صيف العام ١٩٧٦ ولم أكد قد بلغت الحلم، كان أول عهد لي بالسلاح أنا وشلة الشغب رفاق الطفولة والصبا في قريتنا الحبيبة كوثرية السياد. وأغرب ما في الأمر أن أهلنا الذين هربوا بنا من قذائف وقناصي الكتائب وتركوا منزلنا القريب من كنيسة مار ميخائيل في حي ماضي – الشياح، هم الذين شجعونا على الذهاب إلى دورة لمحو الأمية العسكرية التي أقامتها حركة المحرومين في كل قرى جبل عامل والبقاع وهدفت إلى تعليم كل المحرومين من عمر ١٠ وحتى الـ ٦٠ عاماً على حمل السلاح للدفاع عن النفس بوجه الصهيونية وعملائها. وكانت هذه العملية التدريبية الأولية بداية غرس مشروع سيخرج لاحقاً عام ١٩٨٢ وستذل على يده “إسرائيل”.
طلب منا التجمع في منزل أحد أقاربنا في القرية من مؤسسي حركة المحرومين. وفرحت أنا الصبي الذي لم يكن قد تعدى السنوات العشرة من عمره كثيراً لعقد هذا الاجتماع في منزل كنت قد تشرفت فيه قبل سنتين بالسلام على الامام المغيب السيد موسى الصدر الذي سر كثيراً عندما عرف من قريبنا انني اتكلم الفرنسية جيداً بحكم دراستي الابتدائية في “مدرسة الفرير”. اختبرني بلغة فرنسية طليقة وعندما سمع ردودي فرح كثيراً ثم قبل رأسي قائلاً لصاحب المنزل “جميل جداً أن يتعلم هؤلاء الصغار تعليماً جيداً ويصبحوا دكاترة ومهندسين في المستقبل”.
بقيت هذه الكلمة حتى اليوم حافزاً لي للعلم والتعلم، وفهمت بعد سنوات طويلة معنى فرح السيد موسى الصدر بإتقان طفل شيعي صغير للغة الفرنسية.
ولكن مع حلول العام ١٩٧٥حالت العربدة الصهيونية مدعومة بعملائها في الداخل دون تعلمنا وجعلتني وأقراني مهجرين وابعدتنا مؤقتاً عن مدارسنا وتعليمنا الجيد الذي كان سينتج لمجتمعنا دكاترة ومهندسين وكفاءات ترفع قليلاً من حرمانه المزمن وتجاهله من قبل المستعمر سابقاً والحاكم لاحقا.
ونتيجة لأحداث عديدة وبدء الصهاينة لعربداتهم في الجنوب اللبناني كان لا بد من حماية الناس والمجتمع المقاوم فكان الحل بتدريب الجميع على السلاح.
ولهذا السبب تجمعنا في المنزل المذكور وذهب الأكبر سناً إلى منزل آخر.
دخل علينا شخص مبتسم خفيف الشعر ذو لحية سوداء موشاة ببعض شيب يرتدي نظارتين تشعرانك بأنك في حضرة طبيب، وقال لنا “سلام عليكم” بلغة عربية مطعمة بلحن قريب من لكنة السيد موسى الصدر تميزها ابتسامته التي تشعرك أنت الطفل الذي لا عهد لك بالسلاح بالاطمئنان، ثم سألنا عن أسمائنا واحداً واحداً، وكنا نقارب العشرين. ولاحظت وقتها أنه رغم عدم تدوينه لأي اسم على الورق فقد حفظ من الجلسة الأولى اكثر من نصف الأسماء.
كان الدرس عن بندقية “السيمينوف” الروسية، وكان ذلك أول عهدي وعهد أغلبنا بالسلاح. انتهت جلسة الفك والتركيب وتعريف المواصفات ثم انتقلت إلى شيء آخر حيث سألنا المدرب بحنو مرفقاً بابتسامة تحمل حنان العالم كله، عمن يصلي فكان الرد بالإجماع. ثم اختار عشوائياً بعض الرفاق واختبرهم ببعض الأسئلة للتأكد من صحة ادعائنا، وعندما تأكد أننا نعرف الصلاة كلنا فرح وأنهى الجلسة صارفاً شلة الشغب ومسلماً على الجميع فرداً فرداً مع قبلة على الجبين حيث تخيلت عندما جاء دوري أنني أعود سنتين إلى الوراء وأحس بنفس حنو القبلة التي طبعها على جبيني الامام الصدر وكأن القبلتين توأمان. سألت عن هذا المدرب فقيل لي اسمه الحاج مصطفى، دون تفاصيل أخرى.
بقيت صورته وابتسامته معلقة بذهني لأنه تم تكليف مدرب آخر باستكمال تعليمنا. وعرفت لاحقاً أن هذه كانت طريقة الشهيد شمران في افتتاح هذه الدورات العسكرية البسيطة حيث يختار صفاً بشكل عشوائي ويتولى هو بنفسه إعطاءه الدرس الأول.
بعد سنوات أشرقت شمس الثورة الاسلامية في إيران فاكتشفت من هو الذي تشرفت في حضرته بأول درس لي في حياتي على السلاح، كان مدرب “السيمينوف” هو الشهيد السعيد مصطفى شمران الشخصية المحورية في تأسيس المقاومة في لبنان وأحد المشاركين في تأسيس الحرس الثوري في إيران. فسلام عليك يا أستاذي ومدربي الأول يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حياً.
- مقطع من كتاب “حي ماضي… قصة بداية”، الذي يعمل عليه الكاتب وسيصدر قريباً.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.