باريس | إيليا ضاهر – خاص الناشر |
تأهّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومنافسته مرشحة اليمين المتطرّف مارين لوبان، إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بعد أن بيّنت النتائج الأولية غير الرسمية للجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية حصول ماكرون على 28.5%، ومارين لوبان 23.6% من أصوات الناخبين. ومن غير المرجّح أن تتغيّر هذه النتائج في جوهرها عن النتائج الرسمية المرتقب صدورها قريبًا.
من حيث النتائج السياسية لهذه الانتخابات، فإن المشهد الانتخابي عمومًا وفي فرنسا خصوصًا عودنا على استكمال مثل هذه النتائج بإعلان نوايا عن تحالفات أو دعوات انتخاب لصالح أحد الفائزيْن أو ضده أو ترك الحرية للأتباع في ذلك. المواقف المعلنة من المرشحين الذين لم ينجحوا في الفوز للدور الثاني لم تفاجئ أحدًا، لا المتابعين و لا عامة الشارع الفرنسي، غير أن أهم ما جاء فيها هو أن مرشّح اليمين المتطرّف إريك زيمور، الحائز على 7.1% من الأصوات، يدعو لانتخاب مارين لوبان. فيما دعا مرشّح “فرنسا غير الخاضعة”، جان لوك ميلانشون، الحاصل على 20.2% من الأصوات، أتباعه إلى عدم إعطاء صوت واحد للوبان، وهذا يعني تخييرهم بين الامتناع عن التصويت في الدور الثاني، أو التصويت لهزم لوبان، أي لصالح ماكرون.
الدور الثاني والتصويت الأجدى
أتت نتائج الدور الأول لهذه الانتخابات حاسمة في المدى المحسوب والمنظور إلى درجة تجعل انتظار نتائج الدور الثاني مرهونة بعوامل ليست في حيطة المتابع للمشهد السياسي في الغرب عمومًا وفي فرنسا على وجه الخصوص، وفي شقه الانتخابي للرئاسيات بوجه أخص، هذا لكي نحتاط ولا نجزم بعبثية مثل هذا الانتظار. ما الذي يدعو إلى قول مثل هذا خاصة أن النتائج تفتح بابًا واسعًا للتصويت الأجدى أو الأفيَد le vote utile؟
التصويت الأجدى (ولنصطلح على هذه الترجمة) مفهوم سياسي متعلّق بالعملية الانتخابية المفتوحة غير المحسومة، والذي يمكن تعريفه، إضافة إلى خاصتي الانفتاح وعدم الحسم، بمنطقه العملي وشكله الاجرائي، وهو: (بدل أن تختار مرشحًا يظهر لك عدم فوزه، عليك أن تختار مرشحًا آخر يمكن لفوزه أن يحقق لك ما ترجوه من اقتراعك، بلا اعتبار لكون الأول من ضفتك أو ذاك الآخر من ضفة مقابلة).
لا حاجة للتوقف عند معيار “الظهور” والذي بموجبه تقوم بهذه العملية التفضيلية على غير العادة، لكن يكفي القول فيه إن مثل هذا الظهور وقدرة الناخب على تبيّنه والوصول إليه يزداد قوة كلما كانت الانتخابات قريبة جدًا من مصالح الناخب ومطالبه وتطلعاته الآنية من جهة، ومن جهة أخرى بعيدة عن مركز خياراته التي تقع في عمق منظومة قيمه وتطلعاته البعيدة المتجاوزة في أهميتها ورهاناتها سقفَ المطالب الشخصية أو الفئوية الآنية.
منهجيًا، وجب التنبيه إلى أن الحالة موضع التحليل هنا، لا حديث لنا فيها عن انتخابات أخرى تكون فيها الموازنة والترجيح لدى الناخب كما بيّناه أعلاه.
لم يدخل التصويت الأجدى كما عرّفناه واصطلحنا عليه سابقًا كمعيار عملي في السلوك الانتخابي المتعلق بالانتخابات الرئاسية، إلا بعد أن أصبحت العملية الانتخابية مرقوبة النتيجة الأبرز (الفائز بالرئاسة، ولأن هناك نتائج أخرى ليست مجال حديثنا هنا)، وذلك لعامل مهم وهو القدرة على الالتفاف على سوسيولوجية الناخبين من خلال الاشتغال على سوسيولوجية المرشحين.
تحولات السوسيولوجيا الانتخابية في فرنسا
تاريخيًا، ومنذ بداية الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي بزعامة روسيا السوفياتية والولايات المتحدة الأميركية، مثّلت فرنسا أحد أهم المجالات الجغرافية لهذه الحرب لأجل عوامل كثيرة لعل أبرزها مكانة فرنسا التاريخية والفكرية، ولعل المشهد الفكري الفرنسي وغناه وتنوّعه ماثل لدى أغلب من له إحاطة، ولو موجزة، بتاريخ الفكر المعاصر وصراع الأفكار في الغرب.
هنا، لا يمكننا إلا أن نحيل إلى أهم كتاب في الموضوع بنظرنا، تُرجم وطبع في لبنان، وهو كتاب “من الذي دفع للزمار. الحرب الباردة الثقافية”، تأليف ف. س. سوندرز، (ترجمة طلعت الشايب، المركز القومي للترجمة).
أدى الاشتغال على “المجتمع المدني” الفرنسي (المصطلح من نحت عقول نخب الضفة الشرقية الأميركية التي مثلت بحق الطلائع المقاتلة في المخابرات المركزية الأميركية أثناء الحرب الباردة )، إلى نجاح الماكينة الأميركية بالتأسيس ليسار غير شيوعي (نقابة القوة العمالية Force Ouvrière التي انشقت عن النقابة الأم الشيوعية Confederation Générale du Travail-CGT، وكذا طلائع الاشتراكيين ممثلة في الفرع الفرنسي للأممية العمالية Section Française de l’Internationale Ouvrière- SFIO). بعد هذا، انتقلت إلى الاشتغال على اليسار ذاته لجذبه إلى وسط النظام السياسي وأخذه إلى مرابض الديمقراطية الاجتماعية (مثّل التحول الذي حدث في سياسة الحزب الاشتراكي بزعامة فرانسوا ميتران سنة 1983 علامة فارقة لهذا الانزياح).
عندما انحسمت الخيارات السياسية لتوجيه سياسة البلاد وتم الاطمئنان إلى الطاقم السياسي الذي استلم العملية السياسية، انتقلت الماكينة الأميركية إلى الدخول على خط انتقاء من يحق لهم التنافس على رئاسة الجمهورية، وبدأ هذا جليًا مع عهدة ساركوزي.
ليس من الضروري العودة في ما يخصّ انتخاب ساركوزي، إلا إلى الظرف الدقيق الذي وصل فيه إلى قمة السلطة في عز الهجمة الأميركية على ما تبقى من فرنسا التي وقفت في وجه الولايات المتحدة إبان غزو العراق عام 2003، ثم عادت واستدارت لتدخل دار الطاعة في قمة نورماندي عام 2004 (راجع كتاب ريشار لابيفيير: الارتداد الكبير: من بغداد إلى بيروت Richard Labévière, Le Grand retournement: Baghdad-Beyrouth, Le Seuil éd).
ساركوزي ما كان له أن يفوز أمام وزير خارجية شيراك، دومينيك دو فيلبان، الذي قاد حركة شق عصا الطاعة دبلوماسيًّا في وجه الولايات المتحدة عام 2003، إلا بإقصاء هذا الأخير بتواطؤ الديمقراطية الاجتماعية التي ورثت الحزب الاشتراكي الذي تشكل مع ميتران تحت العين الأميركية.
بعد عهد ساركوزي وانحسار المحافظين الجدد، كان يجب الانتقال إلى داخل البيت الاشتراكي، الذي كان قد تحوّل من الديمقراطية الاجتماعية الى الليبرالية مع جلباب اجتماعي مثله انتخاب فرانسوا هولاند، زوج سيغولين روايال، التي وضعت في قبالة ساركوزي في انتخابات 2007.
في عهد هولاند أصبحت فرنسا محمية أميركية، فتحت مغالقها الأمنية ووضعتها في تصرف قوى داخلية وأجنبية كانت تريد موقع فرنسا في اللعبة الدولية ومقتضياتها المرحلية (الربيع العربي، الحرب على سورية بوجه الخصوص)، ليتم تحضير ماكرون برعاية سياسية من هولاند الذي أدخله إلى قصر الإيليزيه بعد أن شل الحزب الاشتراكي ليجعل من كوادره رافعة للبرنامج الماكروني.
عودة إلى اللعبة الانتخابية
يتبيّن لنا من هذا كله عدة قضايا نراها حقائق حاكمة على المشهد السياسي الفرنسي حاليًا.
1 – منذ 2002، نجحت المنظومة التي أصبحت ممسكة بمقاليد فرنسا، من السياسة الخارجية إلى سياسة الأجور والتقاعد، في اختيار مَن ينافس مرشحها الذي تختاره سلفًا.
- في 2007، سيغولين روايال (الحزب الاشتراكي)
- في 2012، نيكولا ساركوزي (الرئيس المنتهية عهدته)
- في 2017، مارين لوبان (الجبهة الوطنية آنذاك)
- في 2022 مارين لوبان مرة ثانية (وأخيرة)
2 – نجاح “النظام” في تأمين فوز مرشحه ببوليصة تأمين خلفية بأن يصل في المرتبة الثالثة من لن يعطي أصوات ناخبيه لخصم مرشح النظام.
- في 2007، فرانسوا بايرو (وسط يميني)، خصم سيغولين روايال
- في 2012، مارين لوبان
- في 2017، ميلانشون
- في 2022، ميلانشون
لهذا، وبالعودة إلى مفهوم التصويت الأجدى، تجب ملاحظة مهمة حول السياق الصحيح الذي يجب أن يوضع فيه في نظرنا. فكونه تصويتًا يجعله في قلب اللعبة الانتخابية أوّلًا و أخيرًا، وهو بهذا يؤمّن بالمنظور الاجتماعي السياسي للعملية الانتخابية ضمانة نفسية لمن يؤمن بحرية الاختيار والتصويت الشعبي وما إلى هذا وذاك، الأمر الذي يحتاجه النظام السياسي لإضفاء كساء الشرعية الشعبية على اللعبة الانتخابية التي يسميها الديمقراطية. لهذا أيضًا، وجب أن نفكك نهائيًا الترادف أو المساواة والتساوق (الذي يضيف على ادّعاء صدق المساواة حيثية الصدق لهذا المدعى): الحرية من جهة والديمقراطية من جهة ثانية، والقول إن الديمقراطية من البنى الفوقية للنظم الليبرالية الاستغلالية.
الذي يعرف المشهد السياسي الاجتماعي عن قرب يعرف أنه لا مارين لوبان ولا ميلانشون يؤمنان بحظ في الفوز، لأن اللعبة كلها تتلخّص في اختيار مَن يقبل بالمشاركة في تمثيلية الانتخابات.
صحيح أن ميلانشون له ميزات شخصية تجعله الأقدر على شغل منصب رئيس دولة وشعب فرنسا لكن لعبه –إن جاز التعبير- “له سقف” من تحت (الطواقم السياسية التي تمثل ارتكازه في العمل السياسي) ومن فوق (ممنوع أميركيًا وصهيونيًا، يعني فيتو مزدوج عليه).
ما هو دور إيريك زمور في هذه الانتخابات؟
يمكن اختصار هذا الدور في نقطتين:
1 – عرض استحواذ عام OPA على المكون اليهودي في فرنسا والانتقال به (الأصح الرجوع به) من ثقافة المظلومية لليسار اليهودي التاريخي ونتائجها السياسية (إيجاد التعاطف مع كل المظلوميات ومنها الفلسطينية! يطول شرحه وتشريحه من الناحية الاجتماعية السياسية) إلى يمين وطني متجذر في انتمائه الفرنسي مدافع عن “الهوية الحضارية” الفرنسية في وجه “الخطر الإسلامي- العربي”.
2 – عرض استحواذ عام OPA على اليمين واليمين المتطرف في فرنسا، وهو ما يهمنا هنا.
هذه النقطة تحتاج لتحليل قد يطول لكن وباختصار:
- التخلّص من حصان طروادة انتهت صلاحيته وهو حزب مارين لوبان، أبًا وبنتًا.
- الاستحواذ على قاعدتها الانتخابية من خلال خطاب استقطابي أشد تطرفًا يهدف إلى وضع أفكار اليمين القديم في وسط الرقعة السياسية (حركة أفكار لا أحزاب، داخل المجتمع) وعقد تحالفات مع جيل جديد يرى فيها زعيمة لا تستطيع تحقيق الفوز “التاريخي” للانتقال إلى تنفيذ برنامج “الثورة الوطنية”.
- عقد تحالفات على قاعدة الخيار الحضاري وفي قلبه خيار الحضارة اليهودية المسيحية la civilisation judéo-chrétienne، وهذا الشق من الاشتغال تكفلت به دوائر تابعة للمجامع الصهيونية (المسيحية منها واليهودية، والإسلامية) وشبكات ستيف بانون Steve Bannon Réseaux، التي نزلت إلى أوروبا باكرًا (مع بدايات ما بعد هزيمة ساركوزي وظهور إمكانية بديل أميركي عن المحافظين الجدد كمرحلة انتقالية والذي تجسّد في الغرب في ثلاثية: بريكسيت/بريطانيا – ترامب/الولايات المتحدة – فرانسوا فيون/فرنسا).
دعوة إيريك زمور لانتخاب مارين لوبان، مع علم الجميع بخسارته، هو استكمال للتحكم بعملية الاستحواذ هذه.
الدور الثاني و”العقد الجمهوري”
ما هو “العقد الجمهوري” ودوره في الحياة السياسية الفرنسية؟
1 – الجماعات الوظيفية اليهودية المتمثلة لها ركيزتان:
- الظاهرة: المجلس التمثيلي للمؤسسات (اليهودية) في فرنسا Le Conseil Representatif des Institutions ( juives) en France CRIF
- الباطنة: الماسونية اليهودية الخاصة المتمثلة في مجمع أبناء العهد بناي بريث Bnai Brith بالعبرية.
2 – ما هو “العقد الجمهوري”؟: هو “صحيفة” يهود الباطن التي طلب فيها من كل زعامات وممثلي الأحزاب الفرنسية المتشبثة بصفتها الجمهورية (جمهورية النظام على أسس ومبادئ الثورة الفرنسية) الالتزام به ويمكن اختصاره في بند تتفرع عنه باقي بنوده: الالتزام والتعهد بعدم التحالف مع “اليمين المتطرف” والدعوة إلى هزيمته كلما استدعت الضرورة.
هذا الميثاق ظهر بعد تقدم اليمين المتطرف في انتخابات 2002 (جاك شيراك ضد جون ماري لوبان، والد مارين) ولم يسمح باستثناء فيه إلا هذه السنة مع ظهور إريك زمور (الزعيم السياسي الجديد للمسيحية الصهيونية) ضمن تركيبة اليمين المتطرف. لكن هذا الاستثناء سيعود للسريان منذ هذا المساء بحق باقي القطيع السياسي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.