حتى الأمس القريب، كان الشذوذ موضوعًا يتداوله الناس همسًا، يتحدثون عنه كعلّة أصابت فردًا، وكمصيبة ألمّت بعائلة. حتى في المجتمع الغربي، حيث التركيبة الاجتماعية القائمة غالبًا على الفردانية، مع وحود استثناءات متفرّقة طبعًا، شكّل الشذوذ على مدى زمني طويل وصمة لفاعله، أو للمصاب به، قبل أن يصبح “حالة طبيعية” ينبغي للأسوياء تقبّلها والعيش معها، برضاهم أو بعكسه.
بعيدًا عن البحث في أسباب حالات الشذوذ وفي كونها نتاج اضطرابات نفسية أو سلوكية أو جسدية، أو هي “خيارات شخصية” على حدّ تعبير الدّاعين لتشريعها مجتمعيًا، النقاش اليوم ليس في سبب العلّة بل في انعكاساتها ومظاهرها وتأثيراتها السلبية على المجتمع. على سبيل المثال، إذا أصيب شخص بعلّة تجعله يعضّ المارّة في الشارع، أو كان العضّ خيارًا شخصيًا واعيًا يقوم به عن سبق الإصرار، الأولوية تكون حكمًا لمنعه من النزول إلى الشارع وبعدها البحث في دوافعه، علاجها إن كانت مرضية، ومحاسبته عليها أقلّه بإجباره عن الكفّ عنها إن لم تكن. المثال منطقيّ إذا ما اعتبرنا أن تشريع الشذوذ مجتمعيًا هو عمليًا السماح للشاذين بممارسة “عضّ” نفوس الأسوياء، وبالتالي إرباك فطرتهم الطبيعية.
ما يجري في لبنان، اليوم، وفي عزّ الأزمة الاقتصادية وانعدام الأمان الاجتماعي، هو استيراد موجّه لحالة تشريع الشذوذ التي دخلت إلى المناهج التربوية وإلى الفيديوهات التعليمية واتخذت حيّزًا كبيرًا من التربية التي يتلقاها الطفل وبلغت حدّ منع الأهل من التحدّث عن الهوية الجنسية التي ولد بها أبناؤهم (ذكر/أنثى) واعتبار الأمر إكراهًا على اختيار النمط الجنسي الذي يريد الطفل العيش فيه.
الموضوع محلّ الجدل في أوروبا عمومًا وفي فرنسا بشكل خاص انتقل إلى لبنان، بطبيعة الأحوال، على شكل اعتراضات “نيابية” على منع نشاط علنيّ للشاذّين بقرار من وزارة الداخلية. وشكّل الأمر مدخلًا ليدلي الكثيرون بدلوهم في هذا الشأن.
فجأة، خلا لبنان من الأزمات، ولم يعد لدى “التغييريين” همّ يوازي أهميّة تغيير المجتمع الرافض للشذوذ وجعله مجتمعًا يرضى، فوق كلّ علاته، وتقبّل السقوط الأخلاقي الذي يمسّ حتى بفطرة الإنسان الأولى وبطبيعته التي خُلق عليها.
ومن هنا، يُعتبر الموضوع بالنسبة إليهم بابًا للتعرّض للأديان التي تحرّم الشذوذ وللقوانين التي تجرّمه. وبالتالي يصبح شعار تشريعه قضية يناضل لأجلها من اعتادوا النضال في أقفاص القضايا المستوردة، والشعارات المكتوبة على قصاصات تُدسّ في جيوبهم في سفارات التخريب.
في الحالة اللبنانية، قد تنشط هذه المجموعات بشكل خاص لعدة أسباب، منها ضرب العصفورين بحجر واحد؛ ففي لبنان شكّلت البيئة الاجتماعية المحافظة ترابًا خصبًا تنمو فيه الحالة الملتزمة أخلاقيًا وإنسانيًا والتي حكمًا تشكّل حالة مقاومة لكلّ احتلال أو اجتياح، عسكري أو أخلاقي. ولذلك ليس غريبًا أن يكون مروّجو الشذوذ هم أنفسهم المناهضين لسلاح المقاومة، فالأخلاق لا تتجزّأ، ولا يمكن للمرء أن يكون صاحب أخلاقيات محترمة في مسألة مجتمعية، وفاقدًا لها في مسألة وطنية.
ومن أسباب نشاطها في لبنان أيضًا، طبيعة المجتمع اللبناني وتناقضاته الجذرية، ما يجعله مجتمعًا من السهل اختراقه. وقد شهدنا ما بعد الحرب الأهلية أي منذ تسعينيات القرن الماضي الكثير من الاختراقات التي حقّقت تغييرات أساسية في طبيعة المجتمع الذي كان بغالبيته على سبيل المثال يجرّم العلاقات الجنسية قبل الزواج والمساكنة وغيرها مما كان يصنّف بالوصمة وتحوّل مع الوقت إلى معيار يُقاس به “تحضّر” المرء، والدليل على ذلك هو اتهام البيئات المحافظة بالتخلّف، واتهام الأفراد الذين يمارسون حرّيتهم الشخصية بعدم الخضوع للمعايير الحضارية الممسوخة بالتحجّر، بل وحتى اعتبار الالتزام الديني ظاهرة تمسّ بوجه لبنان الحضاري.
السبب الثالث الذي يجعل محاولة تطبيع الشذوذ في المجتمع اللبناني حاضرة اليوم هو غرق هذا المجتمع في أزمته المعيشية، بحيث تصبح الأرض الاجتماعية أكثر قابلية للانزلاق وترتفع إمكانية تورّط الأفراد في الآفات الاجتماعية ومنها المخدّرات والدعارة. الشذوذ لا يختلف عن هذه الآفات بشيء، وبالتالي إمكانية تنشيطه مرتفعة أكثر في ظلّ الأزمات.
الأولوية اليوم ليست فقط في منع النشاطات العلنية للشاذين، إنّما في التحصين الفردي والمجتمعي والذي صار يُسمى في الغرب “رهاب المثلية” ويُجرّم باعتباره معاداة للحرية الفردية. والتحصين يبدأ عمليًا في رفض الفردانية كنمط اجتماعي، وبتعزيز التربية السلوكية السويّة على مختلف المستويات، وبالتوعية المضادّة والفعّالة والحازمة ضد الآفة التي نشهد اليوم انتقالها من مرحلة “التابو” إلى مرحلة “وجهة النظر”.
يختلف الناس كثيرًا في تحديد مفهوم ومعايير الحرية الشخصية. وفي لبنان، وإن بلغنا من السوء الأخلاقي ما جعل الجاسوسية والعمالة حريّة تعبير مصانة، لا يمكن السماح بالذهاب إلى الدرك الأسفل واعتبار الشذوذ الذي يطاول كلّ طبيعة الإنسان قضية حرية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.