من جديد، يعود ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان، و”إسرائيل” إلى دائرة الضوء. النزاع البحري حول منطقة تقدّر مساحتها بنحو 860 كيلومترًا مربعًا، متشعب عن صراع وجودي أشمل، يبدأ بسجل دموي كبير لدولة الاحتلال، ولا ينتهي بنزاعات الحدود في البر والبحر، وسط سياسة فرض أمر واقع “إسرائيلي” على مساحات من المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة المتنازع عليها مع لبنان. وهو واقع لا تعترف به “الأمم المتحدة”، كونه يتعارض مع القواعد المعمول بها دوليًا، لا سيما اتفاقية قانون البحار، غير الموقعة من حكومة الاحتلال. وتحمل زيارة الوسيط الأميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، عاموس هوكشتاين، إلى بيروت، والتي أعقبت مواقف عالية السقف سواء من جانب المقاومة، أو من الجانب “الإسرائيلي”، دلالات على اقتراب مسار النزاع من الانفجار الوشيك، في حال استمر الصهاينة في رفض الحلول الدبلوماسية المقترحة، بما ينسجم مع الحقوق التي يطالب لها الجانب اللبناني.
وعلى العموم، بات واضحًا من خلال مسار المفاوضات التي تديرها واشنطن منذ ما يناهز العقد، أن مقاربة الولايات المتحدة للملف تنحاز إلى مراعاة خاطر “الإسرائيليين”، الذين بدأوا استخراج الغاز من حقل “تامار”، الواقع شمال فلسطين المحتلة منذ العام 2013، ويواصلون جهودهم لقضم أكبر قدر من المنطقة البحرية المتنازع عليها مع لبنان، وهو ما تجلّى من خلال مهمة سفينة التنقيب اليونانية في حقل كاريش مؤخرًا. وفي الوقت نفسه، تميل واشنطن إلى لجم الاندفاعة اللبنانية للرد على سياسات الجانب “الإسرائيلي”، من خلال مسكّنات، تارة تأخذ شكل “دبلوماسية حالمة” لا تؤتي ثمارها على أرض الواقع، أو “وعودًا بمنافع” لم تتحقق، كالوعود المتعلقة بمسألتي تزويد لبنان بالغاز المصري، والكهرباء الأردنية. لذلك، لم تغادر جهود الوساطة الأميركية على مدى السنوات الماضية حيّز “تقطيع الوقت”. وحتى حين كان يخرج علينا جهابذة الدبلوماسية الأميركية بحلول أو مقترحات، فإنها غالبًا ما كانت تتجاهل المطالب اللبنانية، تعطي لـ “إسرائيل”، ما ليس لها، كما هو الحال مع الخط الي اقترحه المبعوث الأميركي السابق، فريدريك هوف، الذي رفضه لبنان.
وعن المقاربة الأميركية لترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع فلسطين المحتلة، يجزم محللون غربيون برغبة واشنطن في تسوية دبلوماسية للنزاع، بالنظر إلى أن الأمر سوف يعد إنجازًا لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يواجه تراجعًا في شعبيته، ويتخوف من ارتدادات ذلك على وضع الحزب “الديمقراطي” في انتخابات التجديد النصفي المقبلة للكونغرس في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل . وما يعزز هذه الرغبة، وفق هؤلاء، هو حالة المراوحة في ملف “عملية السلام”، بصورة تحثه على البناء على مكتسبات إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لتعزيز سجل إنجازاته الخارجية، سواء لناحية ضم دول عربية جديدة إلى صفوف التطبيع مع “إسرائيل”، ضمن ما عرف بـ “اتفاقات أبراهام”، أو لناحية عقد محادثات لبنانية – إسرائيلية كسرت الجانب المألوف عن هذه المحادثات، خصوصًا وأنها تضمنت البحث في قضايا ثنائية لا تتعلق بالجانب العسكري كما درجت العادة في اجتماعات الناقورة بوساطة الأمم المتحدة. وانطلاقًا من الجولات الماراتونية للدبلوماسيين الأميركيين بين لبنان و”إسرائيل” لإيجاد تسوية بشأن ملف الغاز، يرى هؤلاء أن توصل الجانبين إلى اتفاق في هذا الخصوص من شأنه أن ينعكس إيجابًا على الهيبة الأميركية، ويعطي مؤشرًا على استمرار انخراط واشنطن الفاعل في الشرق الأوسط، في ظل تصاعد الحديث عن انكفائها عنه.
في هذا الإطار، يعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، روبرت رايبل، أن “الولايات المتحدة استفادت ببراعة شديدة من مناخ التوتر المتصاعد في المنطقة، وتصاعد مخاطر حرب إقليمية (في الشرق الأوسط)، إلى جانب رهاناتها على الديناميات الاقتصادية والسياسية الدقيقة والمعقدة للمنطقة، بغية التوصل إلى فتح قناة دبلوماسية بصمت ورويّة، مع “إسرائيل” ولبنان”.
ويذكّر رايبل، بمجريات جلسة المحادثات غير المباشرة بين الوفدين اللبناني و”الإسرائيلي” بشأن المناطق البحرية المتنازع عليها، أواخر عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، مشيرًا إلى “ظهور مشكلتين” في خضم المحادثات، الأولى تتعلق برغبة لبنان في حسم ملف الترسيم الحدودي مع “إسرائيل”، برًا وبحرًا، من جهة، وإصرار تل أبيب على حصر المفاوضات بالحدود البحرية، من جهة أخرى، فيما تتعلق الثانية بمحاولة الجانب اللبناني منح الدور الأكبر في رعاية المفاوضات للأمم المتحدة، الأمر الذي رفضته “إسرائيل” مفضّلة الوساطة الأميركية.
وبحسب رايبل، فإن التوصل إلى اتفاق بين لبنان و”إسرائيل” لترسيم الحدود البحرية، يشكل “إنجازًا للسياسة الخارجية” الأميركية، فضلًا عن “تخفيض مخاطر وقوع حرب مدمرة إلى حدودها الدنيا”. ويضيف رايبل أن اتفاقًا من هذا النوع، من شأنه أن يفضي إما إلى “اتفاقية موازية حول الحدود البرية” على المدى البعيد، أو “توفير حافز حاسم للطرفين للحفاظ على الهدوء على تلك الحدود”.
بدوره، ينظر السفير الأميركي السابق لدى “إسرائيل”، دان شابيرو، إلى أن عودة الزخم للمسار التفاوضي بين اللبنانيين و”الإسرائيليين”، بوساطة مبعوث بلاده للمفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية، عاموس هوكشتاين، على أنها “ثمار دبلوماسية حان قطافها”، معتبرًا أن التوصل إلى اتفاق سوف يعد “مكسبًا لكلا الطرفين، وفق صيغة رابح- رابح”.
وينفي شابيرو أن تكون المسائل التقنية، المتعلقة برؤية كل طرف لخط الحدود الخاص به، لافتًا إلى وجود “عقبة سياسية، تتعلق بعدم استعداد حزب الله لإعطاء موافقته” على المحادثات مع تل أبيب لكونها تنطوي على اعتراف بـ “إسرائيل”، وفق تعبيره.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.