ما هو المشترك بين مشهد الطوابير على الأفران ووقوف الناس لساعات بانتظار دورهم لشراء ربطة خبز، ومشهد جلوس السفيرة الأميركية في مجلس النواب؟ الإجابة بكلمة واحدة: الذلّ!
صانع الذلّ في المشهدين واحد، وإن كان أكثر وضوحًا في المشهد الثاني الذي حوى بشكل مباشر دوروثي شيا، وليس فقط مجموعة أدواتها المنتخبة داخل المجلس. أما الطوابير في المشهد الأول فتبدو وكأنها نتاج مجموعة صنّاع مختلفين، لكنها في الواقع نتجت عن استخدام أميركا لأداة تدعى حاكمية مصرف لبنان لتمعن في الحصار على اللبنانيين عبر لعب ورقة “الدعم”، وتحويل السلع الأساسية إلى وسيلة ابتزاز للناس، بحيث يبدو البحث في سبب انقطاعها أو تقنينها رحلة من هالك لمالك لقباض الارواح.
في المشهد الأول، قد يختلط صانع الذلّ على الأذهان وتضيع “الطاسة”، في الثاني “الطاسة” بشحمها ولحمها حاضرة وبكامل أناقتها، وخبثها.
بالمقابل، في المشهد الأول، الذلّ واضح وصريح. يقول الأميركي عبر أدواته للناس: قوت يومكم بيدي. أملك ما يكفي من الموظفين والأدوات في بلدكم بحيث أستطيع أن أتحكّم بخبزكم، كما أستطيع أن أمنع حكومتكم من القبول بهبة إيرانية لتشغيل معامل الكهرباء. يريد الأميركي أن يقول للمحاصرين: أنا أحاصركم، وأستخدم لأجل ذلك نفوذي وعصابتي في مؤسساتكم وفي مفاصل حياتكم. لا يحاول الأميركي إنكار ارتكابه للحصار، على العكس، هو يتبجّح بذلك، حتى وإن سخر بعض أدواته من فكرة الحصار وأنكروها، أو قفزوا فوقها لإيجاد مبررات للأميركي وطالبوا بمراضاته والخضوع له عبر التخلّي عن سلاح المقاومة.
وفي المشهد الثاني، الذلّ متوارٍ خلف تخريجات قانونية تتيح لسفيرة دولة أجنبية حضور جلسات مجلس النواب، لكنّه مكشوف أمام أعين كلّ من يجيد التمييز بين الخضوع وبين التحدي، ولا يخضع.
بغض النظر عن كيفية تخريج أسباب حضور شيا إلى مجلس النواب، وعن المبرّرات والضرورات التي دفعت بالحاضرين إلى الرضا بهذا الانتهاك المشهود للسيادة، يبقى هذا الحضور إذلالًا متعمّدًا وموجهًا بشكل خاص إلى أدواتها في المجلس، فقد بدت وكأنها جاءت كي تشرف بنفسها على أدائهم، وكي تقول للبقية: أنا أدير هذه المجموعة، وأنا أتحكّم بكلّ ما يصدر عنها داخل البرلمان. قل بدت أشبه بمدير مشروع قرّر التفرّغ نهارًا كاملًا لمراقبة عمل فريق العاملين تحت إمرته عن كثب، من جهة لعدم ثقته بهم، ومن جهة ليقول لبقية العمال ولا سيّما الأحرار منهم: هؤلاء “بيخصوني” وأنا خصمكم حتى في داخل قاعة مجلسكم النيابي.
في المشهدين ذلّ. في المشهدين انتهاك للسيادة وللكرامة، وفي المشهدين ثمّة من يجاهر بالخضوع ثم يحاضر بالحريّة، ومن يستطيب الانبطاح للأميركي علانية، وثمة منبطح يدين كذبة يردّدها كما لقنه معلّمه، أو معلّمته، “لا للاحتلال الإيراني”!
إن الهدف من الحصار هو ببساطة ابتزاز الناس بمعيشتهم وبحاجاتهم الأساسية من كهرباء ودواء ووقود وخبز. وقد غفل الأميركي عن حقيقة تقول إن الناس، مهما طال وقوفها في طوابير التعذيب على المحطات وعند الأفران ومهما اشتد سوء حالها وهي تبحث عن دواء مفقود أو تساوم “صاحب الاشتراك” على تخفيض طفيف في فاتورة “كهربا الموتير”، ومهما اختنقت تحت وطأة الضغط اليوميّ المتواصل، لن تقايض سلاح المقاومة بالخبز وبغيره، بل قد تذهب في الاتجاه المعاكس لما يريده الأميركي وهو الضغط على الدولة باتجاه القبول بالهبات الإيرانية كخطوة أولى على درب التحرّر الاقتصادي. صحيح أن هذا الخيار لم يتبلور بعد على الصعيد الشعبي، وصحيح أنّ له أثمانًا قد يكون منها الحرب، إلّا أنّه شيئًا فشيئًا يتكشّف أن لا خيار آخر، وهنا يظهر غباء الأميركي وأدواته، أو ربّما وصولهم إلى مرحلة اللاعودة في قرار الحصار.
حضور شيا غير المسبوق إلى مجلس النواب يقع في السياق نفسه، إذ يمكن تفسيره بأن الأميركي يتعمّد التصرّف باستفزاز علنيّ في محاولة لفهم حجم ردّ الفعل المؤسساتي والسياسي على انتهاك واضح وصريح ومهين ومحرِج لا سيّما بالنسبة لرماديي الموقف من السياسة الأميركية في البلد.
شهد لبنان يوم أمس ذلّين متوازيين ومتكاملين؛ أولهما يمسّ الخبز، قوت الفقير الذي لا يملك ثمن البدائل عن الرغيف، وثانيهما يمسّ السيادة، تلك التي لا يعرف معناها إلّا من اعتاد بذل دمه كي لا يخضع.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.