باختصار: طبول الحرب تُقرَع، تعزّزها تصريحات وتصريحات مضادة تتصاعد لهجتها من هنا وهناك، معطوفة على مناورات وتحرّكات ميدانية على الأرض، توحي بأنّ ساعة الحقيقة اقتربت.
على حافة الحرب يبدو العالم هذه الأيام، على خلفية الأزمة الأوكرانية التي وصلت إلى أوجها على ما يبدو، على وقع اتهامات وتهديدات متبادلة، واستنفار بلغ الذروة.
لعلّ المؤشر الأسطع على ذلك يتمثّل بنشر روسيا نحو 100 ألف جندي روسي على الحدود مع أوكرانيا، فيما أرسلت بريطانيا أسلحة دفاعية إلى كييف، فيما أعلنت السفارة الأميركية في كييف عن وصول الدفعة الأولى من المساعدات العسكرية الأميركية الجديدة إلى أوكرانيا.
ووفق بيان نشرته الصفحة الرسمية للسفارة، تشمل هذه الشحنة نحو أكثر من 90 طنًّا من الأسلحة الفتّاكة، بما في ذلك ذخيرة للمدافعين عن خط المواجهة الأوكراني. وقال مسؤولان أميركيان لصحيفة “Defense One”، إن من المتوقع أن تسلم الولايات المتحدة المزيد من المعدات الدفاعية إلى أوكرانيا “لمواجهة التصعيد الروسي السريع للتحركات العسكرية والدبلوماسية على طول الحدود الأوكرانية”.
يشار إلى أن المساعدات العسكرية الأمنية الأميركية لأوكرانيا ليست وليدة اللحظة، فقد بدأت منذ العام 2014، إلا أنَّ الولايات المتحدة حولت خلال العام الماضي ما قيمته 650 مليون دولار من الأسلحة والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا، وهو الأكبر خلال عام منذ بدء المساعدة.
هذا العام (2022)، تضمن قانون تفويض الدفاع الوطني المالي الذي وقّعه الرئيس الأميركي جو بايدن تقديم 300 مليون دولار لمبادرة المساعدة الأمنية لأوكرانيا، التي تدعم القوات المسلحة الأوكرانية، و4 مليارات دولار لمبادرة الدفاع الأوروبية، و150 مليون دولار للتعاون الأمني مع دول البلطيق.
لكن، رغم كلّ الجهود الدبلوماسية والمحاولات الحثيثة، يبدو أنّ لهجة الحرب لا تزال تطغى، وهو ما يعكس برأي كثيرين الجذور التاريخية للصراع بين روسيا وأوكرانيا، جذور تتفاوت خلفياتها بين السياسية والدينية.
عام 1991، انهار الاتحاد السوفياتي وتفككت جمهورياته التي بدأت في إعلان استقلالها، ومن ضمنها أوكرانيا. ظلت هذه الدول تدور في الفلك الروسي وتحديدًا أوكرانيا، التي كانت تمثل حالة خاصة للكرملين، إذ إنها تمثل عمقًا إستراتيجيًا مهمًا وحساسًا؛ فأوكرانيا وبيلاروسيا تقفان حاجزًا جغرافيًا يفصل روسيا عن الدول الأوروبية الكبرى ذات العضوية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تأسس عام 1949 لمواجهة أي تهديد من الاتحاد السوفياتي. كما تتشارك روسيا حدودًا مع أوكرانيا طولها أكثر من 1200 ميل.
وتتأكد أهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا بالنظر إلى أنّ عددًا كبيرًا من السكان هم من الروس، ويتركزون في شرق البلاد. كما أنّ نحو ثلث السكان في البلاد يتحدثون الروسية. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه كتب مقالًا عام 2021 أشار فيه إلى أن “الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين من نسل سلافي واحد”، وأنهم كانوا يتحدثون لغة واحدة هي الروسية القديمة.
ويضاف إلى ذلك أهمية موقع أوكرانيا الجغرافي لروسيا، اقتصاديًا وسياسيًا، إذ تمر عبر أراضيها خطوط الغاز الروسي الذي يمثل ثلث إمدادات أوروبا، كما أنّ أوكرانيا نفسها تمثل سوقًا كبيرًا للغاز الروسي. وكان بوتين قد صرح قبل فترات من الزمن أن “انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”.
“الثورة البرتقالية”
عانت أوكرانيا من الفقر والفساد، حيث كان النظام مواليًا للروس في ظل حكم رؤساء متعاقبين أمثال ليونيد كرافتشوك وليونيد كوتشما، حتى اندلعت الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004 التي أخرجت البلاد من مدار النفوذ الروسي.
في العام نفسه، أُعلن عن فوز فيكتور يانوكوفيتش، الموالي لموسكو، في الانتخابات الرئاسية الجديدة، وانتصاره على منافسه فيكتور يوشتشينكو. لكن أنصار منافسه اتهموا يانوكوفيتش بتزوير الانتخابات، ونزلوا إلى الشارع يرتدون اللون البرتقالي، وهو لون حملة يوشتشينكو، وهو اللون نفسه الذي اكتسبت الثورة اسمها منه.
لكن الثورة البرتقالية لم تكن فريدة من نوعها، فعام 2003 أطاحت “الثورة الوردية” بالنظام الموالي لموسكو في جورجيا. كما أطاحت ثورة “التوليب” في قرغيزيا بالنظام الموالي لروسيا أيضًا عام 2005. وبناء على هذه الأحداث، خرجت أوكرانيا وغيرها من جلباب النفوذ الروسي، لكن موسكو لم تقف مكتوفة الأيدي.
عام 2008، عُقدت قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بوخارست، وقدم حينها الحلف دعوة لأوكرانيا للانضمام إلى صفوفه، لكن روسيا أدانت واستنكرت، فخمد اللهيب حينها.
استفاق نفوذ الروس مرة أخرى عام 2010، حين عاد يانوكوفيتش إلى المشهد السياسي وتولى السلطة وعاد معه التوتر السياسي نهاية عام 2013 حين عطل الرئيس الموالي للكرملين اتفاقًا للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، بهدف إعادة تقوية العلاقات الاقتصادية مع روسيا، ما تسبب في اندلاع احتجاجات واسعة انتهت بهروب يانوكوفيتش بعد نحو 3 أشهر.
ولم تسمح موسكو في ذلك الوقت بهزيمة حليفها في كييف، فـ”زحفت” عسكريًا لبسط نفوذها شمال البحر الأسود، وجرى استفتاء في شبه جزيرة القرم على العودة الى الحضن الأم، ووفرت عودتها لروسيا ميزات اقتصادية وعسكرية مع سهولة وصول سفنها إلى البحر المتوسط.
بسط الانفصاليون المدعومون من روسيا سيطرتهم على مناطق شرقي أوكرانيا، لتندلع حرب أهلية في دونباس، انتهت بتوقيع اتفاقية مينسك عام 2015، التي تقضي بوقف إطلاق النار وإقامة منطقة عازلة وسحب الأسلحة الثقيلة. لكن مسرح الأحداث شهد أكثر الفصول اشتعالًا والتهابًا مع تصاعد الحديث عن اعتزام أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو. ومع نهاية عام 2021 حشد سيد الكرملين قواته على الحدود. وما كان همسًا بات صخبًا في الإعلام وكواليس السياسة: “روسيا قد تغزو شرق أوكرانيا”.
بدورها تنفي السلطات الروسية أنّ تكون نيتها غزو أوكرانيا بشكل كامل، لكنها طالبت بضمانات تؤكد أنّ الناتو لن يتوسع ليشمل أوكرانيا أو أيًا من دول الاتحاد السوفياتي السابقة.
وأشار وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا الى أن عدد القوات الروسية المحتشدة على الحدود الأوكرانية لا يزال “غير كافٍ” لشنّ هجوم واسع النطاق على بلاده.
اعتبر الكرملين أن فكرة فرض عقوبات على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي تحدّث عنها نظيره الأميركي جو بايدن “مدمّرة”. وحول ما إذا كان يعتزم فرض عقوبات على الرئيس الروسي شخصيًّا، ردّ الرئيس الأميركي جو بايدن بالقول “نعم”، ثمّ أضاف “يمكنني أن أتصوّر الأمر”. وأشار إلى أنه في حال “غزت” روسيا أوكرانيا “بالكامل” أو “حتى أقلّ من ذلك بكثير”، ستكون هناك “تداعيات هائلة” و”سيغيّر ذلك العالم”. إلا أن بايدن لم يحدّد طبيعة العقوبات المحتمل فرضها على بوتين.
محادثات دبلوماسية
وبعد سلسلة محادثات دبلوماسية في أوروبا الأسبوع الماضي ترمي إلى نزع فتيل الأزمة، عقد اجتماع للمستشارين الدبلوماسيين للرؤساء الروسي والأوكراني والفرنسي وللمستشار الألماني، تحت صيغة “النورماندي” التي تؤدي فيها باريس وبرلين دور الوسيط. والـ”نورماندي” هي قمة رباعية تضم روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، وتسعى إلى تسوية النزاع في أوكرانيا.
من جانبه، شدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته إلى ألمانيا على ضرورة إيجاد صيغة أوروبية جديدة للحوار مع موسكو، مؤكدًا على أن وحدة الموقف الأوروبي من أولويات سياسات بلاده. وعزا المستشار الألماني أولاف شولتس امتناع بلاده عن إرسال أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا أسوة بالجارة والحليفة فرنسا إلى أسباب تاريخية، مؤكدًا في الوقت ذاته على أن حماية أمن الدول وسيادتها من أولويات حلف الناتو، وأن برلين قدمت مساهمات كبيرة لدعم كييف خلال الفترة الماضية.
تأثير العقوبات على موسكو
رأى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن فرض عقوبات على روسيا الآن سيؤدي إلى فقدان الغرب القدرة على ردع أي عدوان روسي محتمل على أوكرانيا. وأضاف في مقابلة مع شبكة (سي إن إن) التلفزيونية، أنه إذا دخلت قوة روسية إضافية إلى أوكرانيا بصورة عدائية فإن هذا الفعل سيستدعي ردًا قويًا.
من جهته، أشار المحلل السياسي يفغيني شيستاكفي في مقال في صحيفة “فزغلياد” الروسية الى تفاقم الصراع على السلطة في أوكرانيا بوصفها مفتاحًا لنظام جديد في أوروبا. وفي الصدد، قال رئيس تحرير مجلة “روسيا في السياسة العالمية”، فيودور لوكيانوف، في قناته على Telegram، إن الصراع على السلطة الأوكرانية سوف يتفاقم، بما في ذلك بمشاركة خارجية فيه. وبحسبه، يمكن افتراض شيء واحد فقط، هو التالي: إذا كانت القضية الأوكرانية هي المفتاح في عملية إنشاء نظام جديد في أوروبا، “فإن الصراع الخارجي سيتحول حتمًا إلى صراع داخلي”. و”إذا كان حل المشكلة العام سوف يعتمد إلى حد ما على تصرفات كييف، وهذا ما سوف يحدث، لأنه يجب أن يتضمن حل مشكلة دونباس،”.
في الوقت الذي تتزايد فيه التطورات ، فالعداء والانقسام يذكي حربًا قذرة في أوكرانيا مع نشر قائمة تضم عددًا كبيرًا من العملاء المزعومين لموسكو. ونشرت صحيفة “التايمز” في تقرير كتبه كييف أنطوني عما يسمى “القائمة السوداء” والتي قال إنها ضمت الجواسيس والقساوسة والصحافيين والأبرياء والمذنبين، اعتبروا بأنهم موالون وعملاء لروسيا في قائمة على الإنترنت. وربما تورط بعض هؤلاء الذين وردت أسماؤهم في قائمة “مايراتفيرتيس” (صانع السلام) بأعمال شنيعة في منطقة الشرق من البلاد، ولكن آخرين لم يفعلوا شيئًا. ولم يرتكب آخرون أي شيء غير أنهم تسببوا بالضيق عندما تناولوا الحساسيات العامة أو السياسية أو أنهم استخدموا العبارات العامية “غير المناسبة”. وهذا لا يهم، فكل واحد والجميع تم الحكم عليهم من خلال لجنة سرية واتهموا بارتكاب “أعمال مقصودة ضد الأمن القومي الأوكراني”، وتم والحالة هذه نشر تفاصيلهم الشخصية إلى جانب الجرائم المفترض أنهم ارتكبوها.
ومن بين الأسماء التي وردت في القائمة المكونة من 187.000، نائب المدعي العام الأوكراني أوليسكي سيمونينكو ويتهم بأنه “بصم” على “اتهامات مفبركة” في قضية ضد الرئيس السابق بيترو بورشينكو، السياسي ورجل الأعمال الذي يعتبر من أشد منافسي الرئيس الحالي فولدمور زيلنسكي. وأكد مؤسس “مايراتيفريتس” جورج توكا أن “توقيع سيمونينكو على اتهام بورشينكو هو خيانة بحد ذاتها للبلد ويستحق وضع اسمه على القائمة لانتهاكه موقعه والقانون”. وينضم سيمونينكو إلى قائمة من العملاء المفترضين، فهي لا تضم مجرمي الحرب أو عملاء وكالة الاستخبارات الروسية (إف إس بي) ولكن المؤسس المشارك في فرقة “بينك فلويد” روجر ووترز( 76 عاما)، والذي اعتبر “تهديدًا للأمن القومي” في العام 2018 بعدما قال إن “روسيا لها حق في شبه جزيرة القرم أكثر من أوكرانيا”. وتم وضع سفيتلانا ألكيسفيتش، البيلاروسية الكاتبة والناقدة للكرملين الحائزة على جائزة نوبل في القائمة “للتحريض على الانقسام الإثني”، وذلك لأنها ذكرت مرة أن بعض الأوكرانيين ساعدوا النازية على قتل اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية. وتم وضع 500 من موظفي الخدمة المدنية، وهم من الإثنية الهنغارية الذين منحوا الجنسية الأوكرانية، على القائمة. ويمنع الدستور الأوكراني الجنسية المزدوجة، وشعار موقع “صانع السلام” هو برو بونو بابليكو (لخير الصالح العام)، ووصفهم الموقع بـ “الخونة” و”الانفصاليين”. وظهر الموقع في عام 2014 بعد لقاء بين توكا وعضو سابق في الاستخبارات الأوكرانية (إس بي يو) والذي يدير الموقع ويعرف باسم مستعار وهو “رومان سيتزسيف”. ونفى توكا تلقيه تمويلًا من الدولة لإدارة الموقع أو أن المخابرات هي التي توجه عمله، مؤكدًا أن الهدف من إنشائه هو “تنظيف” أوكرانيا من المشاعر والنشاطات الموالية لروسيا.
ومع أن الموقع يحظى بدعم واسع من أنطون هيراشيشنكو، أحد المؤسسين له والذي يعمل حاليًا مستشارا لوزارة الشؤون الداخلية في كييف، إلا أن هوية العاملين فيه سرية. وتقوم لجنة سرية من الإداريين فيه بالنظر في المعلومات المقدمة عن المتهمين، وتجمع عادة من مصادر استخباراتية علنية ومواقع التواصل الاجتماعي. وتعريف “مشاعر موالية لروسيا” هو شامل ويضم الأسماء والتفاصيل الشخصية وبيانات الجوازات لـ 4506 صحافيين غربيين وأوكرانيين وروس ممن حصلوا على تصريح عمل في مناطق الانفصاليين. وهي خطوة ضرورية للعمل في المناطق التي تسيطر عليها القوات الموالية لروسيا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.