيت صورة ثابتة على مشهد مسلّحين مقنّعين يوجهون أسلحتهم ناحيتها. ما إن رأت البنت والدها حتى قالت له: “بابا قلّهن ما يقوّصوني”. تأمّل يوسف ابنته التي كانت قد تبوّلت في ثيابها من الخوف بعد أن كان قد عمل عشر سنوات حتى استطاع الزواج بوالدتها وإنجابها. وهنا قرّر يوسف أنه لا يريد لابنته أن تعيش طفولة شبيهة بطفولته ولا شبابًا شبيهًا بشبابه ولا حياةً كحياته بالمطلق. جمع ما بقي من أموالٍ لم تسرقها المصارف، باع ما يملك في لبنان، ترك عمله وانتقل للحياة في تركيا. هذه القصة حصلت بعد انفجار المرفأ بشهرين، شهرين راقب يوسف فيهما ابنته التي رافقها الخوف فصارت ترتعب مع كل صوت عالٍ كغلق الباب أو الشباك، كيف لا وهذا حصل مع الكبار حتى؟
أكثر من مائتي عائلةٍ فقدت أعزّاء بانفجار المرفأ. أُصيب الآلاف بأضرار في أجسادهم وأملاكهم ومضاعفات ما زال الكثير يعاني منها حتى اليوم، وآثار نفسيةٍ لا تُحصى أُصيب بها أغلب اللبنانيين لا سيّما سكان بيروت والذين كانوا في مناطق قريبة لحظة انفجار المرفأ.
في غياب الإحصاءات الرسمية والدقيقة، يكفي أن يأخذ الشخص الواقع حوله؛ كم من أقارب وأصحاب ومعارف ودّعنا في العامين المنصرمين من أناسٍ فقدوا حتى القدرة على الشعور بأي أمل بمستقبل أفضل؟ فبعد فشل انتفاضة 17 تشرين وبداية شعور اللبنانيين بإحباط جماعي جاء انفجار المرفأ وما تبعه من عدم تحميل أي أحد المسؤولية بفقدهم لكل أمل بلبنان، فهنا سمعنا بهجرة أشخاص مقابل ألف دولار شهريًّا، وسمعنا بهجرة آخرين إلى بلاد ليست وجهة عمل ولا تضمن مستوى معيشيًّا جيّدًا ولكن أصبح أيّ مكان عندهم أفضل من لبنان.
الكلام عن شهداء المرفأ في الغالب يكون بالأرقام؛ فوق المائتي ضحية، لا يُقال إنه ذهب فوق المائتي حلم وفوق المائتي طموح وفوق المائتي زوج أو أخ أو أخت أو أب أو أم أو صديق أو حبيب، فوق المائتين لم يطلب أحدهم الموت عندما استيقظ ذلك اليوم. كذلك في الهجرة يفقد الأخ أخاه أو أخته أو صديقه أو حبيبه الفقدان الأول ويكتفي بعد ذلك برؤيته مرتين في السنة ثمّ مرة سنويًا ثمّ مرّة كل ثلاث سنوات، وهكذا تمرّ الحياة بين الزيارة والزيارة.
ليس هناك من تعريف واحدٍ لكلمة الوطن. ما هو لبنان؟ هل هو تلك الأراضي الممتدة من شمال فلسطين للساحل السوري ومن البحر الأبيض المتوسط إلى سوريا؟ هل هو الجبل والبحر والرمال والأشجار؟ أم هو أنت وعائلتك وأهلك وأصدقاؤك ومعارفك؟ هو ذلك المجتمع الذي تنتمي أنت إليه، هو ما يضفي روحًا إلى أي بقعة أرض وجدت، فاضطرار اللبنانيين لأن يعيشوا ضمن أسر مفككة وأصدقاء مهجّرين وعلاقات عن بعد وجبرهم على البكاء كلما استقبلوا أو ودّعوا أحدهم هو فكرة مؤلمة جدًا وليست عادلة، وهو ضريبة على اللبنانيين دفعها ضمن خطة الطبقة الحاكمة تهجير الطاقات من أجل بضعة دولارات.
مجتمع ووطن مفكّك يعيش فيه الناس حياتهم وهم يأملون أن يكون ما يصيبهم أمرًا مؤقتًا، وهكذا تمرّ الحياة بهم. من لم يمت بانفجار المرفأ سيموت بغيره، من لم يفقد أعزّاء بهجرة أو موتٍ سيفقدهم يومًا، هي سنّة الحياة في لبنان، تبعاتٌ سنعيشها العمر كله كما عاشها من قبلنا، فتنشأ جالية لبنانية من طاقات ومهارات وعلم ومعرفة لبنان اليوم ليس بالمكان المناسب لها ولا يسعها، فهو يسع فقط أبناء أصحاب الامتيازات روّاد الملاهي الليلية اليوميين، أمّا أولاد عمّال البارحة فعليهم أن يصبحوا مهاجرين اليوم.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.