مرقد عنزة | لبنان بين يسار “مزولع” ويسار “دغري”

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

منذ مدة التقيت بصديق طفولتي ورفيق عمري اليساري بعد غيبة طويلة بسبب انشغالاتنا وسفره الدائم وراء لقمة العيش.

بعد الأحضان وعدم القبلات -المحجوبة قسرًا بكمامتي الكورونا-  جلسنا نتسقط الأخبار ونتبادل حديث الطفولة والشباب والرجولة والكهولة وحاليًا الشيخوخة. ومنها  أخبار شلة الطفولة التي جمعتنا في كل شيء مع ستة أفراد آخرين منذ عرف بعضنا بعضًا في عمر السابعة حتى بلغنا مبلغ الشباب في سن السابعة عشرة.

 أخبرته وأخبرني عن معلوماتنا حول أفراد الشلة التي تبعثرت أخبارها بين البقاع والشمال وحاصبيا والجنوب وفرن الشباك وكندا، حيث سعى كل منا لبناء “مرقد عنزته” الذي يتلاءم مع أحواله المادية وإمكانياته، فتبين أن صاحبنا “الأسمراني”  -والذي هاجر إلى كندا- هو الوحيد الذي  أصبح من فئة فوق الميسورين “بشحطة”، أما الباقون فتراوحت أوضاعهم بين حدود اليسر وفوق حدود الفقر “بشحطة أو شحطتين”.

أحب أن أنوه هنا إلى أن صديقي الذي لم يكن بين معترضتين من ديني وطائفتي ومذهبي كان كأفراد الشلة  المتوزعي المشارب الدينية الفكرية والايديولوجية، والذين لا زالوا حتى اليوم على قلب رجل واحد يعشقون القراءة والمناظرات ويتبادلون الكتب ويقدسون الوقت وأغلبهم مارس الصحافة الأدبية أو الرياضية أو السياسية،  فضلًا عن أنهم اجتمعوا على عشق متيمتهم جميلة الجميلات فلسطين، ويتمنون القتل في سبيل تحريرها،  ويكرهون الصهاينة، ويشمئزون من الفساد بكل أنواعه، ويحلمون بغد أفضل  للأمة وللبلد كلّ حسب اعتقاده.

 والأهم من ذلك كله وجود قاسم مشترك جمع الكل وهو اللسان المهذب والطيبة وأخلاق أبناء العائلات المحترمة التي تمثل 99 % من عائلات لبنان، وكان يمكنك منذ 25 عامًا، ويمكنك اليوم بالذات، أن تطرح أعقد المسائل الخلافية مع أفراد هذه الشلة المثقفة (التي تمثل لبنان بتنوعها وأغلبها ممن نال الليسانس وما فوق أيام عزه في الثمانينيات) ويتطور ويحتدم النقاش، إلا أنه عادة ما كان ينتهي إما باقتناع البعض أو الكل  أو بعدم اقتناع الأغلبية. وكنا عادة نختم جلسات النقاش هذه بجلسة تنكيت وفكاهة كانت تزيل أي شوائب قد تؤثر في الصداقة الأخوية التي كانت وما زالت تجمع بيننا نحن الثمانية.

المهم، صديقي الذي كنت أجالسه عمل في مطلع الثمانينيات ضمن الخلية التي عملت مع المناضلة الأسيرة المحررة “سهى بشارة”. وفهمت من حديثه أنه لا زال يشارك بكل نشاطات الحزب الشيوعي تقريبًا، خاصة خلال الحراك الأخير عام 2019 . إلا أنني لاحظت في نهاية حديثه وجعًا كبيرًا عندما عبّر لي للمرة الأولى منذ عرفته عن قرفه من اليسار اللبناني (دون أن ينتقد الحزب الشيوعي الذي عاش وترعرع فيه لأسبابه الخاصة التي لم أشأ أن أحرجه بكشفها)، وأحسست من تهدج صوته أن مرارة تعتريه، بل وتتملك كيانه من شيء ما في اليسار اللبناني، فحاولت بطريقتنا القديمة أيام المراهقة والشباب أن أخفف عنه بسماعي أوجاعه ومحاولة التخفيف عنه.

صرح صاحبي بحرقة  أن اليسار اختُرق وأُفسد عندما استقطب رأس المال اللبناني -الخليجي- لحاجته لإحاطة نفسه بما يسمونها “بالانتلجنسيا”، أي  بفصيلة شاذة من هذا اليسار، وهي فصيلة المثقفين الطفيليين الذين يتقنون فن التلون، والذين، كما اعترف لي صاحبي بألم، لم يقاتلوا ولم يشاركوا مع المقاومة الوطنية اللبنانية -ومجموعات الحزب الشيوعي-  في عمليات التصدي للعدو خلال وبعد اجتياح العام 1982 ، وصار الوطن عندهم من ذلك الوقت عبارة عن حقيبة سفر، فوقعت هذه المسؤولية، أي مسؤولية المقاومة، على عاتق مجموعة من الثوريين الذين استشهد وأسر وأعيق كثير منهم على مذبح الوطن، فيما كانت فصيلة الطفيليين تقطف المسؤوليات والثروات وتتسيد الساحات والحضور في المنابر وتتنعم في أبراجها العاجية منكبة على التنظير لسلسلة من الأفكار التي سمّمت ثقافة الشعب اللبناني الوطنية.

قاطعته ضاحكًا: بدءًا من فكرة “العين التي لا تقاوم المخر”  مرورًا بـفكرة “التحرير الديبلوماسي أفضل من التحرير العسكري المكلف. فعاد وقاطعني هو أيضًا بابتسامة قائلًا: وصولًا إلى صياغة حملات “التنقير” على المقاومة الإسلامية، بدءًا من مصطلح “المقاومة الاسلامية” التي كانوا يسمونها في مجالسهم الخاصة والداخلية “بالقوى الظلامية” مرورًا بالاستهزاء بالتزام شبابها الديني شكلًا وحياة وممارسة يومية، وصولًا إلى التشكيك بوطنية وأهداف قيادتها ووصمها بالعمل لأهداف إيرانية.

كنت أتصفح وجه صاحبي اليساري أبًا عن جد وهو يحكي بقسمات متألمة عن بعض أو نزر من آفات اليسار “الانتهازي الطفيلي”  اللبناني، فأحببت أن أخفف عنه مؤكدًا أن اليسار الشريف الذي يشبهه  لا زال حيًا فيه وبأمثاله وعليهم أن يتكتلوا وينظموا صفوهم  مجددًا ويطردوا “شلة الانتهازيين والطفيليين” من الهيكل. وببعض الملاطفة ختامًا، وفي معرض التفكه، أوردت له مثلًا عن التشابه الكبير بين حاجز حاروف المشهور(*)  وبين “جماعة اليسار الملوث” الذين يميلون مع كل ريح وينعقون مع كل ناعق ويغيرون وجهة اللسان “لأنهم لم يحملوا بارودة”  مع أي معلم وكما يريد المعلم.

يسارك يا صديقي هو اليسار الصح، يعني “اليسار الدغري” أما يسارهم  فهو آفة  اليسار، يعني  “اليسار المزولع”،  ومزولع باللهجة العاملية يا صديقي  يعني “الملون بتقطّع”، أما في الفصحى فمعنى (مزولع ) هو ” مستلب الشيء في السر وبالخديعة”.

فخليك دغري وبلا ما تصير مزولع يرتدي قناعًا ثم يحشو ما بين وجهه والقناع ليلائم ذلك.

(*) حاجز مدخل بلدة “حاروف” الجنوبية من جهة مدخل تول. فقد كان موقع هذا الحاجز استراتيجيًا وحساسًا لتحكّمه بثلاث طرق رئيسية إحداها جنوبية تمر بحاروف وجبشيت وعبا والثانية غربية تمر بالدوير وأنصار وصولًا إلى أبي الأسود فصور أو صيدا والثالثة شرقية تمر عبر مرج حاروف وزبدين لتصل إلى مدينة النبطية.

هذا الحاجز أنشأه الاحتلال الفرنسي في أواخر أيام احتلاله، فكان يقيم فيه حواجز طيارة بين الحين والآخر، وبعد تجرير البلد من الاحتلال الفرنسي تسلمته القوى الأمنية اللبنانية وكانت تستخدمه بين الحين والآخر. وجاءت أحداث الحرب الأهلية لتستخدمه حركة فتح ثم سلمته لجيش لبنان العربي ثم استخدمته قوات الردع العربية بعد الاجتياح الصهيوني عام 1982 . ثم نصبت وحدات من جيش العدو حاجزًا عليه، ثم سلمته لقوات الحرس الوطني العميلة التي سلمته لقوات العميل سعد حداد، قبل أن ينسحب الصهاينة انسحابهم الثاني الكبير من المنطقة أواخر العام 1985 فتسلمته قوة من الجيش الوطني الذي كان منشقًا حتى العام 1990. ومنذ ذلك الحين عاد لكنف الدولة اللبنانية وتغيرت معالم المنطقة، فلم يعد يصلح المكان لينصب عليه أي حاجز. 

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد